السبت، 29 نوفمبر 2008

"المعجز" للقاسم العياني..تحقيق ودراسة د.إمام حنفي سيد

المعجــــــــــز

تأليف

الإمام المهدى لدين الله الحسين بن القاسم بن على العيانى
ت 404هـ
دراسة وتحقيق وتعليق

د/ إمام حنفى سيد عبد الله

مقدمة كتاب المعجزوتشمل على :
1- التمهيد0
2- تحليل الكتاب0
3- ترجمة المؤلف ووصف المخطوطات0
4- نماذج من المخطوطين0

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

هذا كتاب معجز فى كل شئ فى ذاته وفى تأليفه، ومؤلفه الذى قدم هذا الفكر العميق قد مات شهيدا فى ريعان الشباب، ولم يتم بعد العشرين من عمره00 فمتى حصل هذه الثقافة العميقة الواسعة، وتمكن من أطرافها هذا التمكن الذى أمكنه بعد أن يحاور فلسفات متعددة، وأفكار شتى متفرقة، يصعب على المتمرس أن يجمعها بعد أن يعايشها عمرا طويلا، فكيف بمن لم يتجاوز سن الصبا إلا قليلا ؟!
المؤلف هو الإمام المهدى لدين الله الحسين بن القاسم بن على العيانى الذى توفى سنة 404هـ00 له مؤلفات فى اللغة والأدب والتفسير وعلم الكلام00 إنه إعجاز بكل معنى الكلمة، ودليل وبرهان على مواهب آل بيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتمكنهم فى ميادين العلم المختلفة، وبحق هم الراسخون فى العلم الذين قد أشار إليهم القرآن الكريم، الذني يلجأ الناس إليهم فى الملمات وشدائد الأمور00
والكتاب من نفائس المكتبة العربية الإسلامية، وهو بالغ الدقة فى منهجه ومعالجة مسائله وقضاياه00
وقد يؤلف العالم العديد من الكتب ولما يبلغ هذه الدقة المتناهية فى التقسيم والتبويب، وتوزيع القضايا توزيعا عادلا متوازنا بين ذفتى الكتاب، وكأن الكتاب تشد كتبه وأبوابه بعضها بعضا كبناء غاية فى الروعة والجمال والمتانة فى نفس الوقت0

ولا أتجاوز إن قلت إن هذا الكتاب يمثل ذروة الفكر الإسلامى فى نهايات القرن الرابع الهجرى وبدايات القرن الخامس سواء فى الطرح أو النقد أو الحوار مع الآخر، الذى كان الكتاب من أوله إلى آخره موضع اهتمامه ورعايته0

كيف كان يفكر المسلمون فى قضايا الألوهية والتوحيد ما الذى انتهوا إليه بعد صدامهم مع الثقافات والفلسفات المتعددة والمختلفة، التى التحموا بها وعايشوها00 ماذا أخذوا00 وماذا تركوا00ولماذا أخذوا ما أخذوا وتركوا ما تركوا؟!

هل صحيح حقا ما يدعيه أنصاف المثقفين من الدارسين وغيرهم من اتباع الفكر السطحى أن الإسلام قد قدم النقل على العقل، ووضع الاجتهاد خلف التقليد، وأفضى به الموروث الثقيل من النصوص والأخبار والآثار إلى موت العقل، حتى فى أخص خصوصياته وهو العقيدة ؟!

هذا كتاب يقرر أن أسس المنهج العقلى مأخوذة من الكتاب، ويرفض الفكر الأرسطى والمنطق الصورى والثقافة الهلينية القديمة، القائمة على الخيالات والأوهام الذهنية والفروض الواهية00 العقل أساس النقل ولا نقل بغير عقل00 وما تعارض نقل مع عقل أبدا إلا فى عصرنا00 المسلمون القدماء لم تجد هذه الإشكالية إلى عقولهم وقلوبهم سبيلا 00 ولكن فى هذا العصر ظهر من يفرق بين الاثنين، ووجدنا من المتخلفين من يدعو أتباعه إلى ترك عقولهم عند باب المسجد مع أحذيتهم!!

تعامل الإسلام مع الثقافات والحضارات الأخرى بكل نضج وحرية وتفتح وتسامح، تحاور معها فأخذ منها وأعطاها وأعاد صياغة مناهجه، وكان موضوعيا ؛ لأن الذين حملوه إلى العالم كانوا أحرارا، يحترمون البشر كل البشر دون تفريق بين إنسان وآخر أو عقيدة وأخرى، فقد أظلتهم شريعة تجل الحرية وتحرر الإنسان، ليختار اختياراً حراً مجرداً عن كل قهر أو قسر أو اضطرار00 > لقد أظلت الناس حضارة إنسانية تحترم الإنسان وتقدره، فتعرفه بربه وتكشف له عن أسرار وجوده وتبين له ما غمض عليه من شأن خلقه وبدايته، وتحدد له الغايات وما يتعين عليه، فاستشعر كرامته ودأب على البحث عن غاياته وجوده0

لقد عاش بين المسلمين من أصحاب العقائد والديانات الأخرى ما لا يحصى من البشر، فما وجدوا قهراً ولا اضطهاداً، وما اضطرهم أحد إلى ترك أديانهم أو عقائدهم تحت أى ظرف من الظروف00 وسهر المسلمون على رعاية الكنائس والمعابد والبيع00 وما سمعنا أن المسلمين الأوائل قد هاجموا كنسية أو معبداً أو هيكلاً00 أو قتلوا ذمياً معاهداً إلا فى حق ؛ كأن يزهق روحاً حرم الله قتلها أو يأتى ما ينقض عهده ويحل دمه00 هذا فى مقابل ما يحمله التاريخ من عار محاكم التفتيش فى أسبانيا00 والقهر الدينى فى أوربا وغيرها00

حاور المسلمون منكرى الألوهية وجاحديها وعبدة النجوم، وجالسوهم وجادلوهم بالتى هى أحسن، وعرضوا عقيدة الإسلام، كما عرضها الخليل إبراهيم عليه السلام فى الزمن الأول، فبسطوا المسائل وحللوا مقالات الفرق00 طرحوا تصور الإسلام للألوهية والتوحيد بين الجميع، فى مقابل تصور النصارى وتثليثهم، وتصور اليهود وتشبيههم، وتصور الثنوية والمجوس وإثنينتهم، وتصور أصحاب الكون والدهرية وأصحاب الطبائع بإلحادهم00 فما كان من الإسلام إلا السماحة والوضوح والبراهين الدافعة التى تضطر العقول إلى التسليم بإله واحد أحد فرد صمد00 إله قادر عالم حكيم ، عالمى وليس محلى، منزه عن كل نقص وعيب، وموصوف بكل ما يليق من صفات الجمال والكمال والجلال00

لقد ترقى الإنسان فى ظل التصور الإسلامى بمفاهيمه عن الألوهية، فما عاد يعبد صنما أو وثنا أو يسجد لشجر أو حجر أو يتوجه بعينه نحو نجوم السماء ضارعا أن ترفع عنه ضرا أو تجلب له نفعا00 إنه الإسلام الذى حرر الإنسان من وهم الأرض00 ليرقى به نحو حقيقة جلية واضحة نزلت من السماء، وطالبت كل البشر أن يستقبلوها بعقولهم ولا يغلقوا قلوبهم دونها00 إنه الله الرحيم بعباده00 أبى إلا أن يأخذ بأيديهم إليه00

وعلى ذلك جاء وحى السماء إلى الرسول الخاتم بالرسالة العالمية الكاملة التى أتمت البناء وأرست الأسس والقواعد فكيف رد الإسلام على منكرى وجاحدى النبوات عامة ومنكرى نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة00

ماذا تعرف عن الفضائية والجوهرية والمتجاهلة00
الحسين بن القاسم العيانى يحدثك عن عقائدهم ويرد على شبهتهم التى يعرضونها تجاه التصور الإسلامى00 ما المنهج الإسلامى فى المعرفة00 وما أدلة المسلمين فى إثبات وجود الله ووحدانيته00 وما هى الصفات التى ينبغى أن تنفى عن ذات الخالق ولا تليق به، إن كل ما فى هذا الكتاب معجز سيما لو تمهلت فى قراءته واستيعاب مفاهيمه وقضاياه00 وهذا نفسه ما يعترض التوجه الإسلامى المعاصر من الشيوعيين وأذنابهم وأصحاب الفكر االعبثي، والرأسمالى الغالى القائم على المادية الوضعية بما فيها من إسقاط الأديان والعبث بحقيقة الوجود00 إنه خطوة ضرورية فى تكوين المسلم لتصور متكامل لله والكون والإنسان وحقيقة البداية والغايات00 فما خلق الله شيئا عبثا ولا لهوا ، ذلك ظن عبدة الشيطان والجنس والدولار والدينار فى عصرنا00 وقبل عصرنا00 إنها حلقات متواصلة من الفكر المتوارث الذى لا يموت ويقابله الإسلام بحقائق لا تقبل التميع والتمويه0
ن ور الإسلام الساطع بين ثنايا هذا الكتاب فى مقابل طغيان الإنسان وأوهامه وجدله ولججه00 وكذب من ادعى أن الإسلام قد خضع فى مناهج عقيدته للفلسفة اليونانية أو غيرها00 وما تعلق به بعض المتوهمين من أمثلة وقضايا00 هذا الكتاب وغيره يقدم لهم البديل الواضح والمثال الصارخ على أصالة الفكر الإسلامى وأصالة التفكير الإسلامى0


لن نقف فى عصر تكنولوجيا الفضاء والسماوات المفتوحة والعولمة عراة ليس لدينا أسس فكرية ناضجة00 ولا نعرف كيف نكون مفاهيم حضارية فى مواجهة الآخر00 علينا أن نلحق بالركب بالاعتماد على الأصالة التى تحمى هويتنا فى الحاضر وتحملنا إلى آفاق المستقبل0

إن العالم اليوم فى حاجة إلى مفاهيم إنسانية تستطيع أن تنهض به من ارتكاسة الطين ووحل التصورات المادية، ولا يوجد ذلك إلا عند المسلمين00 وعلى وجه التحديد فى مناهج التفكير الناضح عندهم فى العقيدة والأخلاق وأصول الدين والفقه00

لم يعد لدى المسلمين أنفسهم ما يقامرون به، فقد سقط الشرق وتهاوى نجم الشيوعية، وقريبا تسقط الرأسمالية المتطرفة، إن لم تبحث عن فلسفات راسخة قائمة على العدل واحترام الإنسان والكون، وعدم العبث فى خلق الله أو الغلو فى اتجاه الخلود00 فالأرض تجأر وتئن من فساد الإنسان00 وعلينا أن نوضح للعالم حقيقة هذا الدين بصفاء توحيده ونقاء مناهجه000 ونعود أمة دعوة وبلاغ مرة أخرى00 حتى يصدق الغرب الواهم والشرق الواهن أن فى الإسلام نوراً مازال مشعا غطت أنواره أفاق العالم0

لا أدرى ماذا يعرف عزيزى القارئ عن المعاناة التى صادفتنى عند تحقيق هذا الكتاب ودراسته ولكن يكفى أن يعلم أنى ما أقدمت على هذا النوع من الدرس إلا من أجل إعلاء كلمة الله00 ولوجه الله وحده00 لذلك أسأله أن ينصر الإسلام ويعز المسلمين00 ويجعلنا تحت لواء الحق ماضين0 آمين
إمام عبد الله
القاهرة 11/3/2001

تحليـــل كتــــاب المعجــــز
للإمام القاسم العيانى
ت 404 هـ


بدأ القاسم العيانى كتابه المعجز بالحديث مع الملحدة الذين مجدوا وجود الله فقالوا بقدم الهواء وغيره، ومن ثم قدم أشياء مادية إلى جوار الذات القديمة، فلا معنى إذا للقول بإله قديم واحد أحد([1])0
ثم أعقب ذلك بباب آخر فى الدلالة على حدث الأجسام([2]) وهو فى هذا كله يستخدم أدلة الفلاسفة والمتكلمين فى إثبات الحدوث والقدم والتناهى والحركة والسكون0

يقول فى بيان صنع الله وحكمته : "إن أعظم الدلائل على الله، سبحانه وعز عن كل شأن شأنه، ما فطر من الأرضين والسموات العلا وصنع منهما تبارك وتعالى([3])0

واستعان فى بيان صنع الله فى السموات والأرض وحكمته وتقديره بدليل الصنعة والإتقان والكمال، وكذلك النظر فى النفس والآفاق والأكوان يقول :" فلعمرى لو لم يكن لنا من النظر إلا ما فى أنفسنا من الآيات والعبر لكان لنا فى ذلك كافية وأدلة واضحة شافية([4])"0

ألا ترى إلى ما بث الله من الخلق وما بسط لهم بعد خلقتهم من الرزق الذى لولا هو لهلكوا وذمروا ولما تناسلوا ولا كثروا، ولما تم بقاء ولا صيروا00 ثم جعل للمتعبدين عقولا لتكون لهم عليه دليلاً، فسبحان من دلنا على معرفته 000

ثم هو يختم هذا الكتاب فى تجليات واضحة فيدعو الله عز وجل فى خشوع وخضوع ومن ذلك قوله :"فيا خالق ويا باسط الرزق أسألك أن تجعل آخر حياتى وحضور وفاتى على أكمل ما يكون من طاعتك واتباع مرضاتك([5])"0

أفرد الكتاب الثانى بباب واحد هو "باب الرد على عبدة النجوم وغيرهم من فرق الملحدين([6])"0
وبدأ الباب بتقويم تربوى للعابدين والسالكين إلى الله بين فيه كيف يكون العبد مؤمناً عارفاً خاشعاً، فكل الدلائل إلى الله عز وجل تشير، وعلى وجوده ووحدانية شاهدة0

أعقب ذلك بالجواب على ملحد متعنت يسأل عن كيفية السبيل إلى معرفة الله وبم يعرف وما معرفته ؟
فأجابه بأن السبيل إلى معرفته عن طريق العقل المميز للأمور، وأما بم يعرف فعن طريق صنعه وتدبيره ومعجزته وتقديره، وأما ما معرفته فمعرفته اليقين بألوهيته والإقرار والتصديق بربوبيته([7])0
أجاب القاسم عن تساؤل هو أمعرفة الله اضطرار أم اختيار؟ بأنها اختيار00 ولو كانت الأولى، لما كان بين معرفة الجاهل والعالم فرق0
ثم عاد فذكر شواهد عديدة على الله تعالى من أدلة الصنعة والإتقان والإحكام فى خلق الإنسان والحيوان والنبات والسموات والأرض([8])0

ففى كل مخلوق لله آية وحكمة ناطقة بخلقه وعظيم صنعته، وفعل الله كل جميل وحسن، والملحد جهل حكمة الله فى الخلق والإيجاد، والمخلوقات شاهدة على أن لها صانع مبدع ويستحيل أن يكون أى منها خالقاً، لما هى عليه من تدبير مدبر وإحكام محكم([9])0

واستعان القاسم بدليل الحركة والسكون والتغاير على حدث المخلوقات، وأن لها محدثاً قديماً، واستحالة أن تكون الصدفة أو العشوائية هى مبعث هذا الإيجاد بحال من الأحوال، ولا يقول بهذا إلا جاهل أو مجنون([10])0
والدهريــة المنكرة للخالق تسأل عن الدليل على حدوث الدهر والزمان، والحركة والمادة والمياه فى الأكوان، ومتى بدأت، وهل لحركتها نهاية، وما الذى يمنع من أن يكون بدأ الحركة والحياة من فوق أى من الأفلاك العليا والكواكب والنجوم، ومن هذه الحركة نشأ الخلق؟

وهذا كلام لا معنى له لأنه ينسب لبعض الخلق ما هو حق لغيرها فإذا كانت الأفلاك العليا هى التى أوجدت الأكوان والعوالم من جماد وحيوان وحركة وسكون، فمن أوجدها؟‍‍ 000 إن لكل صنعة لابد لها من صانع، وهذا الصانع يقدر فى حكمتها أشياء ويصنعها لعلة، لا هباء ولا عبثاً، فهو قادر حكيم عالم مدبر عدل رميم كريم([11])0

والله عز وجل هو الذى خلق هذا الكون وما فيه من عوالم علوية وسفلية، بتقديره وعلمه وعدله وفضله، وهو الأول والآخر، سحر الأشياء للإنسان وأمره ونهاه، فى غير ما جبر ولا قهر، وتعبده بالطاعة اختياراً، ومن عصاه أنظره رحمةً ورأفة، لا ضعفاً ولا إهمالاً ، ولكن ابتلاء، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وجعل جزاء من أطاعه الجنة وعداً منه حقاً، ومن عصاه النار عقاباً منه عدلاً0

وخلق الله عباده لينفعهم، ولم يكن منه شئ عبثاً، فكيف يكون كل هذا التدبير من مخلوقات لا وحول لها ولا قوة ولا علم ولا حكمة ولا تدبير ولا من غيرها‍00 فسبحان الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء، وسعت رحمته كل شئ، وهو العلى القدير([12])0

سمى القاسم كتابه الثالث الطبائع([13])0
ومرة أخرى يسأل الملحدون عن الدليل على حدث السموات والأرضين، ويصل بهم العالم الحصيف، إلى أن اختلافهما دليل على حدثهما، ولا يمكن أن يكون هذا الاختلاف من فعل أنفسهما، ولا من قبل قدمهما، لأن الأول محال، والقديم لا يوصف بالاختلاف ولا يتضاد0

كما أن التفاوت فى الخلق يدل على الحدث، وما تشهده الأرض من تنوع سهولها وجبالها وتضاد أحوالها وألوانها يدل على صانعها وجاعلها، إذ التفضيل لبعضها على بعض يدل على المفضل بينها 00 كما أن افتراقها واجتماعها، يدل على وجود صانع لها فرق ما فرق منها وجمع ما اجتمع منها([14])0
سأل الملحد عن الدليل على حدث أصول ـــــ وفروعها وبيان الصنع فى عللها وطبائعها، وأبان القاسم أن السر فى ذلك كله راجع إلى الحكمة، فالحكمة الإلهية هى التى من وراء الخلق، وكل طبيعة من طبائعها قد جعلت لمصلحة من مصالحها00 وليست الطبائع بفاعلة للحكمة والتدبير ولا هى بعالمة بعجائب التقدير، وإنما هى كلمة من حكم رب العالمين، ودلالة عليه لجميع المخلوقين([15])0
وأصل الحكمة إصلاح الأسباب بالأسباب، فلما وجدنا الأشياء مصلحة بطبائعها، دلنا الإصلاح على حكمة صانعها وقد اهتم المسلمون بالغائية والنهاية، فما الغاية من الخلق والحياة والكون والابتلاء، وهو الموت وهو يقع على كل حى مخلوق هو وفروعه وكما جمع الحياة بينهم كذلك الموت00 فقد جمع الموت فى البدء بين الجميع فى حال العدم، ثم نشأت الحياة وتكاثرت الأحياء بعجيب قدرة خالقها، ثم أدركها العدم أى الموت، وبين الابتداء والانتهاء تجد معنى المحدودية والمكانية والتناهى والتلاشى أيضا00 فمبعث الكثرة الخلية الواحدة، وأصل الكثير القليل، والنهاية تدل على البدايات([16])0

وعن نشأت الإنسان وتزاوجه وتكاثره، وكيف حدثت النشأة ولم خلقنا الله من ذكر وأنثى، وما الذى يحدث عن خلق الإنسان، ثم ما يحدث فى طفولته وصغره ، وكيف ينمو ويكبر، كل ذلك يدل على حكمة الخالق وقدرته ورحمته00 والفعل والجوارح والحواس والنمو، كل ذلك لا يمكن الغفلة عنه أو تجاهله00 وأقل القليل منه يدلنا على الله العلى القدير، ولكن الملحدين أصيبوا بالعمى والصمم والبكم، وجهلوا أبين البيان على وجود الله ووحدانتيه([17])0
***
سأل الملحد كذلك عن علة دوام التكليف وسببه، بعد الرسول e، وطلب أن يكون الجواب من المعقول لا من المنقول00 وكان الجواب كما طلب00 فالحق تعالى حكيم لا يهمل خلقه دون أمرهم بالخيرات ونهيهم عن المنكرات، وإن فعل ذلك اختار لهم الضلال على الهدى00 ومن كان كذلك لم يكن رحيما، كما أن الإهمال يدعوا إلى الفساد([18])0

كما أن من شأن ما ركب فى عباده من استطاعة، وفطرهم عليه من منازعة الهوى، يدعوا إلى ذلك التكليف صيانة لهم من الفئ والضلال([19])0

التكليــف أيضا يحمل معنى الرحمة والحكمة والحجة، الرحمة من الله بأوليائه، والحكمة فى تصرفه وإنشائه، والحجة على أعدائه، فإذا لم يكن ثمة تكليف كان هذا عيباً فى الحكمة والتدبير، والله برئ عن هذا0
والعباد فى حاجة إلى التكليف، الذى يحمل من الله لهم الرحمة بهم، فى أمره ونهيه وإرشاده، والناس تتنازعهم الأهواء وفطروا على الاختلاف، ومن شأن حكم الله أن يجمعهم على الهدى، وفى ذلك يبقى حكم الله أمام حكم البشر والعلم أمام الجهل، والحكمة أم الرعونة، وهدايات السماء أمام ضلالات الأرض، بها يكون الحق والعدل والمساواة، فهى قانون الله بين خلقه، والحكيم المدبر الرحيم يجب لخلقه أن يغلبوا الجهل والهوى والخلاف ويتبعوا أمره لأن فيه صلاحهم، وصلاح أمورهم([20])0
***
القاسم يرى أن من الواجب على الله إرسال الرسل، بل هو يحدد ذلك فعلى الله أن يرسل فى كل قرن من القرون رسولاً، وذلك لحكمته تعالى، فالحكمة هى التى أملت ذلك الوجوب00 وهو واجب على ما أظن أخلاقى لا أكثر0
من خلال هذا التصور فى النبذة، استشفى القاسم أيضا وجوب أن يخص بالإمامة أهل بيت معروفين منسبين، ومن ثم هم آل بيت رسول الله، ولذا يجب مودتهم لقربهم من رسول الله، وجهادهم وحب الله لهم، وعلى رأسهم سيدنا على بن أبى طالب([21])0

ثم أقرب قرابة الرسول، e، هما السبطان، ابنا الرسول الطالوان وأمهما وذريتهما من بعدهما، ويشترط فى الإمام من ذريتهما أن يكون أرجحهم عقلاً وأحسنهم مقالاً وفعلاً، وأشهرهم حكمة وفضلاً([22])0

ما الحكمة فى خلق الله للضوارى من ذوات السموم والمضار0000؟
ينبغى أولاً بيان أن الخالق حكيم ولا يخلق إلا لحكمة، وهذه الهوام أو الضوارى المخلوقة قد أعطاها الله من الإمكانيات ما يساعدها على العيش والاستمرار فى الحياة، وفيها من العجائب ما تعجز الأفهام عن إدراكها أو الحديث عنها، وكذلك الذرة كيف تحس وتدرك وتفهم وتعيش([23])00 00إلخ0
أما ما ينال الآدميين من ضرر الهوام، فأجر المسلم فيها عظيم، ويحمل معنى التخويف والعبرة والعظة، والحجة على الفاسقين، والألم يدعونا تذكر الموت والفناء، والزهد فى الدنيا0

وكما أن أن الصحة نعمة، فالمرض والألم بلاء ومحنة، فالحمد لله على عطائه وسرائه وضرائه([24])0
فهل يعوض الله البهائم عن آلامها عندما تألم بالموت والأسقام، وقتل بعضها لبعض؟00 يرى القاسم، والزيدية جميعاً، ذلك، فعدل الله وحكمته ورحمته تدعو إلى ذلك، وجديرة بألا تفوت على مخلوق مصلحة هو يستحقها أو عوضاً هو له([25])0

ورد على المجبرة ومن ادعى أن البهائم بعد الحشر تكون تراباً، ولا يجعل الله لها على ألمها ثواباً، وهو جهل وبعد عن اليقين، وعدم فهم للعدل وإفناؤها ضد العدل والحكمة والرحمة وقاعدة العوض والمنفعة التى ارتضاها الله لعباده([26])0
***
سأل الملحد أيضا عن دوام التخليد فى الآخرة 00 وهى متعلقة بالوعد والوعيد، وتحقيق الله لما وعد به المؤمنين من الثواب والجنان، ووعيده للكافرين بالنيران، والله عز وجل صادق فى وعده ووعيده، وهو من الحكمة والعدل، وقد قال العدلية بوجود الوعد والوعيد، ولم يستثنوا من ذلك أحداً0
وقد رد القاسم على من قال بأن له تعالى، أن يخرج من أهل النار من يشاء بفضله وشفاعة النبى e وبعض عباده المؤمنين، الذين يأذن لهم بتلك الشفاعة([27])0

وتساءل القاسم كيف يخرج الله الكافرين أو الفاسقين العصاة، أصحاب الكبائر، من النار بعد أن دخلوها عقاباً على ما فعلوا، أو ليس هذا اختلاف لوعيده، وإبطال لعدله وحكمته، من كون الجزاء من جنس العمل، كما أن ذلك يطمع الكافرين والفاسقين بالغى والبطر والفساد اتكالاً على أن الله سيخرجهم من النار بعد دخولهم فيها، وفى ذلك نقص لما أنزل، من كونهم خالدين فيها أبداً وإبطال لعلمه لقوله فيهم وكذباً ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون0

ثم كيف يتحقق الردع والزجر الإلهى للكافرين والفاسقين فيؤمن من أبى ويطيع من عصى إن كان مصيره فى النهاية إلى الجنة([28])؟‌
كذلك سأل الملحدون لم لا يهلكهم الله ويفنيهم ويميتهم فى النار، بدلا من دوام التخليد فيها، سيما وأن ذلك يتناقض مع رحمته التى ذكر فى تنزيله أنها وسعت كل شئ؟
وفى ذلك مخالفة لوعده ووعيده وعدله، والمخالف ليس بحكيم ولا صادق مما يدل على النقص بين الجميع0
ثم إن فى إماتتهم راحة لهم، وتخليصاً لهم من العذاب، وتفريجاً لكروبهم، بعهد قتلهم الرسل وعباد الله المؤمنين، وما اقترفوه من فساد وطغيان00 ولهو وفجور([29])00

والعذاب فى النيران درجات، فكل ظالم بحسب وجبروته وطغيانه، فإبليس وفرعون وهامان وقارون فى مرتبة مختلفة عن غيرهم من الكافرين، من قتلة الأنبياء والرسل والأولياء والأئمة الطالوين، وكذلك العصاة فى درجة أخف من درجة السابقين، ولله حكمة بالغة لا يدركها الجاهلون0
فلا ينبغى أن يطمع جاهل، كفر وفرج وعصى واستكبر، فى أن يخلف الله وعده أو وعيده، فهو صادق حكيم، لا يكذب ولا يعبث فى أقواله أو أفعاله، وأحكامه ماضية، فلا يمنين كافر نفسه، أو عاص قاتل للأئمة والناس بلا جريرة إلا الاستبداد والطغيان، وبداوة البداوات على رأسه، من جراء شهوات نفسه، أن يعفو الله عنه، ولم يتب ولم يقتص منه فى الحياة الدنيا00 فمن شاء مغفرة الله له فعليه بقضاء الحقوق إلى أهلها قبل أن يدركه الموت وهو كاذب00 فيقول }رب ارجعون{ وهو كاذب، فيرد عليه المولى :} كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يرجعون{([30])0

جاء الكتاب الرابع من المعجز للقاسم العيانى تحت عنوان "كتاب شواهد الصنع والدلالة على وحدانيته تعالى وربوبيته"([31]) واشتمل على خمسة أبواب هى على النحو التالى :
باب الدلالة على الله عز وجل0 ويدور حول مبحث الوجود0
باب الدلالة على صنع الله فى الحيوانات0 ويدور على مشاهدة الآثار والاتقان والحكمة0
باب الدلالة على نفى الصفات عن الخالق والدليل على قدمه، ويدور حول نفى الصفات السلبية كالحدوث والمادة الجسمية والعرض والماهية والمكانية والولد وما شابه ذلك0
باب الدلالة على نفى الصفات عن الله فاطر السموات0 ويدور حول بيان أن الصفات هى عين الذات وليست متغايرة ولا منفصلة عنها0
باب الدلالة على التعبد0 وهو مبحث فى التكليف والبعث والنشور والجزاء والإمامة وحتى آل البيت فى ذلك0
***
فى صدر الكتاب الذى ذكره القاسم، ودار حول شواهد الصنع، والدلالة على وحدانية الله تعالى وربوبيته، يقول بعد المقدمة والحمد والثناء على الله ورسوله: "إن الله جل ذكره، تعرف إلى خلقه بإيجاد ما أوجد من بريته وصنع وبدأ بمشيئته، ثم أوصل إليهم العلم بربوبيته، بما أظهر لهم من أعاجيب فطرته، وشواهد صنعه وآياته([32])0

(1) فى باب الدلالة على الله، عز وجل([33])، بدأ القاسم بسؤال الملحد الذى سأله ما الدليل على الله رب العالمين ؟
هذا السؤال يجدر أن يسأله غير الملحد، الباحث عن أدلة الوجود ليهتدى شاربه، أو يستدل على هذا الوجود، فكيف تستدل على وجود الله إذن يرى القاسم أن هناك ستة أوجه يمكن بها الاستدلال على وجو د الله على النحو التالى :
أن يكون الإنسان قد خلق نفسه0
أو يكون قديماً لم يزل0
أو يكون حدثاً لعلة من الفلك0
أو يكون هملاً رسلاً لا من علة ولا من خالق0
أن يكون متولداً من إنسان وإنسان من نطفة إلى ما لا نهاية له ولا أصل ولا غاية ولا أول0
أن يكون من خالق محدث قديم حى([34])0

وقد أبطل القاسم كل هذه الوجوه عدا وجه واحد من الصواب إما للدور أو التسلسل أو الاستحالة، وبقى الاستدلال السادس هو الوحيد الصواب، أن الإنسان خلق وخالقه قديم، ومن ثم كان هذا القديم هو الله عز وجل([35])0
كما استعان بدليل الحكمة والإتقان والفرع والأصول ودليل النهاية والغاية والتحديد والتناهى، ودليل الحياة والموت وهكذا كل هذه الأدلة تدل على حدوث الجسم وقدم الخالق([36])0

رد القاسم على دعوى أنه ما الذى يمنع من أن يكون لم يمت من هذه الأصول إلا وقبلها أموات إلى ما لا نهاية00 كذلك تناقض الملحد حين قال بأن الإنسان محدث ثم يعود مرة أخرى فيقول هو قديم([37]) 00 فكيف يكون محدث وقديم فى الوقت ذاته؟

وركز القاسم على دليل الحركة – والسكون والتناهى 00 ويختم هذا الباب بقوله : إذا لم يكن الجسم، كائنا ما كان، من الأشياء، لم ينفك من هذين الحالين، فهو محدث بأبين البيان، وإذا كانت الأعراض لا توجد إلا فى الأجسام، وكان محالاً أن تكون قبلها، فسبيلها فى الحدث سبيلها؛ لأنا نفينا أن يكون على كون الإنسان، وغيره من الحيوان، جسماً أو عرضاً، لأنهما محدثان، فلما بطل أن يكون علة كون الإنسان، وغيره من الحيوان، جسماً أو عرضاً أو عدماً، صح أن له صانعاً قديماً، وهو الله رب العالمين([38])0

ويبدو أن القاسم ألزم نفسه، والتزم تماماً، بالاستدلال بالمعقول، ولم يتطرق إلى المنقول
***
(2) جاء الباب الثانى من هذا الكتاب ليحدثنا القاسم عن الدلالة على صنع الله فى الحيوانات([39])، ويبدو من العنوان أنه سيلزم نفسه بأن يتحدث عن آثار صنع الله وإعجازه فى خلق الحيوانات، فلننظر هل التزم بذلك أم تجاوزه0

بدأ مقالته بسؤال من سائل، وهو تقليدى لدى الفلاسفة والمتكلمين، واعتادوا عليه، سواء وجد هذا السائل أم لا000 وجاءت فحوى السؤال ما الدليل على الله عز وجل ؟

وكما جاء السؤال بسيطاً، ومضمونه كبيرا جداً، بحجم الفلسفة الإنسانية فى مسائل الوجود والإلهية، كذلك كان رد القاسم حيث قال : أقرب الأدلة إلى الإنسان نفسه، وذلك أنا نجد الإنسان بعد عدمه، فنعلم أن له موجوداً، أوجده بعد عدمه، لم يجد فى نفسه حكمة، ونجد عليه نعمة، ولا تكون الحكمة إلا من حكيم، ولا النعمة إلا من منعم كريم"([40])0

ما الحكمة التى فى خلق الإنسان وما النغمة التى عليه ؟
أما الحكمة التى فى الإنسان هى الصنع الذى لا يكون إلا من صانع حكيم وأما النعمة فالرزق المبسوط، الذى لا يصح إلا من رازق من كريم00 وهذه نعم محكمة، لا تكون إلا من حكيم عليم، وتدبير لا يكون إلا من مدبر قديم، ورحمة لا تكون إلا من رحيم([41])0

والدليل على ما ذكرنا من العلم والحكمة والرحمة، أن الرحمة هى الفضل والنعمة، وأن الكريم هو الباسط للمنافع عند الحاجة والفاقة، وأن ذلك لا يكون إلا من عالم حكيم([42])0

وبدأ القاسم فى الغوص فى الإنسان وتكوينه، منذ أن كان نطفة، وما حدث فى الرحم، وكيف يتطور الخلق فى داخله، من مضغة وعلقة ثم عظام ولحم وكيف يضع الله فى الإنسان أدق تفاصيل التفاصيل، وعندما يخرج إلى المياه، وعطاءات الله له من رزق، وتعهد وتربية ونمو، يقول: "فبينما نحن نطف مقبرة أموات، إذ نحن على غاية الكمال، من توصل الأجساد والأوصال، والحياة بعد موتنا، والتكثير بعد قلتنا، والعقول بعد غفلتنا000 فلما نظرنا إلى هذه الحكمة البالغة والنعمة السابغة، علمنا أن الحكمة صفة الحكيم، لما فيها من بيان علم العليم، والصفة لا تكون إلا لموصوف([43])0
والعقل شاهد على حكمة الله فى الخلق00 أما كيف تولدت هذه الحكمة فإن قال حدثت من علل قديمة حية حكيمة مدبرة، فهذا هو صفة الخالق، والخالق ليس يسمى عللاً0 وإنما هو الله الذى لا إله إلا هو العليم الحكيم0
واستعان بدليل الحركة والسكون، والحدوث والقدم، على بيان أن الحكمة أو العلل محدثة، وما لم ينفك من الحوادث فهو حادث، وبذلك صح الخالق المحدث([44])0

يقول القاسم : "إنما سميت الحكمة حكمة لأنها محكمة، والحكيم فهو المتقن المبرم، والإتقان والإبرام فلا يكونان إلا بعلم وإحكام 00 وهكذا يتسلسل حتى يكون ذلك كله من الله ذى الجلال والإكرام([45])"0
والحكمة تضاف إلى حكيم، وكفالة الحيوانات لأولادها، وطلبها للنكاح والمآكل والمشارب، وجميع منافعها ومصالحها، يدل على أن ذلك من حى حكيم كما أن خلق الله للعقول من أدل الدلائل على خالقها([46])0
***
(3) جاء فى الباب الثالث ليعالج فيه القاسم قضية الصفات الإلهية تحت عنوان "باب الدلالة على نفى الصفات عن الخالق والدليل على قدمه([47])، والعدلية جميعاً معتزلة وزيدية، ومن قال بمقالتهم من الشيعة، على أن الصفات هى عين الذات، فليس هناك ثمة صفات مغايرة أو مستقلة عن الذات، وبدا كلام بعضهم وكأنهم ينفون الصفات، ولكن الحقيقة هم يثبتون صفات هى عين الذات غير مستقلة عنها00 وهم بذلك يخالفون الأشاعرة والكلابية، أو لنقل الصنعانية جميعاً، ليدخل فيهم الكرامية والنجارية، وقد اعتقد بعض المتكلمين فى القديم والحديث، أن هذه القضية مفتعلة أو لفظية، والمخالفة لا تتعدى اللفظ ، أما أنهم يتفقون فى المعنى، فهو ما يقول به الكثيرون منهم0

صدر القاسم هذا الباب ببيان أن الخالق يخالف المخلوق فى كل شئ ولا يشبه فى وجه من الوجوه، ولو أشبه المخلوق فى بعض صفاته لاشترك معه فى الحديث، والحدث لا يتعلق بقديم، وهذه الصفات التى قصدها القاسم هنا الصفات السلبية، مثل الحدوث والتغاير والحركة والسكون والجسمية والجوهر والعرض والحدود والتناهى والمكانية، وغيرها من الصفات التى هى من خصائص المادة أو المخلوق أو الحدث([48])0
***
تساءل الملحد لم لا يكون الخالق نفسه مخلوقاً، وكذلك خالقه إلى ما لا نهاية؟00 وهو سؤال الدهرية تماماً00 الذين يعتقدون الوجود حلقة و دائرة ولا أثر للخالق فيها، وإذ ما فنى الوجود لا يعود0 وأحال القاسم هذا الافتراض؛ لأن حدوث الخالق يجعله مثلاً فى الصفات مع غيره، فلا ينحاز عنهم، كما أنه لا يساوى بينه وبينهم، مما يبطل الألوهية فى حق الجميع([49])0

كما لا يجوز أن يكون الخالق آخر المخلوقات؛ لأنه يخالف فكرة الحدوث والقدم، وكون بعض المخلوقات قديم، والآخر محدث، وكل محدث يحتاج لقديم أحدثته، كما أنه من وجه آخر يتناقص، لأنه يقتضى التسلسل إلى مالا نهاية، ويستحيل آخر بلا أول([50])0

واستعان القاسم بفكرة السبر والتقسيم فى إبطال تساؤل الملحد، فهو إما محال أو يقتضى التناقض أو العدم أوالتناهى، ومثال ذلك قوله :"إن هذه الأرباب المخلوقة التى زعمت محدثة، وإذا كانت محدثة، فيستحيل قولك : خلقت أمثالها؛ لأن المخلوق لا يقدر على خلق مثله، ويستحيل أن تكون الأجسام من فعله([51])0
***
(4) أما الباب الرابع فكان أيضا حول الدلالة على نفى الصفات عن الله فاطر السموات([52]) وفيه يرد القاسم على تساؤل مفاده : هل لله صفات؟

ولأن يؤمن بالمنهجية فى الطرح وجه السؤال نحو المقصود منه، فإن كان المقصود منه أن لله صفات هى غيره فلا، أما إن كان المقصود هو أن لله صفات هى هو فهو أمر مقبول([53])0
وأخذ القاسم يبين لم لا يمكن أن تكون لله صفات هىغيره؛ لأن ذلك يعنى أنها متعقلة به، وهو محل لها، أو مباينة له، وهذا يعنى الاشتراك والتعدد فى القدم، وكلا الأمرين محال على الله0
كما أن التعليق يفيد المكانية، ولو تعلقت بجزء دون جزء؛ لكان ذلك يعنى أن هناك ما يحل بأجزائه، بعضها دون بعض، وفكرة الكل والبعض تعنى التفرق والتجمع، والحركة والسكون، وهو من خصائص الأجسام([54])0

إذن فصفات الله هى هو، فهو واحد ليس معه شئ يعلم به ولا يقدر، ولكنه غنى حكيم عالم قادر حى بغير معان سواه0
والتساؤل الذى يترتب على ماسبق، كيف علمتم أنه حى عالم قادر، بل كيف عرفتموه هو لا يرى؟00
والقاسم لا يتردد فى طرح أدلته، فالله، عز وجل، حى لأنه حكيم أتقن صنعته، وذلك لا يتأتى من ميت، وهو عالم لإحكامه الصنع أيضاً، والصانع لا يفعل إلا بعد علمه بالمصنوع، وهو قادر أيضا؛ لأنه أبدع من عدم، واخترع من غير أصل، وتلك صفات القادر لا العاجز([55])0

ويبقى أن نشير إلى أن القاسم قد أجاب على تساؤل: فكيف يعقل شئ ليس بجسم ولا عرض، ولا له كل ولا بعض ولا طول ولا عرض؟00 بأن أجاب بقوله : يعقل بما أظهر من صنعة الجليل الذى لا تمتنع منع العقول، ولا توجد إلى دفعه سبيل0 هذه إجابته، واعتقد أنه أوجز أيما إيجاز فيها، وكان ينبغى أن يفضل القول فيها00 حيث جاء السؤال "بكيف" ولا يسأل عن الإلهية "بكيف" أبداً([56])0
وتطرق التساؤل عن المعرفة، فبم عرف المؤمنون ربهم00 سيما وهم لا يرونه؟00 لم يجد القاسم صعوبة فى بيان أن العقل هو مفتاح تلك المعرفة، وهو قادر على إدراك الإلهية، إدراكاً لا يقبل الفساد ولا المحال، وذلك عن طريق تأمل آيات صنعه فى الأشياء والأكوان، والحيوان والنبات والجماد، والنفس البشرية، وهى تدل على حتمية أن يكون هناك حكيم عالم قادر حى مبدع، صنع وأبدع وأتقن، ويستحيل أن تكون هذه المخلوقات قد خلقت نفسها، أو خلق بعضها بعضاً00 لأنه لا يقبل عقلاً، ولا يسع عاقل المعنى فى إنكار وجود خالق لهذه الكائنات، له صفات الكمال والجلال والجمال وهى ذاته([57])0
([1]) انظر النص من 1-4 0
([2]) انظر النص من 4-22 0
([3]) انظر النص 11 0
([4]) النص 16 0
([5]) النص 21 0
([6]) النص من 22-50 0
([7]) النص 25-26 0
([8]) النص 26-29 0
([9]) النص 30-33 0
([10]) النص 33-38 0
([11]) النص 38-46 0
([12]) النص 46-50 0
([13]) النص من 51-67 0
([14]) النص من 51-53 0
([15]) النص 53-54 0
([16]) النص 55-56 0
([17]) النص 57-58 0
([18]) النص 58-59 0
([19]) النص 59 0
([20]) النص 60 0
([21]) النص 60 0
([22]) النص 60-61 0
([23]) النص 61 0
([24]) النص 62-630
([25]) النص 63 0
([26]) النص 63-64 0
([27]) النص 64-65 0
([28]) النص 65-66 0
([29]) النص 66 0
([30]) النص 67 0
([31]) النص من 68-105 .
([32]) النص 68 0
([33]) النص 69-79 0
([34]) النص 69 0
([35]) النص 7-71 0
([36]) النص 72-74 0
([37]) النص 75 وما بعدها0
([38]) النص 79 0
([39]) النص من 79-93 0
([40]) النص 79-80 0
([41]) النص 80 0
([42]) النص 80 0
([43]) النص 83 .
([44]) النص 87 0
([45]) النص 89-90 0
([46]) النص 92 0
([47]) النص من 93- 96 0
([48]) النص 93-94 0
([49]) النص 94 0
([50]) النص 95 0
([51]) النص 95-96 0
([52]) النص من 97-100 0
([53]) النص 97 0
([54]) النص 97 0
([55]) النص 98-99 0
([56])النص 99 0
([57]) النص 99-100 0

الجمعة، 28 نوفمبر 2008

Blogger :: الاسلام دين ودنيا :: تهيئة النص

حوارات تليفزيونية عن تفسير الرؤية للشيخ سامي عقل"حفظه الله"

هذه بعض الروابط ليشاهد من يحب التعرف على حقيقة الرؤية من التليفزيون السعودي على القناة الثانية للشيخ سامي عقل حفظه الله باللغة الانجليزية في تفسير الرؤى من وجهة نظر إسلامية وفق الكتاب والسنة .

وجزى الله من ينسخها على المواقع الاسلامية خيرا
http://video.google.com/videoplay?docid=5593991537667476565&hl=enhttp://video.google.com/videoplay?docid=5330773012616292731&hl=enhttp://video.google.com/videoplay?docid=910663345697982157&hl=enhttp://video.google.com/videoplay?docid=1256157978091104351&hl=enhttp://video.google.com/videoplay?docid=-4194131270701938081http://video.google.com/videoplay?docid=-7437765446636263698&hl=enhttp://video.google.com/videoplay?docid=992481413900911587&hl=en

الثلاثاء، 25 نوفمبر 2008

مناظرة القاسم الرسى للملحد
تحقيق د.امام حنفي سيد عبد الله
انقل إليكم من كتاب الدليل الكبير في الرد على الزنادقة والملحدين مناظرة دارت بين صاحب هذا الكتاب وهو الإمام القاسم ابن إبراهيم الرسى ت 264هـ وبين ملحد والكتاب من جزأين جزء يذكر فيه المؤلف أدلة وجود الله وينقد ادلة المعارضين ثم يبين صحة الاسلام ويتكلم فى بعض مسائل العقيدة والجزء الثانى عبارة عن مناظرة دارت بينه وبين ملحد كان يدور فى البلاد يثير الشبهات حتى تلقفه الرسى ودارت بينهما مناظرة انقل اليكم وقائعها وقبل نقل المناظرة انبه الى شكى فى عقيدة الامام القاسم الرسى واقترابه من التشيع وذلك بسبب ارائه فى امامة على رضى الله عنه وتقديمه له على بقية الخلفاء الراشدين اما المناظرة فحسب علمى لم اجد فيها مخالفة لعقيدة اهل السنة والجماعة وهذا سبب عرضى للمناظرة هنا وان كان هناك مخالفة خفيت على فالرجاء تنبيهى وان كانت المخالفة كبيرة فلتحذفوا الموضوع مع العلم ان فى المناظرة مصطلحات صعبة تحتاج الى من يبسطها ولا اجد لهذه المهمة خير من ابو مريم ولا شكفي وصف المحقق لمخطوط مناظرة الملحد جاء فى صدر المصورة ما يلى :هو كتاب رد فيه على رجل من ارباب النظر من الملحدة ، وكان يغشى مجامع المسلمين ويورد عليهم الاسئلة الصعبة ، فى قدم العالم وغير ذلك ، حتى وافاه المؤلف واجابه على ما عنده من المشكلات فوضح له الحق وتاب الى اللهتاريخ المخطوط / خط قديم .. وربما كتب فى القرن الثالث او الرابع الهجرى عدد الاوراق 6 ورقاتالقياس 25×15 سموهذه الرسالة ضمن مجموع كتب القاسم من ورقة 69 حتى 73وهى احدى مخطوطات المكتبة المتوكلية اليمنية بصنعاء تحت رقم 167 علم كلام . رقم التصوير 215يتبع

الحمد لله وبعد، فهذه ترجمة صاحب المناظرة من الوافي في الوفيات:القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب أبو محمد الرسي منسوب إلى ضيعة كانت له جهة المدينة يقال لها الرسلم يسمح المنصور له بالإقامة فيها في كفاف من العيش بل طلبه مع الطالبيين ففر إلى السندومن شعره : أرقت لبارقٍ ما زال يسري ... ويبكيني بمبسمٍ أم عمرو فلم يترك وعيشك لي دموعاً ... بأجفاني ولا قلباً بصدريوأعقب من ولده ثمانية أنبههم الحسين بن القاسم وكان زاهداً ومن نسله أئمة صعدة(انتهى)قلت: وأئمة صعدة من اليمن كانوا زيدية ، وذكر ابن خلدون في التاريخ أنه توفي سنة 245 هـوقد بحثت عن ترجمته في كثير من المصادر فلم أوفق إلا لهذا ، ولأحفاده أئمة صعدة أخبار كثيرة . والله أعلم.

نص المخطوط

قيل : كان وافى مصر رجل من الملحدين ، فكان يحضر مجالس فقهائها ومتكلميها فيسالهم عن مسائل الملحدين ، وكان بعضهم يجيب عنها جوابا ركيكا وبعضهم يزجره ويشتمه ، فبلغ خبره القاسم بن ابراهيم وكان متخفيا فى بعض البيوت ، فبعث صاحب منزله ليحضره عنده ، واحضره ، فلما دخل عليه قال له القاسم : انه بلغنى انك تعرضت لنا وسالت اهل نحلتنا عن مسائلك ، تريد ان تصيد اغمارهم بحبائلك ، حين رايتا من ضعف علمائهم عن القيام بحجج الله والذب عن دينه !ونطقت على لسان الشيطان بعنه الله : وقال (لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا) سورة النساء اية 869ظ/ فقال الملحد : اما اذ عبت اولئك وعيرتهم بالجهل ، فانى سائلك وممتحنك . فان انت اجبت والا فانت مثلهم .قال له القاسم : قل ما بدا لك واحسن الاستماع وعليك بالنصفة واياك والظلم ومكابرة العيان ودفع الضرورات والمعقولات (1) ، اجبك عنه وبالله استعين وعليه اتوكل وهو حسبى وكفى ونعم الوكيل .قال له الملحد عند ذلك : خبرنى ما الدلالة على انه الصانع ؟قال القاسم : الدلالة على ذلك قوله فى كتابه عز وجل (يا ايها الناس ان كنتم فى ريب من البعث فانا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر فى الارحام ما نشاء الى اجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا اشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد الى ارذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الارض هامدة فاذا انزلنا عليها الماء اهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج * ذلك بان الله هو الحق وانه يحيى الموتى وانه على كل شىء قدير * وان الساعة اتية لا ريب فيها وان الله يبعث من فى القبور) 5 – 7 سورة الحجووجه الدلالة فى هذه الاية ، فهو كوّن الانسان ترابا ثم نطفة ثم علقة لا تخلو هذه الاحوال من خلتين :اما ان تكون محدثة (2) او قديمة (3) ، فان كانت محدثة فهى من ادل الدلالة على وحدانيته ووجوديته فان كان كونها وهو معدوم بعلل منها :ان المحدث متعلق فى العقل المحدثة ، كما كانت الكتابة متعلقة فى العقل بكاتبها والنظم بناظمها ، اذ لا يجوز كتابة لا كاتب لها ووجود اثر لا مؤثر له فى الحس والعقل .ومنها ان المحدث هو ما لم يكن فكُون ، فهو فى حال كونه لا يخلو من احد امرين :اما ان يكون كوّن نفسه وهو معدوم او غيره كوّنه . فان كان هو الذى كون نفسه لم يخل ايضا من احد امرين :اما ان يكون كوّن نفسه وهو معدوم (4) ، او كونها وهو موجود (5) . فان كان كونها وهو معدوم اُوجد ، فمحال ان يكون المعدوم اوجد نفسه وهو معدوم ، وان كونها وهو موجود ، فمحال ان يكون الموجود اوجد نفسه وهو موجود ! اذ وجود نفسه قد اغناه عن ان يكوّن بها نفسه ثانية .فاذا بطل هذا ، ثبت ان الذى كوّنه غيره ، وانه قديم ليس بمحدث ، اذ لو كان محدثا كان حكمه حكم المحدثِ وان كانت الاحوال (6) قديمة ، فذلك يستحيل ، لانا نراها تحدث شيئا بعد شىء فى حيز واحد فى نفس واحدة .ولو كانت كلها مع اختلافها فى انفسها واوقاتها قديمة ، لكانت الترابية نطفة مضغة ثم علقة عظما لحما انسانا فى حالة واحدة ! اذا القديم هو الذى لم يكوّن ، ولم يزل وجوده ، واذا لم يزل وجود هذه الاحوال ، كان على ما قلت من كونه ترابا ، مضغة ، لحما ، عظاما ، انسانا فى حالة واحدة ، اذا الاحوال لم تسبق بعضها بعضا ، ولانها قديمة ، ولان كل واحد منها فى باب القدم سواء . واذا استحال وجود هذه الاحوال معا فى حين واحد ، فى حالة واحدة ، وثبت ان التراب سابق للنطفة والنطفة سابقة للحال ، التى معها ان صح الحدوث ، وانتفى عنها العدم ، واذا صح الحدث فقد قلنا : بدءً ان المحدث متعلق فى العقل بمحدثه .قال الملحد : انكرت ان تكون الاحوال محدثة ، وان المحيز التى هى الجسم قديمة ؟!قال القاسم : انكرت ذلك ، من حيث لم اره منفكا من هذه الاحوال البتة ، ولا جاز ان تنفك ، فلما لم اره منفكا من هذه الاحوال ولا جاز ان تنفك ، كان حكم العين كحكم الاحوال فى الحدث .قالا لملحد : ولم ؟70 و / قال القاسم : من قبل ان المحيز اذا كانت قديمة وكانت الاحوال محدثة ، فهى لم تزل تحدث فيها الاحوال ، واذا قلت : لم تزل تحدث فيها ناقضت (7) ! لان قولك : لم تزل . خلاف قولك : تحدث .والكلام اذا اجتمع فيه اثبات شىء ونفيه فى حال واحد ، استحال ، وذلك انها اذا لم تزل تحدث فيها ، فقد اثبتها قديما لم يزل يحدث فيها ، واذا كان هذا هكذا ، فهى لم تسبق الحدث ، فقد صار الحدث قديما لان صفته الجسم الذى هو قديم .واذا كانت صفته ، استحال ان يكون صفته القديم ، الذى لا يخلو منها ، ولا يزول عنها محدثا ، وهذا محال بين الاحالة ، لان فيه تثبيت المحدث فديما ، والقديم محدثا !!قال الملحد : فما انكرت ان تكون الاشياء هى التى فعلت الاحوال ؟!!قال القاسم : بمثل ما انكرت زيادتك الاولى ، لانه لا فرق بين ان تكون هى الفاعلة ، وهى لم تسبق فعله ، او تكون قديمة لم تسبق صفاتها .لان الفاعل سابق لفعله ، متقدم له ، فكذلك القديم الذى لم يزل سابق للذى لم يكن ، لان فى اثبات الفعل له اثبات بحدث فعبه ، وهذا لم يسبق فعله ! فقد جمعت بينهما فى حالة واحدة وهذا محال بيّن الاحالة .قال الملحد : فانى لم ار كونه شىء الا من شىء ، فما انكرت ان تكون الاشياء لم تزل يتكون بعضها من بعض ؟! وما انكرت ان يكون الشىء الذى هو الاصل قديما ؟!قال القاسم : انكرت اشد الانكار ، وذلك ان الشىء الذى هو الاصل ، لا يخلو من ان يكون فيه من الاحوال والهيئات والصفات مثلها فى فرعه ، او ليس كذلك .فان كان فيه مثلها فى فرعه ، فحكمهُ فى الحدوث كحكمهِ ، وقد تقدم الكلام فى هذا المعنى ما فيه الكفاية .على ان نجد الصور والالوان والهيئات والصفات بعد ان لا نجدها ، ووجود الشىء بعد عدمه هو ادل الدلالة على محدثه .فحدثنى عن الصورة (8) من اصل حدثت ؟!فان قلت : انها قديمة . احلت ، وذلك انها لا تخلو من امور احدها : ان الصورة لو كانت قديمة ، لكانت فى التصور الذى ظهرت الصورة فيه ا وفى عنصره الذى يسمونه هيولا (9)فان كانت فى هذا التصور ، الذى ظهرت به الصورة فيه ، فان فيها وقدلكم قواكم ، انه قد يوجد على خلاف هذه الصورة .وان كانت فى الذى تسمونه هيولا ، فلابد فى هذا المصور ، ان تكون قد انتقلت عنه الى هذا .فان قلت : انتقلت . احلت ، لان الاعراض لا يجوز عليها الانتقال ، فظهرت عند اللبث .وفيه خلة اخرى ، وهى انها لو كانت فى الاصل ، ثم انتقلت عنه الى فرعها ، فقد جعلت لانتقالها غاية ونهاية ، فقد صح حدث الذى انتقلت عنه هذه الاحوال.فان قلت : لم تزل تنتقل !كان الكلام عليك ، فى هذا اللغو ، كالكلام الذى قدمناه انفا ، فى باب لم تزل تحدث .وفيه معنى اخر ، وهو انك اذا جعلت الاشياء فى وهمك شيئين ، اذا افردت كل واحد من صاحبه ، نقص ، وانتهى الى حد ما ، وقل. واذا جمعت كل واحد منهما الى صاحبه زاد ، وانتهى الى حد ما .افليس اذا (انتهى فى حال) وزاد فكثر ، او نقص فقل ، فالنقص والزيادة يحدثان بالنهاية عنه ، واذا ثبت فيه النهاية ، ثبت فيه الحدوث !!فقال الملحد : وما انكرت ان تكون صورة التمرة والشجرة ، كامنة فى النواة ، فلما وجدت ماشاكلها ظهرت ؟!قال القاسم : ان هذا يوجب التجادل ، وذلك انا لو تتبعنا فى اجزاء النواة ، لم نجد فيها ما زعمت .70ظ/ وشىء اخر وهو انه لو جاز هذا لجاز ان تكون الاشياء كامنة منه فى صورة الخنزير والحمار والكلب ، فيكون الانسان انسانا فى الظاهر ، كلبا حمارا خنزيرا فيلا فى الباطن !!فان قلت ذلك ، لحقت (بالطبائعية) (10) فان شئت تكلمنا فيه على انه قد ظهر من حمقهم لاهل العقول ما يرغبهم عن القول بمقالتهم .قال الملحد : وكيف يجوز ان يكون الانسان انسانا فى الظاهر ، وكلبا وحمارا فيلا فى الباطن ؟!!قال الملحد : فان بين التمرة والنخلة والنواة مشاكلة ، وليس بين الانسان والكلب مشاكلة !قال القاسم : لو كان بين النواة والتمرة والنخلة مشاكلة –مع اختلاف التشريحات- (لجاز) ان يكون بين الانسان والكلب مشاكلة !ووجه اخر ، وهو ان الصورة لو كانت فى الاصل نفسه ، لكان الاصل نفسه هو التمرة ، لان التمرة انما كانت من تمرة المصورات ، وعرفت من غيرها بالصورة!فعلى هذا يجب ان يكون اصلها التمرة وهذا مكابرة العقول ! لانه لو كان هذا كذا ، لكان ظهورها فى نواتها ، ولعرف واشتهر وعمّ ، ولم يستحل وجود صورتين معا فى حين واحد .قال الملحد : ان النواة هى التى تمر بالقوة (11) الهيولية ، اعنى انها اذا انتقلت تنتقل لم تنتقل الا الى شجرتها ، ثم الى تمرتها ثم تعود الى اصلها فتصير نواة فى وسطها .قال القاسم : لو كان هكذا لكانت الطبيعة التى هل الاصل تمر بالقوة ، لانها اذا انتقلت انتقالاتها صارت تمرة ! وهذه مكابرة واضحة وذلك يوجب عليك ان الاصل البحت تمرة خوخة باذنجان ! لانه جائز عندك الانتقال من صورة الى صورة .وان كان حكم الاصول فى الهيئات خلاف حكم الفروع فسنقول فيه قولا شافيا ، ان شاء الله .قال الملحد : ان صح ان حكم الاصول فى الهيئات حكم الفروع ، تركت مذهبى فانه قد عظمت على الشبهة فى هذا الموضع .قال القاسم : اعلم ان طرق العلم بالاشياء مختلفة ، فمنها ما يعرف بالحس ، ومنها ما يعرف بالنفس ، ومنها ما يعرف بالعقل ، ومنها ما يعرف بالظن والحسبان .1- فاما الذى يعرف بالحس : فطرقه خمس : سمع ، وبصر ، وشم ، وذوق ، ولمس .فالسمع طريق الاصوات والكلام والبصر طريق الالوان والهيئات ، والذوق طريق الطعوم ، والشم طريق الارائح ، واللمس طريق اللين والخشونة .2- وما يعرف بالنفس : الخجل والوجد والسرور والحزن والصبر والجزع واللذة والكراهية ، وما اشبه ذلك من التوهم وغيره .3- وما يعرف بالعقل شيئان :• احدهما : ما يدرك بهيئته ، مثل تحسين الحسن وتقبيح القبيح ، وحسن التفضل وشكر المنعم ، ومثل تقبيح كفر المنعم والجور ، وما يجانسه من علم بدائه العقول • والوجه الثانى : هو الاستنباط والاستدلال الذى هو نتيجة العقول كمعرفة الصانع ، وعلم التعديل والتجوير ، والعلم بحقائق الاشياء .4- وما يعرف بالظن والحسبان : فهو القضاء على الشىء بغير دليل (قطعى ، او بالقياس على غيره)انما لخصت لك هذا كله ، ليكون عونا لنا فيما سنعرض من كلامنا ، ويكون احد المقدمات التى نرجع اليها ، فكل شىء من هذه العلوم لا يصاب الا من طريقه ، ولو حاولته من غير طريقه تعثر عليك وكُبتَ ، كمن طلب علم الالوان بالسمع وعلم الذوق بالعين .71و/ فاما احوال الاجسام فان طريق المعرفة بها من جهة البصر ، والبصر لا يؤدى من الرؤية الا الاجسام ، لان الاجسام لا يجوز ان يخلو من هذه الصفات ، فيتوهمه ويمثله فى نفسه خاليا منها ، فاذا لم يجز ذلك ثبت ان الاجسام لا تخلو من هذه الصفات ، وانه لا يجوز حكم اصولها الا كحكم فروعها .-------------------------------------------------(1) الضرورى : فى اللغة كل ما تمس الحاجة اليه ، وكل ما ليس منه بد ، وهو خلاف الكمالى ، وفى النصطلح هو الامر الدائم الوجود ، او الامر الذى لا يمكن تصور عدمه ، وهو مرادف للواجب وضده الجائز ، وبينه وبين الممكن تضايف . اما المعقول فهو مقابل المحسوس وهو ما يدرك بالعقل لا بالحواس ، ولما كانت الحواس عرضة للكثير من الغلط والوهم والضلال ، كانت المعرفة اليقينية مؤلفة من المعقولات لا من المحسوسات . والمعقول فى بعض الفلسفات القديمة ولا سيما فلسفة افلطون مرادف للوجود الحقيقى او للشىء فى ذاته ، تقول : عالم المعقولات وهو عالم المثل المجردة الموجودة فوق العالم المحسوس . والمعقول ما يمكن ادراك حقيقته وفهم طبيعته ومعرفة اسبابه ويقابله التجريبى . قسم ابن سينا المعقولات الى ثلاثة انماط من الوجود وهى التى 1- وجودها متكثرة فى المحسوسات 2- وجودها فى العقل الانسانى بعد الكثرة 3- ووجودها فى عالم المعقولات (2) المحدث : ما يكون مسبوقا بمادة ومدة ، وقيل ما كان لوجوده ابتداء . والحدوث : عبارة عن وجود الشىء بعد عدمه (3) القديم : يطلق على الموجود الذى لا يكون وجوده من غيره ، وهو القديم بالذات .(4) العدم ضد الوجود ، وهو مطلق او اضافى ، فالعدم المطلق هو الذى لا يضاف الى شىء ، والعدم الاضافى او المقيد ، هو المضاف الى شىء ، كقولنا : عدم الامن عدم الاستقرار عدم التاثر . والعدم اما ان يكون مسبقا وهو المتقدم على وجود الممكن ، واما ان يكون لاحقا وهو الذى يكون بعد وجوده .(5) الوجود مقابل للعدم : وهو بديهى فلا يحتاج الى تعريف الا من حيث انه مدلول للفظ دون نفسه . مثال ذلك تعريف الوجود بالكون ، او الثبوت او التحقيق او الحصول او الشيئية او بما ينقسم الشىء الى فاعل ومنفعل والى حادث وقديم .(6) حال الشىء : صفته وهيئته وفى اصطلاح المتكلمين يطلق عليه ما هو وسط بين الموجود والمعدوم ، وهو صفة لا موجودة ، بذاتها ولا معدومة ، لكنها قائمة بموجود كالعالمية وهى النسبة بين العالم والمعلوم .(7) نقض الشىء افسده بعد احكامه ، ونقض اليمين او العهد نكثه ، ونقض ما ابرمه فلان ابطله ، وناقض فى قوله مناقضة ، تكلم بما يخالف معناه ، وناقض غيره : خالفه وعارضه ، وتناقض القولان : تخالفا وتعارضا والكلام المتناقض الذى يكون بعضه متقضيا ابطال بعض . والتناقض فى اصطلاح الفلاسفة هو اختلاف تصورين او قضيتين بالايجاب والسلب . مثل قولنا (ب) ، (لا-ب) او قولنا (ب) صادقة و(ب) غير صادقة اى كاذبة .(8) الصورة : صورة الشىء هى ما يؤخذ منه عند حذف المشخصات ، ويقال صورة الشىء ما به يحصل الشىء بالفعل . والصورة الجسمية : هى جوهر متصل بسيط لا وجود لمحله دونه ، قابل للابعاد الثلاثة المدركة من الجسم فى بادئ النظر بالحس . والصورة النوعية : هى جوهر بسيط لا يتم وجوده بالفعل دون وجود ما حل فيه .(9) الهيولى : لفظ قديم يونانى بمعنى الاصل والمادة ، وفى الاصطلاح هى جوهر فى الجسم قابل لما يعرض لذلك الجسم من الاتصال والانفصال محل للصورتين الجسمية والنوعية .(10) الطبائعية : فرقة يعبدون الطبائع الاربعة ، اى الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، لانها اصل الوجود عندهم اذ العالم مركب منها .(11) القوة مقابلة للفعل ، ومعناها كما يقول ابن رشد (الاستعداد الذى فى الشىء والامكان الذى فيه ، لان يوجد بالفعل)يتبع

قال الملحد : انهم زعموا : ان علة كون الاشياء وفسادها حركات الفلك ، وسير الكواكب .* وبعضهم يقول : ان علتها تماذج الطبعتين اعنى الظلمة والنور* وبعضهم يقول غير ذلك قال القاسم : الدليل على فساد قولهم ، قول الله تبارك وتعالى (ومنكم من يرد الى ارذل العمر) 5 الحج ، وقوله (ومن نعمره ننكسه فى الخلق افلا يعقلون) 68 يس ، فلو كان علة كونه ما ذكروا لكان الانسان لا يتوفى احد فى طفولته ، ولا يفسد كونه مع وجود علة كونه ، اللهم الا ان يقروا بحدوث علة الفساد فيكونوا حينئذ تاركين .فان قالوا : بل علة (1) كونه وفساده قديم ، فالشىء اذا كان فاسدا فى حال كان فيها صالحا ، اذ عللهما موجودة ، ومحال ان يكون عللهما موجودة ، ويتوفى هذا فى الطفولة ، ويرد هذا الى ارذل العمر ، وينكس هذا فى الخلق او يعمر ، ان هذا – لعمرى – لعكس العقول .قال الملحد : لو لزمهم هذا للزمك ، حين زعمت ان الله علة كون الاشياء وفسادها مثل ما الزمت خصومك .قال القاسم : ولا سواء ، وذلك انا لا نزعم ان الله علة كون الاشياء وفسادها ، بل نزعم ان الله هو الذى كون الشىء وافسده من غير ما اضطرار .والدليل على ان الله عز وجل ليس بعلة ذلك ، ان افعاله مختلفة الاحوال مستقلة الصفات ، فلو كان هو العلة ما زال الشىء عن صنعته ، لانه عز ذكره قديم ، والقديم لو كان علة شىء لم يزل معلوله كما لم يزل هو فى ذاته ، وفى زوال الاشياء ما يدل على ان الله عز وجل ليس بعلة ولا معلول قال الملحد حينئذ : بارك الله فيك وفى ولدك فقد اوضحت ما كان ملتبسا على ، وان سالتك عن غيرها فان اجبتنى عنها كما اجبت اسلمت .قال القاسم : ان اسلمت فخير لك وان اصررت فلن يضر الله اصرارك ، سل عما بداك .قال الملحد : ما الدلالة على ان صانع العالم واحد ؟قال القاسم : لو كان اكثر من واحد لم يخل من ان يكون كل واحد من الصانعين حيا قادرا وليس كذلك ، فان كان كل واحد منهما حيا قادرا لم يكن محالا متى اراد هذا خلق شىء ان يمنعه الاخر من خلقه ، لذلك الشىء بعينه ، ولو منعه صاحبه من ذلك كان الممنوع عاجزا وذلك عجزه على حدثه !وان تمانعا وتكافات قواهما وقع الفساد ولم يتم لواحد منهما خلق شىء ، ودخل على كل منهما العجز ، اذ لم يقدر كل واحد على مراده ، فلما وجدنا العلم منتظما منسق التدبير ، دلنا ان صانع ذلك ليس باثنين ولا فوق ذلك (2) قال الملحد : ما انكرت ان يتفقا ويصطلحا ؟قال القاسم : ان الاتفاق والاصطلاح يدلان على حدث من غيرهما لانهما لا يتفقان الا عن صرفة والمضطر محدث لا محالة .قال الملحد : انهم يقولون ان صانع الخير لا ياتى بالشر ابدا ، وكذلك صانع الشر لا ياتى بالخير ابدا .قال القاسم : ان هذا مكابرة العقول .قال الملحد : وكيف ذلك ؟ (3)قال القاسم : لان ذلك يدعو الى القول بان احدا لم يذنب قط ثم يعتذر من ذنبه ، والى القول بان انسانا واحدا لم يكذب ولم يضل ولم يهتد !71 ظ / الا ترى انهم يزعمون ان استدلالهم حق ، وانه واجب على الناس الرجوع الى مذهبهم ، فان كان الشىء الواحد لا ياتى بالخير والشر فحدثنى من يدعون مذهبهم ؟!فان قالوا : الخير .قيل : فان الخير لا يضل ابدا !وان قالوا : الشر .فان الشر لا يهتدى ابدا !..فليت شعرى ما هذا الذى يدعونه الى مذهبهم ؟!قال الملحد : لعمرى لقد لطفت الاستخراج على القوم ولعمرى ان هذا مما يقطع شغبهم ، ولكنهم يقولون : لما كان فى العالم خير وشر دلنا على انهما من اصلين قديمين .قال القاسم : اما وجود الخير والشر فى العالم فانا نجده الا ان هذا يدلنا على ان صانع العالم واحد ، والدليل على ذلك ان الخير والشر يبعثان على الخير والشر ووجدناهما محدثين ، وقد قدمنا الكلام فى هذا المعنى بما فيه كفاية ، وبينا ان العالم اصله وفرعه محدث وان المحدثَ يقتفى المحِدثَ .وان كان حكم فاعله كحكمه ، اوجب ذلك حدوث صانع العالم ، ويقتضى المحدث ، فان كان هذا هكذا فلكل صانع صانعُ الى مالا نهاية ، وقد بينا فساده انفا.* ووجه اخر وهو ان الخير والشر ، امر اختلافهما يدل على قدمهما وليس اختلافهما باكثر من اختلاف الصور والهيئات .وقد قلنا ان اختلافهما يدل على قدمهما من خالف بينهما واخترعهما مختلفين * فلو كان الخير والشر مجتمعين فى حيز واحد فلا يخلو ان فى حال اجتماعهما من امور1- اما ان يكون اجتمعا بانفسهما او جمعهما غيرهما ، فان كان اجتمعتا بانفسهما ، فمخالف ذلك انهما ضدان ، والضد ان لا يجتمعان بانفسهما مع ان نشاهد نفورهما وفرار كل واحد منهما من صاحبه ذاذا فسد ذلك لم يبق الا جامعا جمعهما .2- ووجه اخر وهو انه لو كان وجود الخير والشر الا على ان لهما اصلين قديمين لكان وجود الصانع الاربع دالا على ان لها اصولا قديمة !واذا كان هكذا دلنا على ان شاهدا شاهد زور !!قال الملحد : فاذا لم كن العالم قديما ولا كان مزاج الاثنين ، وكان صنعا من صانع قديم فحدثنى : لم خلق الله هذا العالم ؟قال القاسم : ان هذا الكلام فرع من اصل ، فان سلمت لى الاصل كلمتك فيه والا نازعتك فى الاصل .قال الملحد : وما ذلك الاصل ؟قال القاسم : هو ان تعلم بالدلائل ان العالم محدث وان له محدثا ، ثم تعلم محدثه واحد قديم ، ثم تعلم انه قادر حى حكيم فى نفسه وفعله .قال الملحد : قد دللت على الصانع وعلى انه واحد ، فما الدليل على انه قادر حى حكيم ؟!قال القاسم : الدليل على ذلك انا وجدنا الفعل واقعا دلنا ذلك على ان صانعه حكيم عالم قادر حى .قال الملحد : فهل وجدت الفاعل الحكيم القادر سوى الانسان ؟قال : لا قال : افتقول : انه انسان قال : انى وان لم اجد انسانا فلم يقع الفعل منه لانه انسان ، اذ قد وجدنا انسانا يتعذر عليه الفعل فلما وجدنا متعذرا عليه ، دلنا ذلك على جواز وجود فاعل ليس بانسان .الا ترى انا لما قلنا : انه لا يجوز كون الفعل الا من قادر حكيم ، جائز منه ذلك ، وكان قولنا فيه مستمرا ، ولم يستمر القول فى ذلك ، لم نقل !!قال الملحد : قد ابلغت فى هذا فترجع ان شئت الى مسالتى .قال القاسم : سل قال الملحد : لم خلق الله العالم ؟قال القاسم : قال الله سبحانه ( الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم ايكم احسن عملا) 2 سورة الملك وقال (وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون)56 الذاريات وقال (وسخر لكم ما فى السموات وما فى الارض جميعا منه) 13 الجاثية . فاخبرنا انه خلقنا للعبادة والابتلاء ليبلغ بنا الى ارفع الدرجات واعلا المراتب .قال الملحد : فما دعاه الى خلقنا الحاجة خلق ؟!قال القاسم : ما دعاه ! .. فمحال ، وذلك انه لم يزل عالما بلا سهو ولا غفلة .فقولك : ما دعاه . محال ، لان الدعاء والتنبيه والتذكير انما يحتاج اليها الغافل ، فاما الذى لا يجوز ان يغفل فمحال ان يدعوه شىء الى شىء ، اذ لا غفلة هنالك ولا سهو . والدلالة على ذلك ، ان الغفلة من الدلالة على الحدوث ، وقد قامت الدلالة على انه قديم .واما قولك : الحاجة خلق . فالحاجة ايضا من صفات المحدثين والقديم يتعالى عنها .قال الملحد : فلم خلق ؟!قال القاسم : اما قولك : لم خلق ؟! فقد اجبتك ، لان قولك لم ؟ وقولى لان . اجابة !قال الملحد : فما وجه الحكمة فى خلق العالم وخلق الممتحنين ؟!قال القاسم : وجه الحكمة فى ذلك انه احسان او داع الى احسان وكل من احسن او دعا الى احسان فهو حكيم فيما يصرفه .قال الملحد : وكيف يكون حكيما من خلق خلقا فالمه بانواع الالام ، وامتحنه بضروب من الامتحان ؟! خبرنى عن وجه الحكمة فى ذلك من الشاهد .قال القاسم : اما قولك كيف يكون حكيما من خلق خلقا فالمه بانواع الالام ؟!فوجه الحكمة فى ذلك من الشاهد ما هو داع الى الاحسان (4) من ذلك ضرب المؤدبين للصبيان ومن الحجامة والفصد والادوية الكريهة ، كل ذلك داعية الى الاحسان الى شىء حسن فى العقل ، فاذا كان الالام فى الشاهد ما هو كذلك ، فكل ما كونه الله من قبل مثل الموت والمرض والعذاب وغيره حكمة فى الصنع وصواب فى التدبير اذ كان كل ذلك داعية الى الاحسان .قال الملحد : ما الدليل على ان ذلك داعية الاحسان ؟!قال القاسم : الدليل على ذلك انها افعال الحكيم ، وقد صح ان الحكيم انما يفعل هذه الاشياء التى هى فى السلامة والصحة والخير والترهيب من الغم والشر والنقم ، ومن رغب فى الخير فحكيم فيما نعرف .واما قولك : لم امتحن امتحانات غصب اكثرهم عندها ؟!فانا نقول فى ذلك ولا قوة الا بالله ان الله تعالى انما امتحانه وامره ونهيه وداعيه له من الحكمة ، فمن غصب فمن قبل نفسه لانه لم ياتمر بما امره الله سبحانه ، ولا انتهى عما نهاه ، ولو كان انتهى عما نهاه الله عنه ، وركب ما امره به ، لكان يؤديه ذلك الى الفوز العظيم . فهو من قبل نفسه غصب ، لا قبل الله عز وجل .ومثل ذلك فيما نعرف ان حكيما من حكمائنا لو اعطى عبيدا له دراهم وقال لهم : ااجروا فان ربحتم ولم تفسدوا ، فانا معطيكم ما يكفيكم ، وان لم تفعلوا عاقبتكم .فاطاعه منهم قوم وعصاه اخرون ، ولم ترجع اللائمة عليه بعصيانهم اياه ، ولكنها لاحقة بهم حين عصوه ولم يخرج بها سيدهم اياهم وعطيتهم من الحكمة ، اذ لم يدعهم به الا الى الاحسان فلما كان ذلك كذلك كان الله حكيما بامتحانه وامره ونهيه .قال الملحد : ان الله يعلم ما هم صائرون اليه ونحن لا نعلم ذلك .قال القاسم : ان الجهل والعلم لا يحسن الحسن ولا يقبح القبيح ، وذلك انه لو كان حسنا لان الآمر به يعلم انه يفعله ، لكان ذلك قبيحا . اذا كان الآمر منا بما يصير اليه المامور جاهلا ، فلم لم يكن ذلك قبيحا لجهل الآمر منا ، لان هانما امر بالحسن ودعا الى الحسن ، وان كان جاهلا بما يصير اليه المامور او عالما .* وشىء اخر وهو انه لو كان الامتحان قبيحا ، اذا علم انه يعصى لكان لا شىء اقبح من اعطاء العقل لانه انما يعصى عند وجوده ، ويستحق المدح والذم به ، فلما كان اعطاء العقل عند الامم كلها – موحدها وملحدها – حسنا ، دل ذلك بان الامتحان والخلق والامر بالحسن كله حسن ، علم انه يعصى او يطيع .قال الملحد : فلم مزج الخير بالشر ولم صار واحد غنيا وواحد فقير والاخر قبيحا والاخر حسنا ؟!قال القاسم : لانم هذه الدار دار امتحان وابتلاء وحقيقة الامتحان فهو ان يخلق فيه او يامره بشىء ثقيل على طاعته فينظر هل يطيع ام لا يطيع ؟!ولو خلق الله ما هو خفيف على طباعه ثم امره بالخفيف لكان ذلك لذة له وليس بامتحان ، فلما كانت هذه الدار دار امتحان ، كان الواجب فى صواب التدبير ان يمزج الخير بالشر والنفع بالضر والمكروه بالمحبوب والحسنة بالسيئة والكريه المنظر بالحسن فى النظر ، اذا كان الدار دار امتحان لانه لو كان كله محبوبا كان دار الثواب ، ولو كان كله مكروها كان دار العقاب ، ودار الثواب والعقاب هذه صفتها .واعلم انه لو لم تعرف علل ذلك ، كان جائز من ذلك انه فى بدء الامر ، اذا اقمت الدلالة على انه حكيم فى نفسه وفعله ، ثم دللت على ان الكل من افعاله حكمة استغنت عن معرفة علله .ومثال ذلك من الشاهد انا لو هجمنا على الات من الات الصانع ، فراينا اعواجاج المعوجات واستواء المستويات وصغر بعضها وكبر بعضها وغلظ بعضها ورقة بعضها ، فحكمنا على صانعها غير حكيم ، فكنا جاهلين بالحكمة ، نضع الحكمة فى غير موضعها ، بل حينئذ الواجب علينا ان نسلن للحكماء حكمهم ونعرف انهم لا يفعلون شيئا من ذلك الا لضرب من الحكم يعرفونه ، ونعلم ان المعوج والمستوى وكل زوج فيها يصلح له الاخر ، فحينئذ وضعنا الحكمة فى موضعها فاعرف ذلك وتبينه بحدة كما قلنا ان شاء الله تعالى فلما كانت افعال الله كلها احسانا او داعية الى الاحسان ، كان تبارك وتعالى بفعلها كلها حكيما اذ كل ذلك يحسن فى العقل .فان قلت : لم فعل الحسن فى العقل ؟قيل لك : يفعل الحسن لحسنه ولو لم يفعل الحسن فى العقل لحسنه كان لا يترك القبيح لقبحه فى العقل وكفى بهذا القول قبحا ---------------------------------------------------------(1) العلة عند الحكماء ما يتوقف عليه وجود الشىء ويكون خارجا ومؤثرا فيه ، وعلة الشىء ما يتوقف عليه ذلك الشىء ، وهى قسمان : الاول : ما يتقدم به الماهية من اجزائها ويسمى علة الماهية ، والثانى : ما يتوقف عليه اتصاف الماهية المتقومة باجزائها بالوجود الخارجى ويسمى علة الوجود .(2) دليل التمانع دليل قرآنى وهو مشهور ومعروف عن المتكلمين انظر الاشعرى : اللمع ص 20 والماتريدى : التوحيد ص 21 وانظر الاية 22 من سورة الانبياء .(3) اعتقد ان للكلام تماما هو (وهم يقولون ان من يفعل الخير لا ياتى شرا ، ومن يفعل شرا لا ياتى خيرا ابدا وكل مطبوع على خلقه)(4) قارن فى ذلك ما ذكره القاضى عبد الجبار : شرح الاصول الخمسة ص 493 وما بعدهايتبع الجزء الاخير من المناظرة


قال الملحد : لقد ابلغت ، قد بينت لى مسائل قال القاسم : سل .قال الملحد : ما الدليل على ان الصانع له رسول ؟قال القاسم : الدليل على ذلك ان الصانع حكيم محسن الى خلقه وفى العقل ان شكر المنعم واجب ، فلما كان هذا فى عقولنا واجبا ، وكان الله حكيما منعما على خلقه ، كان من كمال النعمة ان ارسل اليهم الرسل ، مع دلائل اضطرت العقول عندها لتبين لهم كيفية شكره ، لان كيفية شكره ليس مما يعلم بالعقل ، ولا بالنفس ولا بالحس ولا بالنظر ، وان كان فى العقل جوازه ، وحينئذ اقام عندهم ، فمنهم دلائل ومعجزات دل على صدقهم .قال الملحد : كانك تقول ان شرائع الانبياء خارجة عن العقول ؟! اذ قلت : لا نعلم كيفيتها قال القاسم : اما قولك : ان شرائع الانبياء خارجة عن العقول ، اذ ليس فيها كيفيتها ، فانى لم اقل لك : كيفيتها ليس فيها بينة اشترطت لك . فقلت لك : انه وان لم يكن فيها كيفيتها ففيها جواز كونها فقال الملحد : وكيف ذلك ؟قال القاسم : هو مثل ما نعرفه فى الشاهد ، وذلك لو ان سيدا امر عبده ببناء دار ، او قطع شجرة ، او اعطاء عبد الله ، او ضرب زيد ، فانه ليس فى العقل ان السيد يامر به ، فاذا امر به ، كان فى العقل ان الاتمار به حسن وان تركه قبيح ، اذا كانت لامر سيده عاقبة محمودة ، ورجع نفع العبد .فالعقل يجوز الامر فكل شىء على خياله ، ولا يوجب شيئا من ذلك دون شىء ، اذا كان ذلك الامر مما ينقل حاله ، فى العقل ، وذلك انه قد يكون الشىء الى موضع ما ، حسنا فى العقل اذا كان للشىء معنى حسن .فاما اللواتى يُدرَكُ حكمها فى العقل ، فقد ادركه ، بان الامر بها ، لا يامره الا بما هو حسن ، ولا ينهى الا عما هو قبيح عنده .قال الملحد : فحدثنى عن الصلاة والصيام ، وغيرهما من الشرائع ، هل له اصل فى العقل ، يفرع هذا منه ؟!قال القاسم : اجل قد اخبرتك به انفا ، وهو كالامر بالشىء الى موضع ما ، وكضرب زيد ، واعطاء عبد الله ، ليس له اصل فى العقل اكثر من الاتمار لامر الحكيم ، ووجه الحكمة فيه ان الامر انما يامر به ، لينظر هل ياتمر به المامور فيجازيه لذلك لا سيما اذا كان مستغنيا غير محتاج الى ما يامر به ، وانما يامرهم ليمنحهم ، وليظهر بذلك اعمالهم فان الامر به حسن وعلى ذلك سبيل الشرائع .قال الملحد : خبرنى عن كيفية معجزاتهم ؟قال القاسم : هو قلب العادات وان لا يترك العادات جارية على مجراها . فاذا جاء احدهم وقال له قومه : ما الدلالة على كذا وكذا ، الى كذا وكذا ؟! فحينئذ يعرفون صدقه ويضطرون ، وهذا سبيل المعجزات كلها .ومثل ذلك نفرق بين النبى والمتنبئ ، وبين الصادق والكاذب .قال الملحد : فانه بقى فى قلبى شبهة فاحب ان تقلعها بحسن رايك ونظرك .قال القاسم : هاتها لله ابوكقال الملحد : خبرنى عن الله عز وجل ، لم يميت الانسان ويصيره ترابا ، بعد ان جعله ينطق بغرائبا لحكمة وبعد هذه الصورة العجيبة البديعة ، ولم يفنى العالم كله ، ارايت لو ان انسانا بنى بناء فنقضه لا لمعنى ، هل يكون حكيما ؟!قال القاسم : ليس الامر كما ظننته ارايت لو ان انسانا بنى بناء للشتاء فلما جاء وقت الصيف نقضه وبنى للصيف هل يكون حكيما ؟!قال الملحد : نعمقال القاسم : ولـمَ ؟ قال الملحد : لان الذى اتخذه للشتاء لا يصلح للصيف وكذلك الذى اتخذه للصيف لا يصلح للشتاء .قال القاسم : وكذلك الله عز وجل ، خلق الدنيا وما فيها للابتلاء فاذا انتهى اجلها افناها وبعثرها .ثانيا ( ليجزى الذى اساؤوا بما عملوا ويجزى الذين احسنوا بالحسنى) ولا يكون ذلك خروجا من الحكمة بل الحكمة ان لا يضيع الثواب والعقاب .قال الملحد : ان التوحيد والتعديل والرسل قد تكلم فيه ناس من اهل العلل ، وكل يشك فى الميت هل يحيى ام لا ؟ وكل يجئ فى ذلك بشىء فان دللت على ثباته وكيفيته لم يبق لى مسئلة وحينئذ امنت بربى .قال القاسم : اما الدلالة على حياتها فانى قد وجدت الله تبارك وتعالى حكيما قد امتحن خلقه وامرهم ونهاهم ، وكان قول من يقول بارداته الامتحان داعيا الى الاهمال ، والاهمال داع الى ان الله غير حكيم ، واذا جاز ان يكون العالم قديما لانه لا فرق بين ان يفعل من ليس بحكيم هذا الصنيع العجيب ، وبين ان يقع فعل الامر ، ومحال موجودة ، فتكون قديمة ازلية لا فاعل لها .ووجدت هذا القول داعيا الى التجاهل ، فلما كان ذلك كذلك صح ان الله حكيم والحكيم لا يهمل خلقه ، واذا لم يمهل خلقه ، لم يكن بد من امر ونهى ، ولم يكن بد من مؤتمر وغير مؤتمر .واذا كان من حكم العقل ان نفرق بين الولى والعدو ، ووجدنا اعداءه واولياءه مستوية الاحوال فى الدنيا ، لانه كما ان فى الاعداء من هو مؤثر صحيح ، وفيهم من هو معسر مريض ، وكذلك الاولياء ، فلما كانت فى الدنيا احوالهم مستوية ولم يكن بد من التفرقة بينهما صح ان دارا اخرى فيها نفرق بينهما ، وفيها يحييون وفيها ينشرون .تذت قد وجدت هذه الحال قد اشتمل بالكل ، الولى والعدو ، وذلك قوله عز وجل (ام نجعل الذين امنو وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الارض ام نجعل المتقين كالفجار)واما قولك : فاخبرنى عن كيفيتها . فان الله عز وجل جعل الروح لجسد الانسان حياة له ، كالارض اذا اهتزت بالماء وتحركت بالنبات ، كذلك الروح اذا صار فى الانسان صار حيا متحركا اذا امتزج احدهما بصاحبه .قال الملحد : وكيف تمتزج الروح بالبدن وقد صار ترابا ؟!قال القاسم : وكيف يمتزج الماء بالارض الهامدة اذا صارت محله يابسة ؟!قال الملحد : هو ان تمطر عليها او يجرى فيها ، فتتصل اجزاء الارض باجزاء الماء ، بالمشاكلة التى بينهما فعندها تهتز وتتحرك .قال القاسم : وكذلك الروح ترسل الى ذلك التراب فتماسه وتمازجه فحينئذ يحيا الانسان ويتحرك .الا ترى الى بدء خلق الانسان كيف كان ؟ او ليس تعلم انه كان ترابا فلما جمع الله بينه وبين روحه صار انسانا ، فاصل خلق الانسان بذلك على اخره .اولا تسمع قوله تعالى (قل يحييها الذى اشناها اول مرة وهو بكل خلق عليم * الذى جعل لكم من الشجر الاخضر نارا فاذا انتم منه توقدون)قال الملحد : انه ليس بين الروح والتراب مشاكلة فيما نعرف ؟!قال القاسم : فهل تعلم بين النار والشجر الاخضر مشاكلة ؟!قال الملحد : نعم ، وهى انها مجموعة من الطبائع الاربع احداهن النار وبين ثالثهن مشاكلة .قال القاسم : الله اكبر ، هل تعلم بين النار وثلاثتهن مشاكلة ؟قال الملحد : لا قال القاسم : فكيف اجتمعن ؟ انه لما جاز ان تجتمع النار مع الماء والارض والهواء بلا مشاكلة بينهن جاز للروح مثل ذلك .قال الملحد عند ذلك : اشهد أن لا اله الا الله وان محمدا رسول الله ، وان كل ما جاء به حق وتعست امة ضلت عن مثلكواسلم وحسن إسلامه وكان يختلف إلى الإمام القاسم ويتعلم منه شرائع الإسلام.

http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=4971

موقف المعتزلة و الأشاعرة من قضية التحسين و التقبيح

جامعة القاهـرة
كلية دار العلوم
قسم الفلسفــــة
بحث بعنوان
موقف المعتزلة و الأشاعرة
من قضية التحسين و التقبيح
دراسة نقدية
إعداد الباحث
دكتور إمام حنفي سيد عبد الله
دكتوارة الفلسفة الإسلامية
للمشاركة في فعاليات المؤتمر الدولي الثالث عشر للفلسفة الإسلامية ، و الذي جاء تحت عنوان
" السنن الإلهية و أثرها في نهضة الأمم "
و المنعقد في المدة من 29 – 30 إبريل 2008 م بكلية دار العلوم

ملخص البحث
موقف المعتزلة والأشاعرة من قضية التحسين والتقبيح
دراسة نقدية
د. إمام حنفي سيد عبد الله
دكتوراه الفلسفة الإسلامية
كلية دار العلوم – جامعة القاهرة
تعد العقيدة الإسلامية الركن الركين الذي يؤلف بين المسلمين رغم خلافاتهم السياسية وأهوائهم الشخصية، وقد قام تصورهم للتوحيد عي أساس تنزيه الله من كل شبيه وكونه عادلا يتنزه عن كل ظلم أو عبث أو سفه، ومع ذلك ظهر في الإسلام تيارين المجسمة والمشبهة وهؤلاء شوهوا الجانب التوحيدي من العقيدة فالمجبرة التزموا جانب الجبر في تصورهم للعدل الإلهي ، وبقيت رواسب عقائدهم وتصوراتهم إلي وقتنا الحاضر ، ولذلك كانت كل دراسة نقدية إلي هذين المذهبين تعد إسهاما فعالا في براءة عقائد المسلمين من كل ما اعتراها من دخن أو وهن.
ومسألة التحسين والتقبيح من أهم مسائل العدل ، وقد يعتقد صوريتها أو لفظيتها، ولكن ما ترتب علي هذه المسألة من نتائج خطيرة جعل الشاذ طبيعيا فتنحى العقل عن إدراك مراد الله من خلقه، وقد جاء الشرع بعقيدة تجمع بين النص والعقل ، فما ضرورة المفارقة بينهما، ووضع بعض التحكمات التي أدت إي تراجع دور العقل في حياة المسلمين، مما كان سببا جوهريا في تراجع الحضارة الإسلامية ، وربما كان وصف هذه المسألة باللفظية من أكبر أخطاء المفكر المسلم.
وفهم هذه المسألة في إطار قواعد الإسلام العامة وكلياته وأصوله ، قد يساعد علي الخروج من دوائر التكرار للمقولات المحيرة وتعديلها وتصحيحها.
لقد وفق السلف بين العقل والنقل، فقد كانت اللغة العربية أساس النص وهي عاقلة الدلالة وتنتج من ذات نفسها منهجا عقليا وفكريا فريدا ومتميزا، ونصوص القرآن تناصر قضية العقل بداية من الفطرة ونهاية بالنظر والاستدلال والاستقراء والاستنباط والقياس والتجريب.
ومفردات المنهج العلمي الذي ذكره القرآن الكريم جاء به العلم المنهجي الحديث ، وهو الإدراك حسب قواعد واضحة من العرض والفهم والتذكر والتحليل والاستنباط والتركيب والنقد والتقويم.. إلخ وهو قمة المنهج العلمي في النظر ووضع القواعد والأهداف وترتيبها.
وهذه الدراسة محاولة لبيان موقف متكلمي المسلمين من قضية التحسين والتقبيح ، وهل هما عقلين أم شرعيان أم يعرفان بهما جميعا، وهو أنسب الأقوال التي ناصرناها موضوعيتها،ولذلك قمنا بتحديد المصطلح وتسليط الضوء علي موقف كلا من المعتزلة والأشاعرة والغزالي تحديدا من المدرسة الأشعرية لما خصه بعض المتأخرين بالنقد لموقفه من المسألة بالإضافة إلي الإمام الجويني والجرجاني كأمثاله .وقد أوضحنا الأسباب التي دعت الغزالي إلي رأيه في المسألة ، وعرضنا حجه وأرائه ، وما يترتب علي موقفه من نفي فكرة الوجوب علي الله، وقد خلت حججه من الأدلة الشرعية وبناها علي تصوره بالمشيئة والإرادة الإلهية، وهو يمثل جانبا من المفارقة والتناقض ، فالعقل الذي أثبت قصوره عن إدراك الحسن والقبح هو نفسه الذي أنكر الوجوب علي الله !
واستخدمت هذه الدراسة المنهج النقدي المقارن كأساس لها، ومن حيث الشكل جاءت في تمهيد وأربعة فصول، جاء التمهيد في بيان أحكام الأفعال عند المعتزلة والأشاعرة ، والفصل الأول لبيان مذهب الأشاعرة ومن وافقهم، والفصل الثاني في بيان موقف الغزالي من المسألة، والثالث في بيان مذهب المعتزلة فيها، أما الفصل الرابع فقد خصصناها لدراسة موقفهم من الفعل الإلهي، وجعلنا الفصل االخامس نموذجا نقديا عرضنا فيه نقد الإمام يحيي بن حمزة العلوي ت 749 هـ ، للأشاعرة ونفي القبح عن الله تعالي ، ثم الخاتمة والتوصيات .وأهم المصادر والمراجع التي استعنا بها في هذه الدراسة

iimaa_001@yahoo.com
0171942755
ملخص بحث
الآراء الكلامية والصوفية عند القشيري
ماجستير"منشور"1997م.
د.امام حنفي سيد
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، المبعوث هداية ورحمة للعالمين، وبعد000 هذه الدراسة عن آراء القشيرى الكلامية والصوفية، قسمتها إلى قسمين، الأول منهما تناولت فيه آراءه الكلامية وجاء في تمهيد عبارة عن ترجمة القشيرى ومؤلفاته، وستة مباحث اشتمل على العناوين التالية : موقف القشيرى من علم الكلام، والصفات الإلهية، والقضاء والقدر، والنبوات، والتكليف والإيمان، والإمامة0
ثم تناولت في القسم الثاني آراءه الصوفية، وجاء في تمهيد تحت عنوان التصوف وضرورة الالتزام، وخمسة مباحث هي على النحو التالي : البدايات في الطريق الصوفي، والإعداد في الطريق الصوفي، والأحوال، والمقامات، وثمرات الطريق الصوفى0
وتأتى أهم نتائج هذه الدراسة على النحو التالي :
أولاً : بالنسبة للجانب الكلامي :
كان القشيرى من أهم وأبرز المشجعين للعمل بعلم الكلام ودراسته، وكان يرى ارتباط هذا العلم بالعقيدة الإسلامية، فهو يقوم ببيانها وتوضيحها وتقديم الأدلة العقلية والبراهين التي تؤيدها، كما أنه يدافع عن هذه العقائد في مواجهة الشبهات وشكوك الخصوم0 ومن ثم أجاز الجدل والمناظرة في علوم العقائد في إطار الدفاع عن أصول الدين، ولذلك سعى إلى التماس شرعية علم الكلام من الكتاب والسنة0
كما ذم القشيرى التقليد ورأى وجوب النظر في العقائد وغيرها، ووجد في التقليد خطورة كبيرة على المكلف، واسترشد بموقف القرآن الكريم من الدهريين عندما رد حجتهم باتباعهم فى كفرهم لآبائهم، وذهب إلى أن أول الواجبات على المكلفين هو النظر0
ورد القشيرى على خصوم علم الكلام ووضح أنه علم له لغته ومصطلحاته الخاصة به، وكان السلف على دراية بقضايا علم الكلام على عكس ما يتصور الخصوم من جهلهم بها، كما بين أن علم الكلام ليس بدعة فهو ككل علم ظهر لخدمة الشريعة كعلم الأصول والفقه علوم الحديث وغيرها، وبين أن نهى السلف كان عن الجدل بالباطل واتباع المتشابه الذي نهانا الشرع عن الخوض فيها، وانتهى القشيرى إلى تقرير حقيقة أن علم الكلام من العلوم الشرعية المقدمة على غيرها من العلوم، ويحمد دارسوها إن التزموا بأصول المنهج ووقفوا عند آداب البحث والنظر والحوار مع الخصوم0
وجاء موقف القشيرى من المنهج واضحاً وقويماً ومعتدلاً، فقرر أنه يقوم على أساسين العقل والنقل، وأن الأدلة العقلية شرعية، طالما كانت صحيحة وسليمة وواضحة، سواء ورد بها نص أم لم يرد، كما أشار القشيرى إلى أن الإلهام القلبي طريق يصل بصاحبه إلى اليقين، وهو يخص الصوفية0 ومن أساسيات المنهج عنده الاتباع وعدم الابتداع، وذهب إلى أن مصادر أصول الدين والفقه واحدة وهى الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وأجاز التأويل إذا أدى ظاهر النص لشيء من التشبيه أو التجسيم؛ لتعارض ذلك مع أصول العقيدة0 واحتج القشيرى بأحاديث الآحاد وجواز العمل بها، إلا أنه لم ير إفادته لليقين، وكان يأخذه بضابط وهو وجود أصل له في كتاب الله أو الإجماع، وعد القشيرى الإجماع حجة يقطع بها في مسائل الأصول، وذهب إلى أن القياس مصدر من مصادر الشريعة0
وذهب القشيرى إلى أن العلوم مكتسبة والمعرفة إلهامية ووهب من الله، تأتى على إثر مجاهدة الإنسان لنفسه وتقويمها، والطريق لمعرفة العلوم الدينية هو العقل والنقل، أما الإلهام فالطريق إليه هو المجاهدة، ويؤدى لليقين عند الصوف ، وبداية الإلهام هو علوم النظر والكسب، ويعتقد القشيرى كغيره من الصوفية إمكانية اكتساب المعرفة من غير طريق العقل، وتتقدم المعرفة الإلهامية عنده على النظر، ومع أنه يقدم العارف الصوفي على العالم إلا أنه لا يجيز له الفتوى أو الجلوس لتعليم الناس، وتختلف درجات اليقين عنده باختلاف درجات المريدين في طريق المجاهدة0
وذهب القشيرى إلى أن إثبات الصانع هو أساس البحث في الإلهيات، وأن القرآن الكريم تعددت فيه أدلة إثبات الوجود، وتفاوتت مستويات الخطاب فيه؛ لتناسب جميع الناس، منها النظر والتأمل فى خلق الكون والإنسان، واستشهد كالمتكلمين على إثبات وجود الله بالأدلة القرآنية كدليل الصنعة، والقدرة والإتقان والإحكام، وكان هذا هو طريق الأنبياء في إثبات وجود الصانع، كما عد القشيرى معجزات الأنبياء ونجاح دعوتهم وانتشار اتباعهم دليلاً على وجود الله، واستعان كذلك بدليل الجواهر والأعراض0
وأشار القشيرى في حديثه عن النبوات إلى أن الواجبات بعد ورود الشرع كلها سمعية، وهو يتفق فى ذلك مع الأشاعرة إلا أنه يجيز إرسال الرسل من طريق العقل، ثم بين أن دور الشرع هو تحديد العلاقات بين البشرو الحفاظ عليهم من الصراعات والمنازعات، وإبطال الشرع إثارة للفتن وفساد للعالم0 ويفرق القشيرى بين نوعين من الوحى أحدهما للإلهام والآخر للإعلام، فالملائكة التى تنزل بالإلهام وهو يخص الصوفية من هم دون الأنبياء، أما ملائكة الإعلام فتخص الأنبياء وحدهم0
وذهب القشيرى إلى أن العصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنون عصوا ربهم فهم فى قبضة رحمته وعدله، إما أن يغفر لهم بفضله ورحمته أو يعذبهم قصاصاً وعدلاً جزاء ما اقترفوا من ذنوب، وهو موقف معتدل يعبر عن حقيقة موقف السلف الصالح وأهل السنة والجماعة0 واتفق القشيرى مع أهل السنة والجماعة أيضاً في أن البعث والنشور وكونه بالروح والجسد جميعاً، وأن الجنة والنار مخلوقتان الآن وباقيتان ودائمتان لا يزولان ولا يبيدان0 كما أثبت الرؤية في الآخرة، ونفاها في الدنيا في مقابل موقف المعتزلة الذين نفوها فى الدنيا والآخرة، وهى عنده في الجنة للمؤمنين فقط دون الكفار0
وحول آراء القشيرى في الإمامة نجده يرى وجوب تنصيب الإمام عن طريق السمع، وإن كان الشرع ترك حرية اختيار الإمام للمسلمين، ولا يوجد نص قاطع بإمامة أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأجاز أغلب الأشاعرة عقد الإمامة لإمامين أو أكثر بشرط تباعد البلاد فيما بينهم0 وذهب القشيرى إلى ضرروة اشتراط عدة شروط فى الإمام منها العلم والعدالة والورع وحسن التدبير والقرشية... وذهب أيضاً إلى وجوب الشورى، وجواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل بغير عذر، وأوجب طاعة الأئمة ولم ير جواز الخروج عليهم بالسيف0 كما أثبت إمامة الخلفاء الأربعة، وقرر أن ترتيبهم في الفضل جاء كترتيبهم في الولاية ونهى عن سب الصحابة، وأن ما حدث بينهم كان اجتهاداً وتأويلاً وأدار الله الحق مع علىٍّ حيث دار0
- ويجدر الإشارة أن القشيرى قد ذهب في مباحث علم الكلام إلى الجمع بين أسلوب الكلاميين ومذاقات الصوفية، ولذلك كان يتجاوز عن الجدل الكلامي في الفروع بهدف تقرير الأصول وتحويل علم الكلام إلى علم عملي سلوكي يعرفه المريد، ثم يبدأ بتطبيق مراحل الطريق الصوفي دون الوقوف عند حدود الجدل، ويمكن القول بأن أسلوب القشيرى في علم الكلام هو أسلوب كلامي متصوف أو متصوف متكلم0
ثانياً : بالنسبة للجانب الصوفي :
ذهب القشيرى إلى أن التصوف مأخوذ عن الصفاء، والصوفي هو من يصافيه ربه، والتصوف عنده عبارة عن التخلي عن كل خلق مذموم والتحلي بكل خلق حميد، ويرى ضرورة اتباع الكتاب والسنة وعدم الابتداع، وصحبة أهل الالتزام، ونبذ المبتدع في الدين أو التارك للسنة0
والمريد في البدايات يجاهد نفسه بقسوة حتى تبرأ من كل عيب وتتخلى عن كل آفة، وتهجر كل شهوة، وتنمو الإرادة عنده بالتجرد عن الجاه والسلطان وترك العلاقات والأملاك والخلوة والجوع والسهر والذكر، ومن الصوفية من يكون مريداً فيسلك الطريق من أوله ومنهم من يكاشف من أول الطريق وهو المراد0
وعلى المريد أن يتحلى بالصدق، ويبدأ بتصحيح عقيدته وإخلاص نيته ويوجب عليه القشيرى تعلم علوم الشريعة فى البدايات، وعدم الأخذ بالرخص وضرورة التأدب بشيخ فمن لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان، وعلى المريد أن يتأدب مع شيخه ويحترمه ويحذره من عقوق المشايخ ولعلاقة المريد بالشيخ جانبها الايجابي والآخر السلبي، والقشيرى يتبع الصوفية في موقفهم من الشيخ، وهو ما قد يخالف بعض مقاصد الشريعة من ضرورة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وحسن الصحبة، وعدم قبول ما يخالف الشريعة أو الموافقة عليه0
ولأخلاق المريد مع أصحابه جوانب إيجابية كثيرة تدل على فهم الصوفية لآداب الإسلام وعملهم بها، وخصوصاً تحذير القشيرى ومشايخ الصوفية من صحبة الغلمان والنسوان وعدّوا ذلك فتحاً لباب الخذلان، وكذلك حَسُنتْ آداب الصوفية في السفر، واختلف القشيرى مع الصوفية فى جواز السفر فى البدايات، فلم يره للمريد في البدايات، واتفقت وجهة نظر الصوفية مع مقاصد الشريعة فى السفر، عدا موقفهم من جواز السفر في البراري والصحراوات بلا هدف أو غاية، ودون التزود بالطعام والشراب وغيره من أدوات السفر وكثرة حكاياتهم فى ذلك0
وتحاكم الصوفية في مجاهدة النفس إلى الكتاب والسنة، وذهبوا إلى ضرورة تنقيتها من كل آفة كالكبر والحسد والحقد والغرور والغيبة والنميمة، وتحليتها بكل خلق محمود كالإيثار والصدق، ويؤخذ عليهم التجرد التام من الجاه والأملاك، وإيثارهم الفقر على الغنى والذل على العز، وذلك أنهم جعلوا الفقر غاية من غاياتهم لا يتم للصوفي حقيقة المجاهدة إلا به، ورغم موافقة القشيرى للصوفية فى ذلك إلا أنه لا يرى الخروج عن الأموال لمن له عيال لا يصبرون على الفقر والجوع، أو ظن من نفسه السؤال بعد ذلك0
ويذهب القشيرى إلى أن الجوع من صفات الصوفية، ويميل معهم في مواقفهم المعتدلة والمغالية في أمر الجوع، وإن كان يرى سياسة النفس على الاعتدال، والجوع كما يصفه الصوفية يتفق مع التصوف الهندي والفارسي وكذلك عند النصارى، أما في الإسلام فيقابله الصوم على ما ذكرت الشريعة التي لا تعتبر الجوع غاية في ذاته، ولكنه عبادة يتقرب بها العبد لربه، يتم به تنقية نفسه وتهذيبها من شرورها وكبح جماح شهواتها0
ويعد جانب الإعداد هو الجانب العملي الذي يمثل المنهج عند القشيرى، والذي استقاه من خبرته العملية وتخلقه في الطريق الصوفي، ويعد الذكر من أبرز أركان المجاهدة والإعداد، ويتسم عند القشيرى بموافقته للآداب الإسلام فى ذكر الله، إلا أنه يوافق الصوفية على الذكر بالاسم المجرد "الله" وهو ما رفضه مشايخ الإسلام فانكروا على أصحابه كابن تيمية، كما أقر الصوفية فى السماع والرقص وتمزيق الخرقة والذين يجيزون ذلك على شروط يصنعونها، والسماع في حد ذاته لا غبار عليه عندما لا يكون دنياً أو طقساً يتعبد به إلى الله، أما والحال كذلك فهو مرفوض شرعاً وطبعاً، وما أنزل الله بذلك شريعة تتبع ولا أثُرَ عن النبي أنه سمع كسماع الصوفية وعلى إثره تواجد هو أصحابه واتبعوا ذلك بمنكر من الفعل كتمزيق الثياب أو الغيبة أو ما شابه ذلك، وكل استدلال على هذه الأفعال من الشريعة افتراء وتعنت غير مقبول0 ويكاد لا يكون هناك تصوف بغير سماع أو رقص صوفي على مسيرة تاريخه، مما يشوه آداب الشريعة وينقض بعض أركانها، وقد أدى السماع والوجد بعد القرن الخامس الهجرى إلى ظهور أنواع أخرى من المنكرات في السماع أحالت الشريعة والحقيقة إلى محض خيالات، وذهبت بتعاليم الرسول تماماً0
وساهم القشيرى بخط كبير في تأصيل المصطلح الصوفي ووضع قاموس عام لألفاظ الصوفية، يحتاج للرصد والدراسة0 ويتجلى ذلك بوضوح عند تناول القشيرى للأحوال عند الصوفية وتعريفه لمفهومها عندهم بدقة شديدة تدعو للإعجاب، وتعددت مقاصد الصوفية من وضع قاموس للمصطلحات يخصهم وحدهم دون غيرهم ذكرها القشيرى ووافقهم عليها0 وجملة الأسباب التي يركن إليها الصوفية في هذا الشأن تصلح لأن تكون مفتاحاً لفهم غايات الصوفية من التصوف على وجه الحقيقة وحسم بعض المسائل الغامضة في تاريخهم مثل موقفهم من التكاليف والشريعة والحقيقة والتوحيد والفناء والحب والولاية وغير ذلك0
وتعبر المقامات عند الصوفية على ترقى الصوفي في مراحل الطريق وقطعه لأشواطه، والمقامات عند القشيرى كثيرة بلغتْ الثامنة والأربعين، وعند غيره كالهروى بلغت المائة، واقتصرتُ على المقامات الأساس أو المقامات التي رأى الصوفية الأوائل أنه لا غنى عنها في الطريق، ومن ذلك التوبة، والزهد، والصبر والشكر، والخوف، والرجاء، والتوكل، والرضا0 ويتسم موقف القشيرى من المقامات المذكورة بالاعتدال والتخلق بأخلاق الشريعة، ففي التوبة نجده في غاية الإيجابية حيث يغلب الرجاء على الخوف واليأس، ويؤمل المذنبين في جميل عفو الله ومغفرته0 أما مقام الزهد فلا يخلو عند الصوفية من الغلو حيث نجد بعضهم يصرح بضرورة توبة الزاهد عن زهده، وتخليه عن الأملاك والجاه تماماً وقعوده في ظل فقره وأن لا يشاهد في فقرة حقيقة فقره، وذلك عندهم هو الصوفي الحق، وكل ذلك مرفوض شرعاً وطبعاً، حيث يؤدى بصاحبه إلى السؤال والمذلة والمسكنة، فكيف يصل إلى الله من شغلته نفسه وقوت عياله عن صدق عبادته؟!0
وجاء حديث القشيرى عن الصبر في غاية التشويق، ومعبراً عن فهم الصوفية للنفس البشرية وبراعتهم في تحليلها وتفسيرها فتحدثوا عن الصبر وأنواعه وسماته ومميزاته حتى بلغوا مقامات الشكر في الصبر وبينوا أن أعلى درجاته وأحلى ثماره هو المحبة وعشق المحبوب0
وأعطى القشيرى الرجاء والخوف أهمية بالغة حيث يرى أنهما من أهم وسائل التربية وتهذيب النفس وتقويم الأخلاق،ويفرق بين الرجاء والتمني، وبين الرجاء والبسط عندما يكون الأول حالاً، ويرى وجود الخوف والرجاء في قلب المريد ضرورة لابد منها، إلا أنه يغلب جانب الرجاء على الخوف، لما فيه من زيادة التفاؤل والأمل في نفوس الناس كما يفرق في مقام الخوف بينه وبين الخشية والرهبة، ويربط بينه وبين مفهوم المراقبة0
واعتبر القشيرى التوكل من أعمال القلوب الاعتقادية وبه يطمئن القلب وتسكن الجوارح ثقة فى ربها، وبينَّ موقفه من إسقاط التدبير وكونه لا يخرج بالمريد إلى نفى الأسباب والتواكل وهو موقف معتدل، وأكبر ثمرات التوكل الرضا، وللصوفية موقف من الكسب يتراوح بين تركه تماماً توكلاً، أو التكسب واعتبار ذلك من صميم التوكل، ويتأرجح موقف القشيرى من هذه المسألة إلا أن الغالب على كلامه الأخذ بالأسباب، وطلب المعاش وعدم التواكل0
وتأتى المحبة كثمرة من ثمرات الطريق الصوفي عند القشيرى، وغاية يرنو إليها المريد، ويفرق بين محبة العبد لربه، ومحبة الله لعبده، ويربط بين محبة الله والإرادة، فهي تعنى إرادة الله أن ينعم على عبده، ومن آثار المحبة على العبد إيثار رضا المحبوب، وكثرة ذكره، وخير شاهد على محبة الصوفية لربهم ما يبذلونه في الطريق الصوفي من مجاهدات ورياضات عنيفة، ومقاساة الشدائد شرط المحبة عند القشيرى0 ورفض القشيرى إطلاق لفظ العشق على العلاقة بين العبد وربه لما يجده في نفسه من فرط الحب، لما في ذلك من تجاوز العبد لحدوده وإرخاص لمقامات التوحيد في قلبه، والعشق لا يكون إلا بين مثلين، وحاش لله أن تلحقه صفات النقص وآفات الخلق0 كما تناول القشيرى مفهوم الشوق إلى الله، وحب لقائه ومن كان حاله الشوق إليه رغب في الموت والشهادة، وقدم المحبة على الخوف، وعد الثانية من صفات أهل التلوين، والمحبة في النهايات ولذلك فهي من صفات أهل التمكين0 ولا يجد القشيرى فرقاً بين المحبة والخلة، فهما من نوع واحد والفرق بينهما في الدرجة، وعد المعرفة أصل المحبة، ولذلك كل منهما يستدعى الآخر، وهما متلازمان0 وعن علاقة المحبة بالتوحيد، والفناء في مقامات التوحيد نجد القشيرى ينكر على من يصرحون بأسرار التوحيد، وإن كان هذا لا يعنى إنكاره لهذه الأسرار، ولكنه كالجنيد يكتفي بالرمز والتلميح ولا يعترض على شيء مما ذكره البسطامى في الاتحاد أو الحلاج فى الحلول وكذلك النورى والشبلى، والرسالة واللطائف مشحونان بأقوالهم جميعاً، إلا أنه يقف عند حدود الفناء في الشهود، ولا يصرح بالفناء فى الوجود0
والولاية ثمرة من ثمرات الطريق الصوفي تأتى في نهاياته، وعد الصوفية الولي هو الفاني في مقامات المشاهدة وتتوالى عليه أنوار المكاشفة، والأصل عندهم هو توفيق الله للعارفين وولايته لهم0 ويقرر القشيرى أن النبي فوق الولي، والنبوة مقام لا ينبغي لأحد من خلق الله سوى من اصطفاهم الله لها، ورتبة النبوة فوق رتبة الولاية، وبالتالي معرفة الأنبياء الروحية تفضل معرفة الأولياء0 ومع ذلك يؤكد القشيرى على أن الأولياء يشاركون الأنبياء في العلم من باب الفضل والرضا لا على الوجوب، وأجاز أن يكون الولي معروفاً ومشهوراً بولايته، ولا يكون مفتوناً، ويرى مع أغلب الصوفية جواز سقوط الخوف من سوء العاقبة في المآل عن الولى0 كما يرى أن العصمة للأنبياء والحفظ للأولياء، وأجاز ظهور الكرامات على الأولياء، وإن كانت غير شرط في الولاية0
ويتفق القشيرى مع الصوفية في الفراسة، وهى في حدود ما قرروا لا تختلف مع حدود الشريعة والسنة النبوية، ولكن المشكلة في أن الصوفية لا يقفون عند هذه الحدود بل يتجاوزونها دائماً ويحلقون في آفاق أخرى، ومع ذلك يمكن القول بأن تيار الاعتدال وعلى رأسه القشيرى قد حفظوا للتصوف صبغته الإسلامية على طول مسيرته، ونجحوا إلى حد كبير في تنقية أجوائه من الأفكار الدخيلة والتصوفات الأخرى التي تحمل كثيراً من المناهج والمضامين المخالفة للإسلام روحاً ونصاً، وشريعة وحقيقة0
هذا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

الآراء الكلامية والصوفية عند القشيري

ملخص بحث
الآراء الكلامية والصوفية عند القشيري
ماجستير"منشور"1997م.
د.امام حنفي سيد
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، المبعوث هداية ورحمة للعالمين، وبعد000 هذه الدراسة عن آراء القشيرى الكلامية والصوفية، قسمتها إلى قسمين، الأول منهما تناولت فيه آراءه الكلامية وجاء في تمهيد عبارة عن ترجمة القشيرى ومؤلفاته، وستة مباحث اشتمل على العناوين التالية : موقف القشيرى من علم الكلام، والصفات الإلهية، والقضاء والقدر، والنبوات، والتكليف والإيمان، والإمامة0
ثم تناولت في القسم الثاني آراءه الصوفية، وجاء في تمهيد تحت عنوان التصوف وضرورة الالتزام، وخمسة مباحث هي على النحو التالي : البدايات في الطريق الصوفي، والإعداد في الطريق الصوفي، والأحوال، والمقامات، وثمرات الطريق الصوفى0
وتأتى أهم نتائج هذه الدراسة على النحو التالي :
أولاً : بالنسبة للجانب الكلامي :
كان القشيرى من أهم وأبرز المشجعين للعمل بعلم الكلام ودراسته، وكان يرى ارتباط هذا العلم بالعقيدة الإسلامية، فهو يقوم ببيانها وتوضيحها وتقديم الأدلة العقلية والبراهين التي تؤيدها، كما أنه يدافع عن هذه العقائد في مواجهة الشبهات وشكوك الخصوم0 ومن ثم أجاز الجدل والمناظرة في علوم العقائد في إطار الدفاع عن أصول الدين، ولذلك سعى إلى التماس شرعية علم الكلام من الكتاب والسنة0
كما ذم القشيرى التقليد ورأى وجوب النظر في العقائد وغيرها، ووجد في التقليد خطورة كبيرة على المكلف، واسترشد بموقف القرآن الكريم من الدهريين عندما رد حجتهم باتباعهم فى كفرهم لآبائهم، وذهب إلى أن أول الواجبات على المكلفين هو النظر0
ورد القشيرى على خصوم علم الكلام ووضح أنه علم له لغته ومصطلحاته الخاصة به، وكان السلف على دراية بقضايا علم الكلام على عكس ما يتصور الخصوم من جهلهم بها، كما بين أن علم الكلام ليس بدعة فهو ككل علم ظهر لخدمة الشريعة كعلم الأصول والفقه علوم الحديث وغيرها، وبين أن نهى السلف كان عن الجدل بالباطل واتباع المتشابه الذي نهانا الشرع عن الخوض فيها، وانتهى القشيرى إلى تقرير حقيقة أن علم الكلام من العلوم الشرعية المقدمة على غيرها من العلوم، ويحمد دارسوها إن التزموا بأصول المنهج ووقفوا عند آداب البحث والنظر والحوار مع الخصوم0
وجاء موقف القشيرى من المنهج واضحاً وقويماً ومعتدلاً، فقرر أنه يقوم على أساسين العقل والنقل، وأن الأدلة العقلية شرعية، طالما كانت صحيحة وسليمة وواضحة، سواء ورد بها نص أم لم يرد، كما أشار القشيرى إلى أن الإلهام القلبي طريق يصل بصاحبه إلى اليقين، وهو يخص الصوفية0 ومن أساسيات المنهج عنده الاتباع وعدم الابتداع، وذهب إلى أن مصادر أصول الدين والفقه واحدة وهى الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وأجاز التأويل إذا أدى ظاهر النص لشيء من التشبيه أو التجسيم؛ لتعارض ذلك مع أصول العقيدة0 واحتج القشيرى بأحاديث الآحاد وجواز العمل بها، إلا أنه لم ير إفادته لليقين، وكان يأخذه بضابط وهو وجود أصل له في كتاب الله أو الإجماع، وعد القشيرى الإجماع حجة يقطع بها في مسائل الأصول، وذهب إلى أن القياس مصدر من مصادر الشريعة0
وذهب القشيرى إلى أن العلوم مكتسبة والمعرفة إلهامية ووهب من الله، تأتى على إثر مجاهدة الإنسان لنفسه وتقويمها، والطريق لمعرفة العلوم الدينية هو العقل والنقل، أما الإلهام فالطريق إليه هو المجاهدة، ويؤدى لليقين عند الصوف ، وبداية الإلهام هو علوم النظر والكسب، ويعتقد القشيرى كغيره من الصوفية إمكانية اكتساب المعرفة من غير طريق العقل، وتتقدم المعرفة الإلهامية عنده على النظر، ومع أنه يقدم العارف الصوفي على العالم إلا أنه لا يجيز له الفتوى أو الجلوس لتعليم الناس، وتختلف درجات اليقين عنده باختلاف درجات المريدين في طريق المجاهدة0
وذهب القشيرى إلى أن إثبات الصانع هو أساس البحث في الإلهيات، وأن القرآن الكريم تعددت فيه أدلة إثبات الوجود، وتفاوتت مستويات الخطاب فيه؛ لتناسب جميع الناس، منها النظر والتأمل فى خلق الكون والإنسان، واستشهد كالمتكلمين على إثبات وجود الله بالأدلة القرآنية كدليل الصنعة، والقدرة والإتقان والإحكام، وكان هذا هو طريق الأنبياء في إثبات وجود الصانع، كما عد القشيرى معجزات الأنبياء ونجاح دعوتهم وانتشار اتباعهم دليلاً على وجود الله، واستعان كذلك بدليل الجواهر والأعراض0
وأشار القشيرى في حديثه عن النبوات إلى أن الواجبات بعد ورود الشرع كلها سمعية، وهو يتفق فى ذلك مع الأشاعرة إلا أنه يجيز إرسال الرسل من طريق العقل، ثم بين أن دور الشرع هو تحديد العلاقات بين البشرو الحفاظ عليهم من الصراعات والمنازعات، وإبطال الشرع إثارة للفتن وفساد للعالم0 ويفرق القشيرى بين نوعين من الوحى أحدهما للإلهام والآخر للإعلام، فالملائكة التى تنزل بالإلهام وهو يخص الصوفية من هم دون الأنبياء، أما ملائكة الإعلام فتخص الأنبياء وحدهم0
وذهب القشيرى إلى أن العصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنون عصوا ربهم فهم فى قبضة رحمته وعدله، إما أن يغفر لهم بفضله ورحمته أو يعذبهم قصاصاً وعدلاً جزاء ما اقترفوا من ذنوب، وهو موقف معتدل يعبر عن حقيقة موقف السلف الصالح وأهل السنة والجماعة0 واتفق القشيرى مع أهل السنة والجماعة أيضاً في أن البعث والنشور وكونه بالروح والجسد جميعاً، وأن الجنة والنار مخلوقتان الآن وباقيتان ودائمتان لا يزولان ولا يبيدان0 كما أثبت الرؤية في الآخرة، ونفاها في الدنيا في مقابل موقف المعتزلة الذين نفوها فى الدنيا والآخرة، وهى عنده في الجنة للمؤمنين فقط دون الكفار0
وحول آراء القشيرى في الإمامة نجده يرى وجوب تنصيب الإمام عن طريق السمع، وإن كان الشرع ترك حرية اختيار الإمام للمسلمين، ولا يوجد نص قاطع بإمامة أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأجاز أغلب الأشاعرة عقد الإمامة لإمامين أو أكثر بشرط تباعد البلاد فيما بينهم0 وذهب القشيرى إلى ضرروة اشتراط عدة شروط فى الإمام منها العلم والعدالة والورع وحسن التدبير والقرشية... وذهب أيضاً إلى وجوب الشورى، وجواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل بغير عذر، وأوجب طاعة الأئمة ولم ير جواز الخروج عليهم بالسيف0 كما أثبت إمامة الخلفاء الأربعة، وقرر أن ترتيبهم في الفضل جاء كترتيبهم في الولاية ونهى عن سب الصحابة، وأن ما حدث بينهم كان اجتهاداً وتأويلاً وأدار الله الحق مع علىٍّ حيث دار0
- ويجدر الإشارة أن القشيرى قد ذهب في مباحث علم الكلام إلى الجمع بين أسلوب الكلاميين ومذاقات الصوفية، ولذلك كان يتجاوز عن الجدل الكلامي في الفروع بهدف تقرير الأصول وتحويل علم الكلام إلى علم عملي سلوكي يعرفه المريد، ثم يبدأ بتطبيق مراحل الطريق الصوفي دون الوقوف عند حدود الجدل، ويمكن القول بأن أسلوب القشيرى في علم الكلام هو أسلوب كلامي متصوف أو متصوف متكلم0
ثانياً : بالنسبة للجانب الصوفي :
ذهب القشيرى إلى أن التصوف مأخوذ عن الصفاء، والصوفي هو من يصافيه ربه، والتصوف عنده عبارة عن التخلي عن كل خلق مذموم والتحلي بكل خلق حميد، ويرى ضرورة اتباع الكتاب والسنة وعدم الابتداع، وصحبة أهل الالتزام، ونبذ المبتدع في الدين أو التارك للسنة0
والمريد في البدايات يجاهد نفسه بقسوة حتى تبرأ من كل عيب وتتخلى عن كل آفة، وتهجر كل شهوة، وتنمو الإرادة عنده بالتجرد عن الجاه والسلطان وترك العلاقات والأملاك والخلوة والجوع والسهر والذكر، ومن الصوفية من يكون مريداً فيسلك الطريق من أوله ومنهم من يكاشف من أول الطريق وهو المراد0
وعلى المريد أن يتحلى بالصدق، ويبدأ بتصحيح عقيدته وإخلاص نيته ويوجب عليه القشيرى تعلم علوم الشريعة فى البدايات، وعدم الأخذ بالرخص وضرورة التأدب بشيخ فمن لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان، وعلى المريد أن يتأدب مع شيخه ويحترمه ويحذره من عقوق المشايخ ولعلاقة المريد بالشيخ جانبها الايجابي والآخر السلبي، والقشيرى يتبع الصوفية في موقفهم من الشيخ، وهو ما قد يخالف بعض مقاصد الشريعة من ضرورة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وحسن الصحبة، وعدم قبول ما يخالف الشريعة أو الموافقة عليه0
ولأخلاق المريد مع أصحابه جوانب إيجابية كثيرة تدل على فهم الصوفية لآداب الإسلام وعملهم بها، وخصوصاً تحذير القشيرى ومشايخ الصوفية من صحبة الغلمان والنسوان وعدّوا ذلك فتحاً لباب الخذلان، وكذلك حَسُنتْ آداب الصوفية في السفر، واختلف القشيرى مع الصوفية فى جواز السفر فى البدايات، فلم يره للمريد في البدايات، واتفقت وجهة نظر الصوفية مع مقاصد الشريعة فى السفر، عدا موقفهم من جواز السفر في البراري والصحراوات بلا هدف أو غاية، ودون التزود بالطعام والشراب وغيره من أدوات السفر وكثرة حكاياتهم فى ذلك0
وتحاكم الصوفية في مجاهدة النفس إلى الكتاب والسنة، وذهبوا إلى ضرورة تنقيتها من كل آفة كالكبر والحسد والحقد والغرور والغيبة والنميمة، وتحليتها بكل خلق محمود كالإيثار والصدق، ويؤخذ عليهم التجرد التام من الجاه والأملاك، وإيثارهم الفقر على الغنى والذل على العز، وذلك أنهم جعلوا الفقر غاية من غاياتهم لا يتم للصوفي حقيقة المجاهدة إلا به، ورغم موافقة القشيرى للصوفية فى ذلك إلا أنه لا يرى الخروج عن الأموال لمن له عيال لا يصبرون على الفقر والجوع، أو ظن من نفسه السؤال بعد ذلك0
ويذهب القشيرى إلى أن الجوع من صفات الصوفية، ويميل معهم في مواقفهم المعتدلة والمغالية في أمر الجوع، وإن كان يرى سياسة النفس على الاعتدال، والجوع كما يصفه الصوفية يتفق مع التصوف الهندي والفارسي وكذلك عند النصارى، أما في الإسلام فيقابله الصوم على ما ذكرت الشريعة التي لا تعتبر الجوع غاية في ذاته، ولكنه عبادة يتقرب بها العبد لربه، يتم به تنقية نفسه وتهذيبها من شرورها وكبح جماح شهواتها0
ويعد جانب الإعداد هو الجانب العملي الذي يمثل المنهج عند القشيرى، والذي استقاه من خبرته العملية وتخلقه في الطريق الصوفي، ويعد الذكر من أبرز أركان المجاهدة والإعداد، ويتسم عند القشيرى بموافقته للآداب الإسلام فى ذكر الله، إلا أنه يوافق الصوفية على الذكر بالاسم المجرد "الله" وهو ما رفضه مشايخ الإسلام فانكروا على أصحابه كابن تيمية، كما أقر الصوفية فى السماع والرقص وتمزيق الخرقة والذين يجيزون ذلك على شروط يصنعونها، والسماع في حد ذاته لا غبار عليه عندما لا يكون دنياً أو طقساً يتعبد به إلى الله، أما والحال كذلك فهو مرفوض شرعاً وطبعاً، وما أنزل الله بذلك شريعة تتبع ولا أثُرَ عن النبي أنه سمع كسماع الصوفية وعلى إثره تواجد هو أصحابه واتبعوا ذلك بمنكر من الفعل كتمزيق الثياب أو الغيبة أو ما شابه ذلك، وكل استدلال على هذه الأفعال من الشريعة افتراء وتعنت غير مقبول0 ويكاد لا يكون هناك تصوف بغير سماع أو رقص صوفي على مسيرة تاريخه، مما يشوه آداب الشريعة وينقض بعض أركانها، وقد أدى السماع والوجد بعد القرن الخامس الهجرى إلى ظهور أنواع أخرى من المنكرات في السماع أحالت الشريعة والحقيقة إلى محض خيالات، وذهبت بتعاليم الرسول تماماً0
وساهم القشيرى بخط كبير في تأصيل المصطلح الصوفي ووضع قاموس عام لألفاظ الصوفية، يحتاج للرصد والدراسة0 ويتجلى ذلك بوضوح عند تناول القشيرى للأحوال عند الصوفية وتعريفه لمفهومها عندهم بدقة شديدة تدعو للإعجاب، وتعددت مقاصد الصوفية من وضع قاموس للمصطلحات يخصهم وحدهم دون غيرهم ذكرها القشيرى ووافقهم عليها0 وجملة الأسباب التي يركن إليها الصوفية في هذا الشأن تصلح لأن تكون مفتاحاً لفهم غايات الصوفية من التصوف على وجه الحقيقة وحسم بعض المسائل الغامضة في تاريخهم مثل موقفهم من التكاليف والشريعة والحقيقة والتوحيد والفناء والحب والولاية وغير ذلك0
وتعبر المقامات عند الصوفية على ترقى الصوفي في مراحل الطريق وقطعه لأشواطه، والمقامات عند القشيرى كثيرة بلغتْ الثامنة والأربعين، وعند غيره كالهروى بلغت المائة، واقتصرتُ على المقامات الأساس أو المقامات التي رأى الصوفية الأوائل أنه لا غنى عنها في الطريق، ومن ذلك التوبة، والزهد، والصبر والشكر، والخوف، والرجاء، والتوكل، والرضا0 ويتسم موقف القشيرى من المقامات المذكورة بالاعتدال والتخلق بأخلاق الشريعة، ففي التوبة نجده في غاية الإيجابية حيث يغلب الرجاء على الخوف واليأس، ويؤمل المذنبين في جميل عفو الله ومغفرته0 أما مقام الزهد فلا يخلو عند الصوفية من الغلو حيث نجد بعضهم يصرح بضرورة توبة الزاهد عن زهده، وتخليه عن الأملاك والجاه تماماً وقعوده في ظل فقره وأن لا يشاهد في فقرة حقيقة فقره، وذلك عندهم هو الصوفي الحق، وكل ذلك مرفوض شرعاً وطبعاً، حيث يؤدى بصاحبه إلى السؤال والمذلة والمسكنة، فكيف يصل إلى الله من شغلته نفسه وقوت عياله عن صدق عبادته؟!0
وجاء حديث القشيرى عن الصبر في غاية التشويق، ومعبراً عن فهم الصوفية للنفس البشرية وبراعتهم في تحليلها وتفسيرها فتحدثوا عن الصبر وأنواعه وسماته ومميزاته حتى بلغوا مقامات الشكر في الصبر وبينوا أن أعلى درجاته وأحلى ثماره هو المحبة وعشق المحبوب0
وأعطى القشيرى الرجاء والخوف أهمية بالغة حيث يرى أنهما من أهم وسائل التربية وتهذيب النفس وتقويم الأخلاق،ويفرق بين الرجاء والتمني، وبين الرجاء والبسط عندما يكون الأول حالاً، ويرى وجود الخوف والرجاء في قلب المريد ضرورة لابد منها، إلا أنه يغلب جانب الرجاء على الخوف، لما فيه من زيادة التفاؤل والأمل في نفوس الناس كما يفرق في مقام الخوف بينه وبين الخشية والرهبة، ويربط بينه وبين مفهوم المراقبة0
واعتبر القشيرى التوكل من أعمال القلوب الاعتقادية وبه يطمئن القلب وتسكن الجوارح ثقة فى ربها، وبينَّ موقفه من إسقاط التدبير وكونه لا يخرج بالمريد إلى نفى الأسباب والتواكل وهو موقف معتدل، وأكبر ثمرات التوكل الرضا، وللصوفية موقف من الكسب يتراوح بين تركه تماماً توكلاً، أو التكسب واعتبار ذلك من صميم التوكل، ويتأرجح موقف القشيرى من هذه المسألة إلا أن الغالب على كلامه الأخذ بالأسباب، وطلب المعاش وعدم التواكل0
وتأتى المحبة كثمرة من ثمرات الطريق الصوفي عند القشيرى، وغاية يرنو إليها المريد، ويفرق بين محبة العبد لربه، ومحبة الله لعبده، ويربط بين محبة الله والإرادة، فهي تعنى إرادة الله أن ينعم على عبده، ومن آثار المحبة على العبد إيثار رضا المحبوب، وكثرة ذكره، وخير شاهد على محبة الصوفية لربهم ما يبذلونه في الطريق الصوفي من مجاهدات ورياضات عنيفة، ومقاساة الشدائد شرط المحبة عند القشيرى0 ورفض القشيرى إطلاق لفظ العشق على العلاقة بين العبد وربه لما يجده في نفسه من فرط الحب، لما في ذلك من تجاوز العبد لحدوده وإرخاص لمقامات التوحيد في قلبه، والعشق لا يكون إلا بين مثلين، وحاش لله أن تلحقه صفات النقص وآفات الخلق0 كما تناول القشيرى مفهوم الشوق إلى الله، وحب لقائه ومن كان حاله الشوق إليه رغب في الموت والشهادة، وقدم المحبة على الخوف، وعد الثانية من صفات أهل التلوين، والمحبة في النهايات ولذلك فهي من صفات أهل التمكين0 ولا يجد القشيرى فرقاً بين المحبة والخلة، فهما من نوع واحد والفرق بينهما في الدرجة، وعد المعرفة أصل المحبة، ولذلك كل منهما يستدعى الآخر، وهما متلازمان0 وعن علاقة المحبة بالتوحيد، والفناء في مقامات التوحيد نجد القشيرى ينكر على من يصرحون بأسرار التوحيد، وإن كان هذا لا يعنى إنكاره لهذه الأسرار، ولكنه كالجنيد يكتفي بالرمز والتلميح ولا يعترض على شيء مما ذكره البسطامى في الاتحاد أو الحلاج فى الحلول وكذلك النورى والشبلى، والرسالة واللطائف مشحونان بأقوالهم جميعاً، إلا أنه يقف عند حدود الفناء في الشهود، ولا يصرح بالفناء فى الوجود0
والولاية ثمرة من ثمرات الطريق الصوفي تأتى في نهاياته، وعد الصوفية الولي هو الفاني في مقامات المشاهدة وتتوالى عليه أنوار المكاشفة، والأصل عندهم هو توفيق الله للعارفين وولايته لهم0 ويقرر القشيرى أن النبي فوق الولي، والنبوة مقام لا ينبغي لأحد من خلق الله سوى من اصطفاهم الله لها، ورتبة النبوة فوق رتبة الولاية، وبالتالي معرفة الأنبياء الروحية تفضل معرفة الأولياء0 ومع ذلك يؤكد القشيرى على أن الأولياء يشاركون الأنبياء في العلم من باب الفضل والرضا لا على الوجوب، وأجاز أن يكون الولي معروفاً ومشهوراً بولايته، ولا يكون مفتوناً، ويرى مع أغلب الصوفية جواز سقوط الخوف من سوء العاقبة في المآل عن الولى0 كما يرى أن العصمة للأنبياء والحفظ للأولياء، وأجاز ظهور الكرامات على الأولياء، وإن كانت غير شرط في الولاية0
ويتفق القشيرى مع الصوفية في الفراسة، وهى في حدود ما قرروا لا تختلف مع حدود الشريعة والسنة النبوية، ولكن المشكلة في أن الصوفية لا يقفون عند هذه الحدود بل يتجاوزونها دائماً ويحلقون في آفاق أخرى، ومع ذلك يمكن القول بأن تيار الاعتدال وعلى رأسه القشيرى قد حفظوا للتصوف صبغته الإسلامية على طول مسيرته، ونجحوا إلى حد كبير في تنقية أجوائه من الأفكار الدخيلة والتصوفات الأخرى التي تحمل كثيراً من المناهج والمضامين المخالفة للإسلام روحاً ونصاً، وشريعة وحقيقة0
هذا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

iimaamm_001@yahoo.com
0171942755