الجمعة، 28 يناير 2011

المنهج الفلسفى فى قراءة الأعمال الأدبية

المنهج الفلسفى فى قراءة الأعمال الأدبية
تطبيق على رواية العجوز والبحر لهمينجواى

أ .د. حامد طاهر(*)

يتعرض الإنتاج الأدبى فى العالم العربى لحالة من الإهمال ، ساعد عليها ما وصل إليه النقد الأدبى من فوضى فى تطبيقه ، وسوء استخدام لمناهجه ، وتجاهل لقيمه وتقاليده
وقد سبق لى أن نبهت إلى أن أوى درجات النقد الأدبى تتمثل فى "المتابعة" ، وأقصد بها يقظة النقاد فى رصد كل م يصدره الأدباء من أعمال ، وتقديم تعريف أوى بها ، وبيان عام بقيمتها ، حتى يساعدوا الفراء فى التعرف على ما يقدم إليهم ، وتمييز الأعمال الجيدة من الرديئة.
ومن الملاحظ أنه على مدى ربع القرن الأخير ، سيطر المنهج البنيوى وحده على الساحه النقدية ، وقد أصبح من الممكن الآن أن نحكم عليه بالفشل ، نتيجة لعاملين أساسيين : الأول يرجع إلى قصور هذا المنهج (ذاته) فى أن ينهض (وحده) بمهمة النقد المتكامل للنص الأدبى ، وأذكر أننى كنت عائدا فى مطلع الثمانينات من يعثتى فى فرنسا ، ودهشت لإقبال النقاد لدينا على تبنى هذا المنهج ، والترويج له فى الوقت الذى لم تعره أوربا سوى اهتمام هامشى ومؤقت ، وكان أهم نقد وجه إليه هناك ، أنه يؤدى إلى تفريغ الأعمال الأدبية من محتواها الإنسانى ، وتجريدها من مضمونها الحى ، نتيجة تركيزة الشديد على البنية والشكل.
أما العامل الثانى فيرجع إلى سوء ترجمة مصطلحات هذا المنهج ، وعدم تعريبها بصورة واضحة ، كان من الممكن أن تساعد على حسن استخدامه ، وبالتالى على إفادة الأدباء والقراء من جانبه الإيجابى ، والملاحظ أننا أصبحنا نجد من هب ودب يكتب "نقدا بنيويا" ، ويتحدث عن "الإسلوبية" مرددًا مقولات رولان بيرت وميشيل فوكول ، ودى سوسير الخ ، ووصل الأمر إلى حد أن سئل نجيب محفوظ عن رأيه فى نقد بنيوى كتب عن إحدى رواياته ، فقال الرجل ببساطه (واستهزاء طبعا) : أنا لم أفهم منه شيئا !
إننى أسجل هنا ظاهرة انفصال النقاد العرب المعاصرين عن الأعمال الأدبية ، وبالتالى ابتعادهم عن جمهور الفراء وقد انتهى الحال إلى إنهم أصبحوا يقرأون لأنفسهم وحدهم ، وانغلقت عليهم دائرة كان من الممكن أن تتسع لتشمل الوسط الأدبى كله
إن مناهج النقد الأدبى معروفة ، ومستقرة تقريبًا ولكل منها إيجابياته وسلبياته وعلى يد كل ناقد يمكن لأى منهج نقدى أن يثرى ويتطور وسوف أعرض فيما يلى منهجًا فلسفيا لقراءة الأعمال الأدبية ونقدها وسبب اهتمامى به يعود فى المقام الأول إلى دراستى للفلسفة ، ثم متابعتى للأعمال الأدبية العالمية "على قدر الطاقة البشرية" ، ومنها خرجت بنتيجة مؤداها : أن أى عمل أدبى ، اكتسب قيمة إنسانية ، وتم الاعتراف به فى أكثر من لغة إنما يقوم على فكرة فلسفية محورية ، أو عدة أفكار ، كان الأديب على وعى كامل بها ، ويريد توصيلها للناس بصورة أو بأخرى
لذلك فإننا نظلم مثل هذه الأعمال الأدبية كثيرًا حين نجردها من هذا المضمون الفلسفى الإنسانى ، ونقتصر – كما هو الحال فى الموجة الأخيرة للنقد البنيوى – على تحليل أسلوبها ، وتركيب عناصرها الفنية ، إن الأدب فى جوهره عبارة عن رسالة ومن غير المعقول أن نجرد الرسالة من محتواها ، وأن نقصر إعجابنا بها على شكل لظرف ، وطابع البريد ، ونوعية الورق ، ومستوى الخط !!
والمنهج الفلسفى الذى أدعو هنا إليه إنما هو نتيجة رحلة طويلة من معايشة أبرز الأعمال العالمية أمثال كليلة ودمنة ، والإلياذة، وألف ليلة وليلة ، ورسالة الغفران ، ومنطق الطير ، ومسرحيات شكسبير ، وكوميديا دانتى ، وبؤساء هيجو ، والحرب والسلام لتولستوى ، والعجوز والبحر لهيمنجواى ، بل أن الأعمال الأدبية التى كسرت تقاليد الكلاسيكية تحتوى هى الأخرى على مضمون فلسفة واضح مثل عوليس جيمس جويس ، والخرتيت ليونسكو ، وفى انتظار جودو لبيكيت ، والمسخ لكافكا.
ولا تخرج الأعمال الأدبية العربية عن هذا "القانون" ويكفى أن يعاد النظر من جديد فى الأدب العربى حتى يرد الاعتبار لطرفة بن العبد ، والمتبنى ، والمعرى ، وابن عربى ، ويقيم بصورة أفضل فى العصر الحديث كل من شوقى ، وإيليا أبو ماضى ، وجبران ، كما تعاد قراءة كل من نجيب محفوظ ، ويحيى حقى ، ويوسف إدريس قراءة فلسفية.
وإذا سأل سائل : وما الجديد فى هذا المنهج ؟ أجيب بأنه يبرز مضمون العمل الأدبى مركزًا على جانب الإنسانى الذى يتصل بالحقائق والتجارب التى يمر بها الإنسان فى كل زمان ومكان وهو من هذه الزاوية يقوم جسور اتصال بين آداب العالم المتنوعة ، ومع ومع تركيزه على الجوانب الفلسفية فى العمل الأدبى فإنه يمس جوهر ما فى الإنسان من قيم وغرائز قد تختلف من حيث الظاهر تبعًا لاختلاف الثقافات ، ولكنها تتحد من حيث الواقع والحقيقة ، إن هذا المنهج لا يساعد الأدب المحلى فحسب لكى يخرج إلى نطاق من العالمية ، وإنما يرفع قامته من الأرض إلى السماء ، ويعطيه بعدًا ساميًا ، ويجعل منه رسالة موجهة للإنسان فى كل زمان ومكان
المنهج الفلسفة فى قراءة الأعمال الأدبية :
يقوم المنهج على عدة أسس واعتبارات أهمها :
1- أن الأعمال الأدبية تعد من أسمى مظاهر النشاط الإنسانى ، الذى تشترك فيه طاقات الإنسان العقلية ، والخيالية ، والوجدانية ، متفاعلة فى ذلك مع البيئة المحيطة به : الناس والأشياء
2- لا يدعى المنهج أنه مذهب نقدى متكامل للأدب ، وإنما هو بكل بساطة محاولة تساعد على إضفاء طابع فلسفى ذى بعد إنسانى على الأعمال الأدبية
3- لا يسعى المنهج فرض وجهة نظر فلسفية من الخارج على العمل الأدبى ، وإنما يهتم بإبراز الأفكار والنظرات الفلسفية الموجودة فيه بالفعل
4- لا يدعى المنهج أنه هو المنهج الوحيد ، أو الأفضل لقراءة العمل الأدبى ، وإنما هو مجرد منهج يمكن أن يضيف شيئا ذا قيمة للمناهج الأخرى التى تقرأ أو تدرس الأعمال الأدبية ، ومن أهمها : المنهج اللغوى ، والمنهج البنيوى ، والمنهج الجمالى ، والمنهج السيكولوجى، والمنهج الاجتماعى ، والمنهج المقارن الخ
5- يتسع المنهج لاستيعاب كل المحاولات التى يقوم بها من يطبقونه على تفسير عمل أدبى واحد ، انطلاقًا من أن لكل قارئ عينه الخاصة به ، ولكل عمل أدبى زواياه المختلفة ، وعطاءاته المتعددة
خطوات المنهج :
1- تلخيص العمل الأدبى حتى يمكن الإحاطة بموضوعة الرئيسى ، وفكرته المحورية
2- تحديد القضايا الفكرية التى يثيرها العمل الأدبى
3- تحليل هذه القضايا من وجهة نظر فلسفية ، مع عدم إغفال طريقة التعبير عنها (وصف من الخارج ، تحليل من الداخل ، مذكرات على لسان الكاتب ، حوار ، بناء درامى ، حسم تساؤل ، تردد ، توقف الخ)
4- بيان القيمة الفلسفية والإنسانية التى يدعو إليها العمل الأدبى
تطبيق المنهج :
ما أسهل الحديث عن المناهج ، لكل ما أصعب تطبيقها وهذا يرجع أساسًا إلى أن العمل الحقيقى للناقد إنما يتمثل فى الممارسة الفعلية لمقاييس النقد على النص الأدبى ، وليست المقاييس هنا صارمة ، وإنما هى مجرد أدوات يمكن تطويعها وتطويرها من خلال التفاعل الحميم الناتج عن معايشة النص الأدبى ، بدءًا من القراءة ، وتكرار القراءة ، ثم من التحليل الدقيق للجزئيات ، ورصد الظواهر المشتركة والأفكار المستمرة وهنا قد يتوقف الناقد عند لقطة أو عبارة ، أو مقطع تكون له دلالة خاصة ومن المعروف أنه توجد فى كل عمل أدبى معالم ظاهرة أو خفية هى التى تحدد أهم خصائصه، تمامًا مثلما توجد فى شخصية كل انسان سمات معينة هى التى تحدد طبيعته ، وغالبا ما يتفاوت النقاد ، فيما بينهم فى اكتشاف تلك المعالم ، كما أنهم يتفاوتون فى تحليلها ، واستخلاص النتائج منها.
وليس الأمر بعيدًا عن مجال العلم فالأطباء يتفاوتون فى قراءة الأشعة ، كما أنهم يختلفون أحيانا فى دلالة التحاليل الطبية ولاشك أن أهم أسباب هذا التفاوت ترجع – فى مجال النقد – إلى ثقافة الناقد ، وقدراته على الرصد والتحليل والاستنتاج ، وقبل هذا وذاك إخلاص الناقد فى أداء وظيفته التى تقترب من وظيفة القاضى النزيه ، والحكم العدل.
نموذج تطبيقى :
رواية العجوز والبحر لهيمنجواى([1]) :
لم يكن اختيارى لهذه الرواية مصادفة وإنما تم على أساس ما سبق أن ذكرته من أن كل عمل أدبى ، وصل إلى العالمية ، يحمل فى ثناياه فكرة أو عدة أفكار فلسفية ذات طابع إنسانى عام ومن ناحية أخرى ، فإن رواية (العجوز والبحر) ليست رواية طويلة ، أو مركبة ، أو ذات أجزاء متعددة مثل سباعية مارسيل بروست ، أو ثلاثية نجيب محفوظ ، وإنما هى مجرد رواية (قصيرة – طويلة) إن صح التعبير وهى تصلح نموذجًا جيدًا يمكن أن نطبق عليها منهج القراءة الفلسفية بسهولة ، لأن غرضنا من هذا المقال هو أن نوضح معالم المنهج ، تاركين تطبيقاته التفصيلية إلى من يقتنع به من النقاد المتخصصين.
ملخص الرواية :
يحكى أن صيادًا عجوزًا اسمه سانتياجو ظل ما يقرب من ثلاثة شهور دون أن نهايتها أن ينقلاه إلى قارب صيد آخر ، بعد أن تأكد لهما أن العجوز منحوس الحظ لكن العجوز صمم على أن يخرج هذه المرة من خليج ستريم فى رحلة بعيدة ، داخل المحيط الأطلنطى ، على أمل أن يعثر على صيد ثمن وبعد إعداد جيد ، تميز بالجيزة ، وفترة انتظار مرهقة غلب عليها الإصرار والتحدى ، علقت بحباله سمكة ضخمة ، اضطرته – على مدى يومين كاملين – أن يترك نفسه وقاربه لجذبها القوى والثابت ثم بدأت تظهر على السطح ، وعندئذ نشب صراع رهيب بينها وبين الصياد ، حتى تمكن من قتلها وبسبب ضخامتها اكتفى بربطها إلى جانب القارب وفى أثناء العودة إلى الشاطئ مترعا بلذة النصر ، ظهرت الحتيان التى أغرتها رائحة الدم النازف من السمكة وعندما أخذت تنهش منها ، نشبت معركة أخرى أكثر شراسة تكسرت فيها كل أسلحة العجوز ، ونفدت قواه ، فتوقف عن الصراع ملقيا بهيكله المنهك فى قاع القارب ، وتاركًا ما تبقى من السمكة لهجمات الحيتان العنيدة ، وبدفع الموج وحده ، وصل العجوز إلى الشاطئ غير قادر على شىء ولم يكد يدخل كوخه العتيق ، حتى سقط على الأرض ، مثخنا بالجراح ، ومستغرقًا فى نوم عميق.
مع خيوط الصباح الأولى ، عرف كل من بالشاطئ أن العجوز قد اصطاد أكبر سمكة تمكن منها صياد على الإطلاق وعندما أسرع الفتى إلى الكهف ، وجد العجوز فى حالة إنهاك كامل ، إلى حد أنه لم يهتم بما أخذ يردده عن دهشة الصيادين من حجم الهيكل العظمى لسمكة ، ثم ما لبث أن استغرق فى نوم عميق ، رأى فيه نفس الحلم الذى كان يراه غالبًا : مجموعة من الأسود تجرى فى المساء على شواطئ إفريقية
الذى ينطبع فى ذهن القارئ بعد الانتهاء من الرواية :
أ- أن الإنسان يظل يصارع بشراسة من أجل الوصول إلى هدف ، أو تحقيق ثروة ، وعندما يحصل عليها إذا بعوامل الفناء تبدأ فى انتزاعها منه إلى حد أنه لا يستطيع أن يظهر أدنى مقاومة وهى تنسل من بين يديه
ب- أن إرادة الإنسان يمكنها أن تتغلب على مظاهر الطبيعة مهما كان جبروتها وسطوتها وأنه بالعقل والخبرة يمكنه أن يظل متماسكًا فى أقسى الظروف
ج-أن الرصيد النفسى لدى كل فرد منا قادر عند الضرورة على أن يمد الإرادة بما يقويها ، ويبقيها صامدة ومتماسكة
د- أن الإنسان عندما يضع لنفسه هدفًا محددًا فإنه يمكنه تحقيقه – مهما كان هذا الهدف بعيدًا أو حتى مستحيلا – لكن ذلك مرتبط بعدة عوامل لابد من توافرها لتحقيق الهدف : (التحدى والإصدار ، التزود بالخبرة ، التخطيط وتوافر الأدوات المساعدة)
هـ-أن الإنسان – حتى وهو وحيد – يمكنه أن يصنع ثنائية يتحاور أحدهما مع الآخر بل إنه عندما يواجه الطبيعة مواجهه مباشرة ، فإنه يتأقلم معها ويصبح جزءًا منها
و- أن الإنسان وهو يصارع عجوا ما ، تتولد فى نفسه مشاعر خاصة نحو هذا العدو ، تتفاوت من حد الرغبة فى تحطيمه إلى حد الإعجاب به ، ومن كراهيته المطلقة إلى ألفته والتعود عليه
ز- أن الوحدة قاسية على الإنسان وأنها بالفعل ضد الطبيعة البشرية التى تحتاج دائما لمن يؤنسها ، ويذهب وحشتها ، سواء فى حالة الفشل ، أو فى حالة الانتصار
أهم الأفكار الفلسفية فى الرواية :
مما سبق ، يتبين بوضوح مدى الكثرة والتنوع فى الأفكار الفلسفية والانسانية التى وردت فى رواية هيمنجواى بل إننا لو تتبعناها بتفصيل أكثر لاستطعنا أن تستخرج منها أفكارًا أخرى غير ما أشرت إليه ولكنا سوف نتوقف هذا عند فكرتين محورتين ، تم التركيز عليهما طوال الرواية ، وهما فكرة الحظ ، وفكرة الشيخوخة والوحدة
أ- فكرة الحظ
لا أحد يمكنه أن ينكر أن للنجاح طريقه الطبيعى ، وأن لكل عمل نتيجة ، وأنه على قدر ضخامة العمل والتضحية فى تنفيذه تأتى النتائج عظيمة ومدهشة ، لكنك لا تسأل أحدًا من الناجحين فى أعمالهم عن سر نجاحه ، إلا صرح لك بأن هناك قدرًا من الحظ قد صادفه فى لحظة معينة ، وأنه لولا هذا القدر لما تمكن من الوصول إلى شئ على الإطلاق ، حتى أن أشد العلماء ، المؤمنين بالمنهج العلمى ، صرامة ، يعترفون بأنهم لم يتوصلوا إلى اكتشافاتهم الدقيقة إلا بضربة مفاجئة من الحظ
لكن ما هو الحظ ؟لحظة سعيدة تبتسم فيها الحياة للإنسان ، فيمتلك منها ما يأمله ، ويبلغ ما يسعى إليه كيف يحدث ؟ فجأة وبدون مقدمات هل له معيار ؟ من الصعب تحديد معيار ثابت له ، فهو يشمل العاملين كما يشمل الكسالى ، ويصيب الأذكياء كما يصيب الحمقى.
الحظ إذن فوق الإنسان ، يختار من يشاء ، ويستبعد من يريدوالإنسان يتمناه لكنه لا يستدعيه إنه فقط ينتظره ، انتظارًا قد يطول إلى نهاية العمر ، أو ينتهى بزيارة قريبة وهناك قصيدة جميلة للشاعر الفرنسى جاك بريفير بعنوان (لكى ترسم صورة لطائر) يتحدث فيها عن الحظ فى صورة طائر يتملى الفنان قدومه ، فيرسم له لوحة فيها قفص ، ثم يسندها إلى فرع شجرة ، ويقف وراءها منتظرًا قدوم الطائر الذى قد يطول سنوات ، لكن على الفنان ألا ييأس فإذا جاء ، فعله أن يحبس أنفاسه حتى يدخل القفص ، ويغنى عندئذ فقط يمكن للفنان أن يثق فى نجاح لوحته ، فيسحب حينئذ ريشة من جناح الطائر ، ويوقع بها إمضاءه فى ركن من اللوحة.
كثيرًا ما يشكو الأذكياء ، من تعثر حظوظهم بالنسبة إلى حظوظ الحمقى وأطرف الأمثلة على ذلك ما صرح به أحد النحاة العرب ، حين وجد الناس فى السوق يقعون فى الأخطاء اللغوية ، فقال "يلحنون ويرزقون ، ونحن نلحن ولا نرزق" ومع ذلك فإن المألة نسبية ، لأننا لا نصغى دائمًا للحمقى عندما يشكون حظهم العاثر ، فضلاً عن أنهم غالبًا ما يؤثرون الصمت كذلك فإن الأذكياء لا يريدون قط أن يعترفوا باستسلامهم أمام عشوائية احظ ، وكأنما يسعون بذلك إلى ترويضه ، وإخضاعه لقانون السبب والنتيجة ، لكنهم ينسون أن الحظ لا يصاد حتى يروض ، ولا يستقر على حال حتى يخضع لقانون.
الحظ إذن عشوائى قد يبدو قريبا بينما هو مبعد ، كذلك فإنه مجهول التوقيت ، لا نعرف متى يجىء ، وإذا جاء ، فإننا لا نعرف متى يرحل ؟
هل يمكن لإنسان أن يتحدى الحظ ؟ المفروض أن تكون الإجابة بالنفى لكن سانتياجو ، بطل رواية هيمنجواى ، هو الذى تحدى الحظ ، وصم على أن يخرج إلى ملاقائه بعد أن ينس من عدم قدومه إليه وعلى الرغم من رحيل الفتى الذى كان يساعده ، وحالة قاربه المتهالكة ، وعلى الرغم من أنه هو نفسه ظل 84 يومًا دون أن يصطاد سمكة واحدة ، فإنه قرر الخروج فى مغامرة جديدة ، أكثر خطرًا من كل ما قام به فى حياته فمن يدرى ؟ ربما ابتسم له الحظ !
سانتياجو إذن هو الإنسان الذى يرفض الاستسلام للعبة الحظ وماذا ينقصه ؟ قد يكون متقدما فى السن ، لكنه يتمتع بصحة جيدة ، وبناء جسدى صلب ثم إن لديه ثقة كاملة فى كفاءته ، وفى خبرته ، وفى القدرة على تحقيق طموحه (إننى أعرف أشياء كثيرة ، وأنا عنيد) فليدع إذن للآخرين – الكسالى الإيمان المتثائب بالحظ ، وليخرج هو بمفرده للقائه من حدود الخليج ، إلى فضاء المحيط ، حيث لم يجرؤ صياد على المخاطرة بنفسه ثم إن (شهر سبتمبر هو شهر الأسماك الكبرى ، بينما يمكن لأى إنسان أن يكون صيادًا فى شهر مايو).
هو إذن واثق وفى ثقته الكثير من التحدى ، والإصرار ، والعناد لكنه أيضا مغامر والمغامر هو الذى لا أسى على ما خلفه وراءه ، ولا يخشى هول ما هو مقدم عليه ، حتى لو كان غامضا ، حتى لو كان مجهولاً ، حتى لو كان بيد الحظ نفسه.
وهكذا فنحن هنا أمام مجموعة من الشروط (كفاءة – ثقة فى النفس – تصميم على المغامرة) ينتج عن توافرها ما يمكن أن نسميه" تهيئة المسرح لمناسب للقاء الإنسان بالحظ" إذ لا يلبث العجوز – بعد فترة انتظار مرهقة – أن تعلق بحياله سمكة ضخمة ، بل أضخم من أى سمكة أخرى اصطادها طيلة حياته هو إذن الحظ لكن ما يزال أمام العجوز التغلب على السمكة القوية ، واصطحابها معه حتى الشاطئ وكلاهما فوق طاقة إنسان وحيد ! لذلك راح يتضرع إلى الله ، ويتشفع بالعذراء من أجل دفعة أخرى من الحظ ، حتى يكتمل انتصاره فهل يتحقق له ؟ الواقع أنه استخدم كل مافى طاقته وقدرته من ذكاء وصبر ومراوغه حتى تمكن من السيطرة على السمكة لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد فقد بدأت الحيتان الشرهة ، التى جذبتها رائحة الدم النازف من السمكة الطازجة ، تنهش من لحم السمكة وكأنها تنهش من لحم العجوز المسكين أجل ، فقد أصبحت السمكه جزءًا من العجوز (الإنسان – الثروة) .
وبالتالى فقد أصبح الانتقاص منها انتقاصا من قدرته على امتلاكها وعلى الرغم من أدائه المتميز فى دفع الحيتان عن السمكة ، إلا أن المزيد منها تقاطر عليها حتى سقط العجوز منهكا ، وترك ثروته الثمينة بتجاذبها الأعداء أمام عينيه ويبدو أن العجوز قد أدرك أخيرًا – ودون أن يصرح بذلك – أن الحظ قد خذله ، وكأنما أراد هذا "السلطان المجهول" أن يلقن الإنسان درسًَا لا ينسى : أنه هو الذى يحدد الموعد ، ويختار بنفسه مكان اللقاء
فكرة الشيخوخة والوحدة :
يبدأ هيمنجواى روايته بالعبارة التالية يحكى أن رجلاً عجوزًا ، وحيدًا فى زورقه الذى كان يصطاد به وسط خليج ستريم" وعندما يصفه يقول : إن كل شئ فيه كان عجوزًا ، ما عدا بصره ، الذى كان مرحاً وفيه فتوة ، كما كان له لون البحر" ويتأكد معنى الشيخوخة فى بداية الرواية من خلال الصحبة التى أصبح من الصعب استمرارها بين العجوز والفتى الذى كان يعمل معه ، والذى تعلم منه حرفه الصيد ، وكان متعلقا به ، لكن والديه أجبراه على العمل فى قارب آخر ، أكثر حظًا من هذا العجوز التعيس.
أما حائط كوخ العجوز ، فقد كان فى الماضى مزينًا بصورة ملونة لزوجته ، لكنه ما لبث أن أخفاها فى ركن من الكوخ ، لأن النظر إليها كان يشعره "بأقصى درجات الوحدة".
ويتساءل العجوز : لماذا يستيقظ كبار السن باكرا ؟ هل لأنهم يرغبون فى يوم أكثر طولاً من الآخرين ؟!
إن شيخوخة سانتياجو تصحبها عدة أعراض : منها قلة النوم ، وعدم رؤية أحلام متنوعة ، وفقدان الشهية للطعام ، ومحادثة نفسه بصوت عال وهو يقول : "فى البحر لا ينبغى أن يقال كلام فارغ" أما أهم أعراض هذه الشيخوخة فيتمثل فى ذلك التصميم القاطع على تحقيق شىء جديد وعظيم لم يتحقق طوال فترة الشباب وهو يشبه نفسه بالسلحفاة ، التى يظل قلبها يدق لعدة ساعات ، حتى بعد فتح جوفها وتفريغه مما فيه – يقول : "إن لى قلبا كقلب السلحفاة ، بل إن يدى ورجلى مثلها تماما"
إن خروج العجوز فى تلك الرحلة الكبرى من الخليج إلى المحيط يكاد يعد انفلاتًا من ضيق المكان ، وقيود البيئة المحلية إلى رحابة العالم الفسيح ، بل إننا لا نستبعد مشابهتها بمحاولة انعتاق النفس من قيود الجسد
عندما يبتسم الحظ للعجوز ، وتقع فى صنارته أضخم سمكة شاهدها فى حياته يتمنى لو كان الصبى معه ليشهد لحظة انتصاره : فالوحدة فى تلك الحالة قاسية ، وهو يقول بصراحة : "لا ينبغى أن نبقى وحدنا فى حالة الشيخوخة ، لكن هذا أمر لا مفر منه".
ويعلن عن ضعفه البالغ بكلمات مؤثرة حين يقول فى غمرة صراعه مع السمكة الضخمة : "إن السمكه لا ينبغى أن تعلم أننى وحدى ، فضلاً عن أن نعلم أننى رجل عجوز".
والملاحظة التى تلفت النظر أن العجوز – وهو يصارع السمكة باستبسال – يحرص على ألا تفلت منه ويبلغ به الحرص مداه حتى تتصلب أطرافه من شدة الإمساك بالحبل الذى يجرها به ولا شك أن هذه الحالة تفتح الباب لدراسة حالة الشبخزخة وارتباطها يجب التملك ، أو بعبارة أدق ، يجنون التملك
إن الإنسان كلما تقدم به العمر صار أشد حرصًا على ما يملك، وبين الحرص والبخل خيط رفيع أما الذى ينغص عليه حياته ، ويقلق حينئذ راحته فهو خوفه من أن يمس أحد ثروته التى أنهك عمره فى جمعها وهذا قد يفسر اضطراب علاقة المسنين عادة بأقرب الناس إليهم ، وهو ما يؤدى بهم عادة إلى الوحدة إنها إذن عملة واحدة ذات وجهين : الشيخوخة والوحدة.
القيمة الفلسفية لرواية العجوز والبحر :
أول ما ينبغى الالتفات إليه هو عنوان الرواية نفسه فقد اختار هيمنجواى بطله إنسانا فى آخر مراحل العمر (العجوز) ولكنه مزود بكل ما يحتاج إليه لكى يقوم بعمل كبير : الخبرة والتجربة ، الأهلية والكفاءة ، التحدى والإصرار وهذه العوامل كلها جديرة بأن توفر له تحقيق ما يريده ، وبالفعل تم للعجوز للحصول عليه ولكن الوسط ، أو البيئة ، أو الكون الذى يعيش الإنسان ويعمل ويصارع فيه هو (البحر) فى اتساعه ، وغموضه ، وما يحتوى عليه من وحوش تتربص بالإنسان ، وتهجم عليه فى أشد اللحظات حرجا وصعوبة.
أليست ملحمة ذلك العجوز ، الوحيد فى آخر عمره ، هى مأساة الإنسان فى كل زمان ومكان كلنا ينتهى به الحال – أراد أو لم يرد – إلى الوحدة.
فعلى مدى عمر الإنسان، يفقد أحبابه وأصدقاءه ، ومع تقدم عمره ، يأخذ الناس فى الانفضاض من حوله ، وهذا بالطبع مرتبط بقلة أو بانعدام المنفعة المتوقعة منه ومن ناحية أخرى فإنه قانون تدافع الأجيال فالجبل الجديد لابد أن يحصل على مكان ، وأن يأخذ فرصته ، ولهذا فإنه لا يرغب فى بقاء الجيل القديم مكانه ، ولا بد أن يزيحه عنه ، وقد تمثل هذا فى موقف سائر الصيادين من العجوز ، وكذلك أهل الصبى الذين نقلوه من خدمته.
لكن الإنسان مخلوق مزود بالقدرة على التأقلم ، بل على أقصى درجات التأقلم لذلك عندما يجد هذا الإنسان نفسه وحيدًا يسرع باستدعاء رصيده من الذكريات والتجارب ، لكى يكون اجترارها – بصوت مهموس أو مسموع – نوعًا من كسر طوق الوحدة ، وتحقيق لثنائية اللازمة لبقاء الجنس البشرى على ظهر الأرض إن وجود آدم لا يمكن تصوره على الإطلاق بدون حواء كذلك يمكن تصور إنسان وحيد لا يتحدث إلى نفسه
ولا يقتصر تحقيق الثنائية فى مجرد حديث الإنسان إلى نفسه ، بل إن من أهم مظاهرها : سعى الإنسان إلى تحقيق أمله أو رغبته ، وهذا نوع آخر من الحوار مع الناس والأشياء وفيه تستنفذ طاقات الإنسان – دون أن يدرى – حتى إذا بلغ نهاية الشوط ، اختلطت لذه النصر بمرارة الضعف والإنهاك ، لكن الإنسان بهذا "الفعل" يسعى مرة أخرى إلى كسر طوق الوحدة وهو يشبه أسماك السالمون التى تصمم على عبور النهر – لأعلى وضد التيار – معرضة نفسها للهلاك المحقق ، ولكنها لا تعبأ إلا بالوصول إلى هدفها.
ما الذى يدفع صيادًا عجوزًا فى أخر مراحل عمره يقرر فجأة أن يخرج من الخليج إلى المحيط ليصطاد سمكة أضخم م الأسماك التى يصطادها سائر الصيادين من حوله ؟ إنها الانتفاضه الأخيرة التى تسبق انطفاء المصباح لكن هيمنجواى جعل منها "بطوله كاملة ورسم لنا من خلالها "نموذجًا" يمكن أن نقدمه لشابنا حتى نشجعهم على المغامرة والأعمال العظيم.
لقد استطاع هذا الصياد العجوز المغمور فى خليج ستريم أن يصبح بهذه المغامرة الفردية الخاصة به واحدًا من أبطال العالم وفى رواية متوسطة الحجم ، نجح هيمنجواى أن يحشد الكثير من العوامل النفسية التى تصطرع فى أعماق الإنسان ، كل انسان ، وأن يبلور العديد من الأفكار الفلسفية التى يصل إليها عن طريق التجارب، والخبرة الطويلة ، وأروع ما حققه الكاتب العبقرى أنه استخرج من كل واحد فينا جزءًا ووضعه فى شخصية الصياد العجوز.
أما لحظة الوصول إلى هدف وتحقيقه فهى من أسعد اللحظات: لمن يمر بها ، وأيضا لمن يستمع إليها إنها اللحظة التى يثبت فيها الإنسان أنه الأجدر ، من بين جميع المخلوقات ، على امتلاك الكون ، والسيطرة على الطبيعة إنها اللحظة التى يصل فيها الإنسان إلى قمة وجوده لكن القمة لا تسمح لمن يبلغها بالبقاء فيها إلا لحظة واحدة فقط لذلك فإنه سرعان ما يغادرها منسحبًا بهدوء ، أو محكمًا بشناعة وهذا ما حدث للصياد العجوز.
فى اللحظة التى اعتقد فيها العجوز أنه حقق هدفه ، يقتل السمكة الضخمة وربطها إلى قاربه ، بدأت لحظة أخرى تكالبت عليه فيها مجموعة شرسة من الحيتان ، استطاعت فى النهاية أن تقضم بأنيابها الحادة لحم السمكة بالكامل وعندما رفع الموج قارب العجوز إلى الشاطئ ، لم يكن لديه سوى هيكل عظمى يدل على ضخامة حجم السمكة تمامًا مثلما تدل أهرامات مصر ، وأكروبول اليونان ، وسور الصين العظيم على ضخامة ما حققه الإنسان فى تلك الحضارات من إنجازات !
وهنا يبرز سؤال : وما الجدوى إذن من الصراع ، ما دام الأمر يؤول فى النهاية إلى مأساة ؟ وهو سؤال له وجاهته لكن الإنسان بدون هذا الصراع لا يمكنه أن يعيش حياته ، لأنه يحقق من خلال هذا الصراع ما تتطلبه طبيعته من الثنائية التى تنفر من الوحدة، والعزلة ، والانفراد وقد يقال : ألا يعبر هذا المصير المحتوم عن فلك جبرى يدور فيه الإنسان ؟ والإجابة : إلى حد ما ، وقد عبر بعض فلاسفة المسلمين عن ذلك بقولهم : إنه الجبر فى عين الاختيار.

ليست هناك تعليقات: