الجمعة، 4 سبتمبر 2009

يهزلون في موضع الجد

يهزلون في موضع الجد







* فهمي هويدي



الكاتب و المفكر الاسلامى فهمى هويدى

مؤتمر حركة فتح الذي انعقد في بيت لحم يثير من علامات الدهشة والإحباط أكثر مما يثير من أسباب الثقة والتفاؤل، ذلك أنه من عجائب عالم السياسة أن تعقد حركة تحرير مؤتمرها تحت مظلة الاحتلال، وبموافقة العدو، بل وتذهب إلى أبعد، فتنتخب مجلسا «ثوريا» وتتحدث في بيانها عن حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال بكل الأشكال.







وهو كلام كبير، إذا أخذ على محمل الجد، فإنه يعني إطلاق شرارة المقاومة فور انتهاء جلسات المؤتمر، خصوصا أن الظرف مهيأ تماما لذلك. فلا المفاوضات أوصلت إلى شيء. ولا الاستيطان توقف. ثم إن عملية تهويد القدس مستمرة يوما بعد يوم، أما الحكومة الإسرائيلية الراهنة، فقد أغلقت الأبواب أمام أي احتمال للتفاهم حول أي عنوان من عناوين القضية، وتلك ملابسات توفر للمجلس «الثوري» فرصة نموذجية لكي يؤدي واجبه ويثبت جديته وشرعيته، لأنه إذا تشكل ثم سكت فمن حق أي مواطن أن يسأل: إذا لم يثر أعضاؤه في هذه الظروف، فمتى يثورون إذن؟





لست أبالغ. فمثل هذه التوقعات تُعد ترجمة عادية جدا للكلام الذي صدر عن المؤتمر، يخطر على بال المرء إذا أحسن الظن به، وتصور أنه يعني حقا ما يقول.





لكن هذا الأمل لا يلبث أن يتراجع حين يفتح المرء عينيه على حقيقة الرعاية الإسرائيلية للمؤتمر، والجهد الحثيث الذي تبذله أجهزه السلطة «الوطنية» لملاحقة المقاومين واعتقالهم وتعذيبهم، إضافة إلى التنسيق الأمني مع الإسرائيليين، لإحكام عملية الملاحقة والاعتقال، فضلا عن إجهاض أي عمليات فدائية، وهو ما يدعونا إلى القول إن حكاية مقاومة الاحتلال بكل الأشكال كانت تعبيرا إنشائيا وليست موقفا حقيقيا، وأن المجلس الثوري لا يراد له أن يفعل أكثر مما يفعله مجلس الأمومة والطفولة في مصر!







من العجائب أيضا أن يعقد مؤتمر حركة فتح للمرة الأولى منذ عشرين عاما، دون أن تعرض عليها أي وثائق أو تقارير عن الأنشطة المختلفة خلال الفترة السابقة، وهذا تقليد معمول به في جميع التنظيمات السياسية والمؤسسات الأهلية، من الأحزاب السياسية إلى التعاونيات والاتحادات الطلابية، وقد قرأت أن خمسة أو ستة تقارير أعدت بالفعل، ولكنها استبعدت جميعا، واعتبرت كلمة رئيس السلطة في افتتاح المؤتمر هي الوثيقة التي يتعيّن على المشاركين أن يهتدوا بها في مناقشاتهم وتحديد مواقفهم.





وهو ما ذكرنا بالتقليد المتبع في أنظمتنا الذي بمقتضاه يتحول كلام أي رئيس إلى خطاب تاريخي وخطة عمل، وفي غيبة تقرير سياسي حقيقي يقدم إلى المؤتمر، فإن اللقاء فقد عموده الفقري، وتحول مؤتمر الحركة إلى شيء أقرب إلى مجرد كلمة موسمية.







من العجائب كذلك أن الأعضاء الذين حضروا مؤتمر الحركة، جرى حشد أعداد كبيرة منهم بواسطة الأجهزة الأمنية، التي تخيرت أناسا بذاتهم للوصول إلى نتائج محددة سلفا، في مسلك هو صورة طبق الأصل لمؤتمرات الاتحاد الاشتراكي في مصر ومؤتمرات اللجان الثورية في ليبيا،







وفيما علمت، فإن لجنة تحضيرية للمؤتمر تشكلت في عمان، كان يفترض أن تتولى مسائل العضوية والتقارير التي ستعرض على «كوادر» الحركة، ولكن السيد أبومازن ألغى اللجنة بعدما بدأت أعمالها بالعاصمة الأردنية، واستبدلها باجتماع عقد برئاسته في رام الله لطبخ مسألة العضوية وفتح الباب لتحضيرها. وكانت النتيجة أن المؤتمر الذي كان يفترض أن يشارك فيه ما بين 1200 و1600 عضو، حضره أكثر من 2250 عضوا، لم يعرف أحد من أين جاءوا ولا من الذي رشحهم للعضوية، وإزاء ذلك لم يكن مستغربا أن ترتفع أصوات شككت في هوية أعداد كبيرة من الحاضرين، كما شككت في دوافع اختيارهم.







العجيبة الرابعة أن المؤتمر الذي يفترض أن يضم كوادر «فتح»، كان طوال الوقت تحت مراقبة صارمة من الأجهزة الأمنية، التي لم تتردد في قمع أي عضو يشك في تجاوبه مع المخطط المرسوم، وكلمة «قمع» هذه لا مبالغة فيها، لأن الأخبار تحدثت عن قيام عناصر الأجهزة البوليسية بالاعتداء بالضرب على شخصيات مهمة محسوبة على خط أبومازن. ومن هؤلاء اللواء توفيق الطيراوي رئيس المخابرات السابق والعميد أبوحسن الشيوخي (75 سنة) والعميد ماجد حيمور الذي قدم من الأردن، وقد نقل الثلاثة إلى المستشفى لتلقي العلاج من آثار الضرب المبرح، الذي ما كان يخطر على بال أحد.







في ظل استمرار هذا الوضع أخشى أن يعاني الفلسطينيون مما عانيناه في أغلب الأقطار العربية، حين ذهب الاستعمار الأجنبي وحلت محله نخبة «وطنية» كانت أسوأ منه، ما جعل كثيرين يتحسّرون على زمن الاحتلال، وها هي سلطة رام الله التي مازالت تتمسح في التحرر الوطني، تبشرنا بما تمارسه من «قمع وتدليس» بأنها بصدد تكرار السيناريو البائس الذي خبرناه.





إن أحلامنا لم تعد تؤجَّل فحسب، وإنما أصبحت تُجهَض واحدا تلو الآخر.



http://fahmyhoweidy.blogspot.com/2009/08/blog-post_2134.html







*مفكر اسلامي مصري

جريدة الرؤية الكويتية

12/8/2009