الأحد، 30 يناير 2011

فرعون يا فرعون... أنت وحدك ...ليس لك نصير ولا ظهير


سحرة فرعون وقفوا مع السلطة وأمام الشعب في مواجهة مع موسى وأخيه - عليهما السلام - بل وتعلق بهم أمل فرعون مصر أن ينصروه على من جاء ليثبت لهم بطلان عقيدتهم ويسلبهم ملكا عظيما توارثوه كابرا عن كابر بل ويثبت للأقباط - أي ساكني مصر - أن ملكهم سخيف لا عقل له ولا رأي وأنه مغرور بملكه وأنه بحماقته سيضيع ملكه ويحل بقومه البوار والخراب وأنه سيسترد من مصر بني إسرائيل الذين هم بمثابة العبيد لفرعون وأتباعه من أجل ذلك التقى الفريقان :
فريق الباطل ويمثله فرعون ووزراؤه وجنوده يتقدمهم سحرة مهرة من كل واد وهم أهل العلم في هذا الزمان ومحل ثقة السلطان وموطن أمله المنشود .
وفريق الحق ويمثله موسى وهارون عليهما السلام وليس معهما أحد ولا يقف خلفهما أحد حتى بني إسرائيل ربما منعهم الخوف من إظهار تأييدهم لنبي الله موسى وأخيه هارون - عليهما السلام -
يقول صاحب الظلال - يرحمه الله - في سياق حديثه حول هذه الآيات بتصرف يسير :
وقد خافوا أن يغلبهم موسى وبنو إسرائيل على أرضهم لو اتبعتهم الجماهير حين ترى معجزتي موسى وتسمع إلى ما يقول أشاروا عليه أن يلقى سحره بسحر مثله ويبدأ المشهد هادئا عاديا إلا أنه يشير منذ البدء باطمئنان موسى إلى الحق الذي معه ; وقلة اكتراثه لجموع السحرة المحشودين من المدائن المستعدين لعرض أقصى ما يملكون من براعة ووراءهم فرعون وملؤه وحولهم تلك الجماهير المضللة المخدوعة يتجلى هذا الاطمئنان في تركه إياهم يبدأون قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون وفي التعبير ذاته ما يشير بالاستهانة ألقوا ما أنتم ملقون بلا مبالاة ولا تحديد ولا اهتمام وحشد السحرة أقصى مهارتهم وأعظم كيدهم وبدأوا الجولة باسم فرعون وعزته فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون ولا يفصل السياق هنا ما كان من أمر حبالهم وعصيهم كما فصله في سورة الأعراف وطه ليبقى ظل الطمأنينة والثبات للحق وينتهي مسارعا إلى عاقبة المباراة بين الحق والباطل ; لأن هذا هو هدف السورة الأصيل فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون ووقعت المفاجأة المذهلة التي لم يكن يتوقعها كبار السحرة ; فلقد بذلوا غاية الجهد في فنهم الذي عاشوا به وأتقنوه ; وجاءوا بأقصى ما يملك السحرة أن يصنعوه وهم جمع كثير محشود من كل مكان وموسى وحده وليس معه إلا عصاه ثم إذا هي تلقف ما يأفكون ; واللقف أسرع حركة للأكل وعهدهم بالسحر أن يكون تخييلا ولكن هذه العصا تلقف حبالهم وعصيهم حقا فلا تبقي لها أثرا ولو كان ما جاء به موسي سحرا لبقيت حبالهم وعصيهم بعد أن خيل لهم وللناس أن حية موسى ابتلعتها ولكنهم ينظرون فلا يجدونها فعلا عندئذ لا يملكون أنفسهم من الإذعان للحق الواضح الذي لا يقبل جدلا وهم أعرف الناس بأنه الحق .
ولي هنا وقفة مهمة :
ولما ظهر الحق واندحر الباطل وانتصر موسى بالحق الذي جاء به على الباطل الذي كان في مواجهته ، ظهرت معجزة موسى عليه السلام وابتلعت الحبال والعصي التي جاء بها السحرة ، وانكشف الباطل وظهر الحق وصارت الغلبة للقلة المؤمنة والهزيمة للكثرة الكافرة واتجهت الأنظار للسحرة ماذا أنتم فاعلون ؟ وماذا أنتم قائلون ؟ أتتركون موسى وهارون ينتصران على فرعون مصر ؟ هل تحاولون مرة أخرى ؟ هل تفعلون شيئا لنصرة سيد البلاد وحاكمها ؟ يا أيها السحرة أجيبوا ؟
فكان جوابهم العملي أن خروا لله ساجدين ليعلنوها أمام الجميع بالعمل لا بالقول وبالفعل لا بالكلام .
فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون وهم قد كانوا منذ لحظة مأجورين ينتظرون الجزاء من فرعون على مهارتهم ولم يكونوا أصحاب عقيدة ولا قضية ولكن الحق الذي مس قلوبهم قد حولهم تحويلا لقد كانت هزة رجتهم رجا وخضتهم خضا ; ووصلت إلى أعماق نفوسهم وقرارة قلوبهم فأزالت عنها ركام الضلال وجعلتها صافية حية خاشعة للحق عامرة بالإيمان في لحظات قصار فإذا هم يجدون أنفسهم ملقين سجدا بغير إرادة منهم تتحرك ألسنتهم فتنطلق بكلمة الإيمان في نصاعة وبيان آمنا برب العالمين رب موسى وهارون وإن القلب البشري لعجيب غاية العجب فإن لمسة واحدة تصادف مكانها لتبدله تبديلا وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسم - " ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه " وهكذا انقلب السحرة المأجورون مؤمنين من خيار المؤمنين على مرأى ومسمع من الجماهير الحاشدة ومن فرعون وملئه لا يفكرون فيما يعقب جهرهم بالإيمان في وجه الطاغية من عواقب ونتائج ولا يعنيهم ماذا يفعل أو ماذا يقول ولا بد أن كان لهذا الانقلاب المفاجئ وقع الصاعقة على فرعون وملئه فالجماهير حاشدة وقد عبأهم عملاء فرعون وهم يحشدونهم لشهود المباراة عبأوهم بأكذوبة أن موسى الإسرائيلي ساحر يريد أن يخرجهم من أرضهم بسحره ويريد أن يجعل الحكم لقومه ; وأن السحرة سيغلبونه ويفحمونه ثم ها هم أولاء يرون السحرة يلقون ما يلقون باسم فرعون وعزته ثم يغلبون حتى ليقرون بالهزيمة ; ويعترفون بصدق موسى في رسالته من عند الله ويؤمنون برب العالمين الذي أرسله ويخلعون عنهم عبادة فرعون وهم كانوا منذ لحظة جنوده الذين جاءوا لخدمته وانتظروا أجره واستفتحوا بعزته وإنه لانقلاب يتهدد عرش فرعون إذ يتهدد الأسطورة الدينية التي يقوم عليها هذا العرش أسطورة الإلوهية أو بنوته للآلهة كما كان شائعا في بعض العصور وهؤلاء هم السحرة والسحر كان حرفة مقدسة لا يزاولها إلا كهنة المعابد في طول البلاد وعرضها ها هم أولاء يؤمنون برب العالمين رب موسى وهارون والجماهير تسير وراء الكهنة في معتقداتهم التي يلهونهم بها فماذا يبقى لعرش فرعون من سند إلا القوة والقوة وحدها بدون عقيدة لا تقيم عرشا ولا تحمي حكما إن لنا أن نقدر ذعر فرعون لهذه المفاجأة وذعر الملأ من حوله إذا نحن تصورنا هذه الحقيقة ; وهي إيمان السحرة الكهنة هذا الإيمان الصريح الواضح القاهر الذي لا يملكون معه إلا أن يلقوا سجدا معترفين منيبين عندئذ جن جنون فرعون فلجأ إلى التهديد البغيض بالعذاب والنكال بعد أن حاول أن يتهم السحرة بالتآمر عليه وعلى الشعب مع موسى قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين آمنتم له قبل أن آذن لكم لم يقل آمنتم به إنما عده استسلاما له قبل إذنه على طريقة المناورات التي يدبرها صاحبها وهو مالك لإرادته عارف بهدفه مقدر لعاقبته ولم يشعر قلبه بتلك اللمسة التي مست قلوبهم ومتى كان للطغاة قلوب تشعر بمثل هذه اللمسات الوضيئة ثم سارع في اتهامهم لتبرير ذلك الانقلاب الخطير إنه لكبيركم الذي علمكم السحر وهي تهمة عجيبة لا تفسير لها إلا أن بعض هؤلاء السحرة وهم من الكهنة كانوا يتولون تربية موسى في قصر فرعون أيام أن تبناه أو كان يختلف إليهم في المعابد فارتكن فرعون إلى هذه الصلة البعيدة وقلب الأمر فبدلا من أن يقول إنه لتلميذكم قال إنه لكبيركم ليزيد الأمر ضخامة وتهويلا في أعين الجماهير ثم جعل يهدد بالعذاب الغليظ بعد التهويل فيما ينتظر المؤمنين فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين إنها الحماقة التي يرتكبها كل طاغية حينما يحس بالخطر على عرشه أو شخصه يرتكبها في عنف وغلظة وبشاعة بلا تحرج من قلب أو ضمير وإنها لكلمة فرعون الطاغية المتجبر الذي يملك تنفيذ ما يقول فما تكون كلمة الفئة المؤمنة التي رأت النور إنها كلمة القلب الذي وجد الله فلم يعد يحفل ما يفقد بعد هذا الوجدان، القلب الذي اتصل بالله فذاق طعم العزة فلم يعد يحفل الطغيان ، القلب الذي يرجو الآخرة فلا يهمه من أمر هذه الدنيا قليل ولا كثير . قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين لا ضير لا ضير في تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف لا ضير في التصليب والعذاب لا ضير في الموت والاستشهاد لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون وليكن في هذه الأرض ما يكون فالمطمع الذي نتعلق به ونرجوه أن يغفر لنا ربنا خطايانا جزاء أن كنا أول المؤمنين وأن كنا نحن السابقين يا لله يا لروعة الإيمان إذ يشرق في الضمائر وإذ يفيض على الأرواح وإذ يسكب الطمأنينة في النفوس وإذ يرتفع بسلالة الطين إلى أعلى عليين وإذ يملأ القلوب بالغنى والذخر والوفر فإذا كل ما في الأرض تافه حقير زهيد هنا يسدل السياق الستار على هذه الروعة الغامرة لا يزيد شيئا ليبقى للمشهد جلاله الباهر وإيقاعه العميق وهو يربي به النفوس في مكة وهي تواجه الأذى والكرب والضيق ويربي به كل صاحب عقيدة يواجه بها الطغيان والعسف والتعذيب فأما بعد ذلك فالله يتولى عباده المؤمنين وفرعون يتآمر ويجمع جنوده أجمعين .
والخلاصة :
أن سحرة فرعون كانوا في مقدمة الكفر والضلال وكانوا هم أمل فرعون ووزرائه وجنوده في هزيمة موسى فلما تبين لهم الحق كما وضحنا كان لزاما أن يعلنوا أنهم أول المؤمنين في هذا الموقف العصيب ويعلنوها صرخة مدوية رغم أنف الباطل وإن تزعمه فرعون ومن معه اسمع يا فرعون : نحن أول المؤمنين اليوم برب العالمين ، نحن أول المؤمنين اليوم بأن موسى مرسل من رب العالمين ، نحن أول المؤمنين اليوم بأن عصا موسى معجزة عظيمة أيده بها رب العالمين ، نحن أول المؤمنين بأن الحق ما جاء به موسى وهارون وأنك يا فرعون على الباطل فاقض ما أنت قاض إنما تقض هذه الحياة الدنيا .
وبهذا لا يكون هناك تعارضا في الآية فهي بيان بأن أول من أعلن إيمانه في يوم الزينة يوم أن حشر الناس لمواجهة أعظم مباراة بين الحق والباطل .
وهناك كلمة أخيرة حول هذه الشبهة فلو قلت لكم الآن من كان منكم موافقا لي ومؤيدا لرأيي فليرفع يده الآن فرفعتم أيديكم وبعدها قلت لأحدكم معاتبا له : يا فلان ما منعك أن ترفع يدك ؟ هل أنت مخالفا لي في قولي ؟ أم متكبرا عليَّ ؟ فقال لي : سبحان الله يا أخ صبري أنا أول من رفع يده . فقلت له جزاك الله خيرا .

ليست هناك تعليقات: