الاثنين، 10 يناير 2011

الحرية في دلالاتها المختلفة

التونسي الحبيب الجنحاني يبحث إشكاليتها في السياق العربي والإسلامي

آمال موسى

يعد مفهوم الحرية اليوم من أكثر المفاهيم تواترا في الخطابين السياسي والإعلامي العربي. والغالب في عملية التواتر الكثيفة هذه، طغيان المدلول الليبرالي لمفهوم الحرية خاصة أن سياق الاستعمال الرئيس هو سياسي حقوقي بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى أن جوهر مشاريع الإصلاح المطلقة اليوم في البلدان العربية يتخذ من النموذج الغربي الليبرالي قبلة له، الشيء الذي يجعل المدلول الليبرالي وحده اللصيق بمفهوم الحرية. ولكن كما قال مونتيسكيو في كتابه روح القوانين «إنه ليس هناك لفظ تلقى من الدلالات المختلفة أكثر مما تلقاه لفظ الحرية».

الباحث التونسي الحبيب الجنحاني، اختار في أبحاثه الأخيرة الحفر في مفهوم الحرية والتأريخ له من خلال السياق العربي الإسلامي، متوقفا عن مختلف التقاطعات المصاحبة لمفهوم الحرية في الفضاء العربي تحديدا.

ويقر الجنحاني في مستهل بحثه في هذه الإشكالية بتأثر مفهوم الحرية في التاريخ العربي الإسلامي بأمرين أساسيين الأول:

» بالمذاهب الدينية، فالنصوص القديمة لم تتحدث عن الحرية بالمعنى السياسي للمفهوم، وإنما أسهبت الحديث عن الاختيار مقابل الجبر، وجاء الحديث عن الحرية باعتبارها نقيضا للعبودية، ولكن ذلك لا يعني في نظرنا غياب الشعور بالحرية في مقاومة مظاهر الظلم والاستبداد، كما عبرت عن ذلك الانتفاضات الاجتماعية التي تزعمتها طبقة عامة في تاريخ المدينة العربية الإسلامية مشرقا ومغربا، فهي انتفاضات ذات محتوى اقتصادي اجتماعي، يعبر عن شكل جنيني من أشكال الصراع الطبقي، ولكنه اصطبغ بالصبغة الدينية المذهبية وهي صبغة ذلك العصر.

في حين تأثر مفهوم الحرية لدينا من جهة ثانية بظاهرة العبودية، وهي ظاهرة راسخة في الحضارات القديمة في المجتمع العربي قبل الإسلام. وقد سعت الدعوة الجديدة أن تحد من الظاهرة، ولكن لم يكن ممكنا تاريخيا منعها، والقضاء عليها، وبخاصة بعد التطور العمراني الذي عرفه المجتمع العربي الإسلامي في القرون الستة الأولى للهجرة (السابع ـ الثاني عشر)، وظهور المدن العربية العملاقة، وما كان وراء ذلك من دينامية اقتصادية واجتماعية جعلت المجتمع العربي الإسلامي، يمثل يومئذ الدورة الاقتصادية العالمية.

وركز الباحث على الجوانب التي لها علاقة بالسياسة وشؤون الحكم ومرحلة النهضة الحديثة. لذلك كان الانطلاق من مسألة تدشين معاوية بن أبي سفيان مقولة الإيديولوجيا الجبرية الأموية، إذ يكرر في خطابه أن الماضي خير من الحاضر والحاضر خير من المستقبل.

وحاولت الإيديولوجيا الجبرية الأموية توظيف النص الديني توظيفا سياسيا مكشوفا لتجريد قدرته على الاختيار وعلى التمييز بين القبيح والحسن العقليين، وفرض الطاعة لأصحاب السلطان. ولم يقتصر التنظير للإيديولوجيا الجبرية على أصحاب السلطة بل جند له خطباء المساجد والشعراء والقصاص. وبلغ الأمر إلى وضع أحاديث على ألسنة أساطين رواة الحديث أمثال أبي هريرة والسيدة عائشة وابن عمر لفرض الطاعة وإعفاء الخلفاء من العقاب يوم القيامة، ومنها نص يقول: «إن من قام بالخلافة ثلاثة أيام لم يدخل النار». معلقاً على هيمنة الإيديولوجيا الجبرية يقول الحبيب الجنحاني:

«تتضح العلاقة الوطيدة من هذه الأمثلة القليلة بين الإيديولوجيا الجبرية وإشكالية الحرية في التاريخ العربي، فقد سعى المنظرون إلى سلب الإنسان من كل قدرة على الاختيار، وأنه بالتالي مسير في كل شيء، ولا بد أن يطيع كل صاحب سلطان ذلك أن مشيئته هي من مشيئة الله. طبعا لم يؤمن كثير من المسلمين بمقولات أنصار الجبرية وحججهم، انبرت تيارات مختلفة للرد عليهم، مؤكدة أن الإنسان مخير ليس مسيرا، وأنه بالتالي مسؤول عن أفعاله، وتفطنوا إلى أن الهدف الأساسي من التنظير للجبرية اكساب الشرعية، وهكذا اندلعت بين أنصار التيارين حرب سياسية وظف فيها النص الديني إلى حد بعيد، فقد نسبت أحاديث موضوعة إلى كبار الرواة تقول عكس الأحاديث المكرسة للجبرية».

من جهة أخرى، توقف الجنحاني عند أبعاد أخرى للحرية من منظور الفلاسفة وعلماء الكلام والمتصوفة وأيضا ابن رشد والفارابي اللذان تفطنا إلى البعد المدني السياسي لمفهوم الحرية. وللإلمام بشكل مختزل بهذه الأبعاد، أشار الجنحاني إلى إسهام التيار التنويري المعتزلي في إعطاء بعد سياسي لمفهوم الحرية بنشره مقولة الاختيار بين الناس، وإقامة الحجة من خلال النص الديني على أن الإنسان مخير، وليس مسيرا، وهو بالتالي مسؤول عن أفعاله، وفندوا بذلك مقولات الإيديولوجيا الجبرية التي سعت منذ البداية، ومن خلال تأويل النصوص الدينية الى تأليه صاحب السلطان، ونفي الخطأ عنه. وذهب إلى القول إن هذا الإسهام يعد ابرز إنجاز أنجزته مدرسة الاعتزال في تاريخ الفكر الديني السياسي العربي، بالإضافة إلى غياب الجدل بعد بروز سلطة الجند، بحيث أصبحت الفرق الانكشارية هي دعامة السلطة. وقد استفحل أمر هذه الظاهرة مع مجيء السلاجقة، واستمرت مع العثمانيين، ورافقتها ظاهرتان جديدتان:

ـ طغيان ظاهرة الإقطاع العسكري في المجال الاقتصادي.

ـ التحام مدرسة النقل: الاشعرية مع السلطة السياسية ذات الطابع العسكري.

التنويريون العرب

* في الجزء الثاني من البحث في مفهوم الحرية في التاريخ العربي، توصل الباحث إلى رصد تراكمات المفهوم إلى حدود العصر الحديث، مبرزا أن مفهوم الحرية بمعناه السياسي والذي استعمل نقيضا للحكم المطلق الاستبدادي لم تتضح سماته، ولم يستعمله رواد حركات التنوير العربي نصلا ناجعا لمقاومة النظم الاستبدادية إلا بداية من النصف الأول للقرن التاسع عشر. ولم يتناول التنويريون العرب قضية الحرية في بداية الأمر بصفة مستقلة، وإنما أسهبوا الحديث في وصفها، وكيف أسهمت في تقدم البلدان الأوروبية فيما سجلوا في رحلاتهم إلى أوروبا محاولين في بعض الحالات أن يجدوا له مقابلا في تراث الفكر السياسي العربي. ويلمس الدارس لأدبيات الفكر التنويري العربي الحديث في سير تأثيرهم على قيم حداثة عصر التنوير ومبادئ الثورة الفرنسية في المفاهيم السياسية التي استعملها رواد النهضة العربية مثل الحرية والحريات العامة والعدل السياسي والحقوق الطبيعية والتمدن والنظم الدستورية، والدولة المدنية وغيرها من المفاهيم. وقد أدرك الكثير منهم أن حداثة عصر الأنوار قد أصبحت حداثة كونية.

فما هي يا ترى ابرز سمات هذه الحداثة التي حاول الرواد اقتفاء آثارها؟

يلخص صاحب الكتاب الحبيب الجنحاني ذلك في أربع مقولات :

ـ مقولة «لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه».

ـ المقولة الثانية: تدمج العقل في ثالوث يقوم على العقلانية والحرية والعدل السياسي الاجتماعي.

ـ المقولة الثالثة: تحرير التاريخ والإنسان من أسطورة الحتمية.

ـ المقولة الرابعة: تتعلق بشرعية السلطة، فلم تنشأ حرمة الأنوار باعتبارها تيارا فلسفيا أو فكريا مجردا، بل ولدت وشقت طريقها في هضم صراع مع الواقع المعقد، وهو واقع سيطرت عليه قوتان رجعيتان: قوة الكنهوت الكنيسي وقوة النظم السياسية الاستبدادية، فليس من الصدفة إذن أن يكون أخطر سؤال طرحه مفكرو عصر الأنوار وابلغه أثرا في الأحداث التاريخية التي عرفها القرنان الثامن عشر والتاسع عشر هو: من أين تستمد السلطة السياسية شرعيتها للتحكم في رقاب الناس، ومصالح المجتمع؟

ويؤكد الجنحاني أن هذه المقولات، قد انعكست بدرجة متفاوتة في كتابات المفكرين العرب ابتداء من الطهطاوي إلى فرح أنطون وأديب اسحق وسلامة موسى وأحمد لطفي السيد وطه حسين. فالحداثة التي تأثر بها التنويريون هي حداثة عصر الأنوار التي دشنت عصر الإنسان وحررت إرادته ليعي أنه صانع تاريخه، وبالتالي فهو مسؤول عن اختياره، وهي التي أزالت طابع القداسة عن الحكم بعد أن افترى زبانيته على الشعوب قرونا طويلة، زاعمين أنهم يستمدونها من السماء عبرالكنهوت. فالسلطة شأن إنساني دنيوي لا علاقة له بالسماء والإنسان وحده وعبر نضاله الطويل له الحق في اختيار أفضل أنماط الحكم لتسيير شؤونه، وله وحده الحق في تغييرها، إذا لم تستجب لمصالحه والحداثة المطلة من عباءة فلسفة الأنوار تعني العلاقة الوثيقة التي لا انفصال لها بين مفهومين : العقلانية والتحرر، فالعقلانية لا معنى لها دون أن تكون في خدمة التحرر، ويضحى التحرر وما يقارن به من حريات، وحقوق وديمقراطية بدون عقلانية مستحيلا.


* الكتاب: دراسات في الفكر والسياسة

* المؤلف: الحبيب الجنحاني

ليست هناك تعليقات: