السبت، 29 نوفمبر 2008

"المعجز" للقاسم العياني..تحقيق ودراسة د.إمام حنفي سيد

المعجــــــــــز

تأليف

الإمام المهدى لدين الله الحسين بن القاسم بن على العيانى
ت 404هـ
دراسة وتحقيق وتعليق

د/ إمام حنفى سيد عبد الله

مقدمة كتاب المعجزوتشمل على :
1- التمهيد0
2- تحليل الكتاب0
3- ترجمة المؤلف ووصف المخطوطات0
4- نماذج من المخطوطين0

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

هذا كتاب معجز فى كل شئ فى ذاته وفى تأليفه، ومؤلفه الذى قدم هذا الفكر العميق قد مات شهيدا فى ريعان الشباب، ولم يتم بعد العشرين من عمره00 فمتى حصل هذه الثقافة العميقة الواسعة، وتمكن من أطرافها هذا التمكن الذى أمكنه بعد أن يحاور فلسفات متعددة، وأفكار شتى متفرقة، يصعب على المتمرس أن يجمعها بعد أن يعايشها عمرا طويلا، فكيف بمن لم يتجاوز سن الصبا إلا قليلا ؟!
المؤلف هو الإمام المهدى لدين الله الحسين بن القاسم بن على العيانى الذى توفى سنة 404هـ00 له مؤلفات فى اللغة والأدب والتفسير وعلم الكلام00 إنه إعجاز بكل معنى الكلمة، ودليل وبرهان على مواهب آل بيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتمكنهم فى ميادين العلم المختلفة، وبحق هم الراسخون فى العلم الذين قد أشار إليهم القرآن الكريم، الذني يلجأ الناس إليهم فى الملمات وشدائد الأمور00
والكتاب من نفائس المكتبة العربية الإسلامية، وهو بالغ الدقة فى منهجه ومعالجة مسائله وقضاياه00
وقد يؤلف العالم العديد من الكتب ولما يبلغ هذه الدقة المتناهية فى التقسيم والتبويب، وتوزيع القضايا توزيعا عادلا متوازنا بين ذفتى الكتاب، وكأن الكتاب تشد كتبه وأبوابه بعضها بعضا كبناء غاية فى الروعة والجمال والمتانة فى نفس الوقت0

ولا أتجاوز إن قلت إن هذا الكتاب يمثل ذروة الفكر الإسلامى فى نهايات القرن الرابع الهجرى وبدايات القرن الخامس سواء فى الطرح أو النقد أو الحوار مع الآخر، الذى كان الكتاب من أوله إلى آخره موضع اهتمامه ورعايته0

كيف كان يفكر المسلمون فى قضايا الألوهية والتوحيد ما الذى انتهوا إليه بعد صدامهم مع الثقافات والفلسفات المتعددة والمختلفة، التى التحموا بها وعايشوها00 ماذا أخذوا00 وماذا تركوا00ولماذا أخذوا ما أخذوا وتركوا ما تركوا؟!

هل صحيح حقا ما يدعيه أنصاف المثقفين من الدارسين وغيرهم من اتباع الفكر السطحى أن الإسلام قد قدم النقل على العقل، ووضع الاجتهاد خلف التقليد، وأفضى به الموروث الثقيل من النصوص والأخبار والآثار إلى موت العقل، حتى فى أخص خصوصياته وهو العقيدة ؟!

هذا كتاب يقرر أن أسس المنهج العقلى مأخوذة من الكتاب، ويرفض الفكر الأرسطى والمنطق الصورى والثقافة الهلينية القديمة، القائمة على الخيالات والأوهام الذهنية والفروض الواهية00 العقل أساس النقل ولا نقل بغير عقل00 وما تعارض نقل مع عقل أبدا إلا فى عصرنا00 المسلمون القدماء لم تجد هذه الإشكالية إلى عقولهم وقلوبهم سبيلا 00 ولكن فى هذا العصر ظهر من يفرق بين الاثنين، ووجدنا من المتخلفين من يدعو أتباعه إلى ترك عقولهم عند باب المسجد مع أحذيتهم!!

تعامل الإسلام مع الثقافات والحضارات الأخرى بكل نضج وحرية وتفتح وتسامح، تحاور معها فأخذ منها وأعطاها وأعاد صياغة مناهجه، وكان موضوعيا ؛ لأن الذين حملوه إلى العالم كانوا أحرارا، يحترمون البشر كل البشر دون تفريق بين إنسان وآخر أو عقيدة وأخرى، فقد أظلتهم شريعة تجل الحرية وتحرر الإنسان، ليختار اختياراً حراً مجرداً عن كل قهر أو قسر أو اضطرار00 > لقد أظلت الناس حضارة إنسانية تحترم الإنسان وتقدره، فتعرفه بربه وتكشف له عن أسرار وجوده وتبين له ما غمض عليه من شأن خلقه وبدايته، وتحدد له الغايات وما يتعين عليه، فاستشعر كرامته ودأب على البحث عن غاياته وجوده0

لقد عاش بين المسلمين من أصحاب العقائد والديانات الأخرى ما لا يحصى من البشر، فما وجدوا قهراً ولا اضطهاداً، وما اضطرهم أحد إلى ترك أديانهم أو عقائدهم تحت أى ظرف من الظروف00 وسهر المسلمون على رعاية الكنائس والمعابد والبيع00 وما سمعنا أن المسلمين الأوائل قد هاجموا كنسية أو معبداً أو هيكلاً00 أو قتلوا ذمياً معاهداً إلا فى حق ؛ كأن يزهق روحاً حرم الله قتلها أو يأتى ما ينقض عهده ويحل دمه00 هذا فى مقابل ما يحمله التاريخ من عار محاكم التفتيش فى أسبانيا00 والقهر الدينى فى أوربا وغيرها00

حاور المسلمون منكرى الألوهية وجاحديها وعبدة النجوم، وجالسوهم وجادلوهم بالتى هى أحسن، وعرضوا عقيدة الإسلام، كما عرضها الخليل إبراهيم عليه السلام فى الزمن الأول، فبسطوا المسائل وحللوا مقالات الفرق00 طرحوا تصور الإسلام للألوهية والتوحيد بين الجميع، فى مقابل تصور النصارى وتثليثهم، وتصور اليهود وتشبيههم، وتصور الثنوية والمجوس وإثنينتهم، وتصور أصحاب الكون والدهرية وأصحاب الطبائع بإلحادهم00 فما كان من الإسلام إلا السماحة والوضوح والبراهين الدافعة التى تضطر العقول إلى التسليم بإله واحد أحد فرد صمد00 إله قادر عالم حكيم ، عالمى وليس محلى، منزه عن كل نقص وعيب، وموصوف بكل ما يليق من صفات الجمال والكمال والجلال00

لقد ترقى الإنسان فى ظل التصور الإسلامى بمفاهيمه عن الألوهية، فما عاد يعبد صنما أو وثنا أو يسجد لشجر أو حجر أو يتوجه بعينه نحو نجوم السماء ضارعا أن ترفع عنه ضرا أو تجلب له نفعا00 إنه الإسلام الذى حرر الإنسان من وهم الأرض00 ليرقى به نحو حقيقة جلية واضحة نزلت من السماء، وطالبت كل البشر أن يستقبلوها بعقولهم ولا يغلقوا قلوبهم دونها00 إنه الله الرحيم بعباده00 أبى إلا أن يأخذ بأيديهم إليه00

وعلى ذلك جاء وحى السماء إلى الرسول الخاتم بالرسالة العالمية الكاملة التى أتمت البناء وأرست الأسس والقواعد فكيف رد الإسلام على منكرى وجاحدى النبوات عامة ومنكرى نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة00

ماذا تعرف عن الفضائية والجوهرية والمتجاهلة00
الحسين بن القاسم العيانى يحدثك عن عقائدهم ويرد على شبهتهم التى يعرضونها تجاه التصور الإسلامى00 ما المنهج الإسلامى فى المعرفة00 وما أدلة المسلمين فى إثبات وجود الله ووحدانيته00 وما هى الصفات التى ينبغى أن تنفى عن ذات الخالق ولا تليق به، إن كل ما فى هذا الكتاب معجز سيما لو تمهلت فى قراءته واستيعاب مفاهيمه وقضاياه00 وهذا نفسه ما يعترض التوجه الإسلامى المعاصر من الشيوعيين وأذنابهم وأصحاب الفكر االعبثي، والرأسمالى الغالى القائم على المادية الوضعية بما فيها من إسقاط الأديان والعبث بحقيقة الوجود00 إنه خطوة ضرورية فى تكوين المسلم لتصور متكامل لله والكون والإنسان وحقيقة البداية والغايات00 فما خلق الله شيئا عبثا ولا لهوا ، ذلك ظن عبدة الشيطان والجنس والدولار والدينار فى عصرنا00 وقبل عصرنا00 إنها حلقات متواصلة من الفكر المتوارث الذى لا يموت ويقابله الإسلام بحقائق لا تقبل التميع والتمويه0
ن ور الإسلام الساطع بين ثنايا هذا الكتاب فى مقابل طغيان الإنسان وأوهامه وجدله ولججه00 وكذب من ادعى أن الإسلام قد خضع فى مناهج عقيدته للفلسفة اليونانية أو غيرها00 وما تعلق به بعض المتوهمين من أمثلة وقضايا00 هذا الكتاب وغيره يقدم لهم البديل الواضح والمثال الصارخ على أصالة الفكر الإسلامى وأصالة التفكير الإسلامى0


لن نقف فى عصر تكنولوجيا الفضاء والسماوات المفتوحة والعولمة عراة ليس لدينا أسس فكرية ناضجة00 ولا نعرف كيف نكون مفاهيم حضارية فى مواجهة الآخر00 علينا أن نلحق بالركب بالاعتماد على الأصالة التى تحمى هويتنا فى الحاضر وتحملنا إلى آفاق المستقبل0

إن العالم اليوم فى حاجة إلى مفاهيم إنسانية تستطيع أن تنهض به من ارتكاسة الطين ووحل التصورات المادية، ولا يوجد ذلك إلا عند المسلمين00 وعلى وجه التحديد فى مناهج التفكير الناضح عندهم فى العقيدة والأخلاق وأصول الدين والفقه00

لم يعد لدى المسلمين أنفسهم ما يقامرون به، فقد سقط الشرق وتهاوى نجم الشيوعية، وقريبا تسقط الرأسمالية المتطرفة، إن لم تبحث عن فلسفات راسخة قائمة على العدل واحترام الإنسان والكون، وعدم العبث فى خلق الله أو الغلو فى اتجاه الخلود00 فالأرض تجأر وتئن من فساد الإنسان00 وعلينا أن نوضح للعالم حقيقة هذا الدين بصفاء توحيده ونقاء مناهجه000 ونعود أمة دعوة وبلاغ مرة أخرى00 حتى يصدق الغرب الواهم والشرق الواهن أن فى الإسلام نوراً مازال مشعا غطت أنواره أفاق العالم0

لا أدرى ماذا يعرف عزيزى القارئ عن المعاناة التى صادفتنى عند تحقيق هذا الكتاب ودراسته ولكن يكفى أن يعلم أنى ما أقدمت على هذا النوع من الدرس إلا من أجل إعلاء كلمة الله00 ولوجه الله وحده00 لذلك أسأله أن ينصر الإسلام ويعز المسلمين00 ويجعلنا تحت لواء الحق ماضين0 آمين
إمام عبد الله
القاهرة 11/3/2001

تحليـــل كتــــاب المعجــــز
للإمام القاسم العيانى
ت 404 هـ


بدأ القاسم العيانى كتابه المعجز بالحديث مع الملحدة الذين مجدوا وجود الله فقالوا بقدم الهواء وغيره، ومن ثم قدم أشياء مادية إلى جوار الذات القديمة، فلا معنى إذا للقول بإله قديم واحد أحد([1])0
ثم أعقب ذلك بباب آخر فى الدلالة على حدث الأجسام([2]) وهو فى هذا كله يستخدم أدلة الفلاسفة والمتكلمين فى إثبات الحدوث والقدم والتناهى والحركة والسكون0

يقول فى بيان صنع الله وحكمته : "إن أعظم الدلائل على الله، سبحانه وعز عن كل شأن شأنه، ما فطر من الأرضين والسموات العلا وصنع منهما تبارك وتعالى([3])0

واستعان فى بيان صنع الله فى السموات والأرض وحكمته وتقديره بدليل الصنعة والإتقان والكمال، وكذلك النظر فى النفس والآفاق والأكوان يقول :" فلعمرى لو لم يكن لنا من النظر إلا ما فى أنفسنا من الآيات والعبر لكان لنا فى ذلك كافية وأدلة واضحة شافية([4])"0

ألا ترى إلى ما بث الله من الخلق وما بسط لهم بعد خلقتهم من الرزق الذى لولا هو لهلكوا وذمروا ولما تناسلوا ولا كثروا، ولما تم بقاء ولا صيروا00 ثم جعل للمتعبدين عقولا لتكون لهم عليه دليلاً، فسبحان من دلنا على معرفته 000

ثم هو يختم هذا الكتاب فى تجليات واضحة فيدعو الله عز وجل فى خشوع وخضوع ومن ذلك قوله :"فيا خالق ويا باسط الرزق أسألك أن تجعل آخر حياتى وحضور وفاتى على أكمل ما يكون من طاعتك واتباع مرضاتك([5])"0

أفرد الكتاب الثانى بباب واحد هو "باب الرد على عبدة النجوم وغيرهم من فرق الملحدين([6])"0
وبدأ الباب بتقويم تربوى للعابدين والسالكين إلى الله بين فيه كيف يكون العبد مؤمناً عارفاً خاشعاً، فكل الدلائل إلى الله عز وجل تشير، وعلى وجوده ووحدانية شاهدة0

أعقب ذلك بالجواب على ملحد متعنت يسأل عن كيفية السبيل إلى معرفة الله وبم يعرف وما معرفته ؟
فأجابه بأن السبيل إلى معرفته عن طريق العقل المميز للأمور، وأما بم يعرف فعن طريق صنعه وتدبيره ومعجزته وتقديره، وأما ما معرفته فمعرفته اليقين بألوهيته والإقرار والتصديق بربوبيته([7])0
أجاب القاسم عن تساؤل هو أمعرفة الله اضطرار أم اختيار؟ بأنها اختيار00 ولو كانت الأولى، لما كان بين معرفة الجاهل والعالم فرق0
ثم عاد فذكر شواهد عديدة على الله تعالى من أدلة الصنعة والإتقان والإحكام فى خلق الإنسان والحيوان والنبات والسموات والأرض([8])0

ففى كل مخلوق لله آية وحكمة ناطقة بخلقه وعظيم صنعته، وفعل الله كل جميل وحسن، والملحد جهل حكمة الله فى الخلق والإيجاد، والمخلوقات شاهدة على أن لها صانع مبدع ويستحيل أن يكون أى منها خالقاً، لما هى عليه من تدبير مدبر وإحكام محكم([9])0

واستعان القاسم بدليل الحركة والسكون والتغاير على حدث المخلوقات، وأن لها محدثاً قديماً، واستحالة أن تكون الصدفة أو العشوائية هى مبعث هذا الإيجاد بحال من الأحوال، ولا يقول بهذا إلا جاهل أو مجنون([10])0
والدهريــة المنكرة للخالق تسأل عن الدليل على حدوث الدهر والزمان، والحركة والمادة والمياه فى الأكوان، ومتى بدأت، وهل لحركتها نهاية، وما الذى يمنع من أن يكون بدأ الحركة والحياة من فوق أى من الأفلاك العليا والكواكب والنجوم، ومن هذه الحركة نشأ الخلق؟

وهذا كلام لا معنى له لأنه ينسب لبعض الخلق ما هو حق لغيرها فإذا كانت الأفلاك العليا هى التى أوجدت الأكوان والعوالم من جماد وحيوان وحركة وسكون، فمن أوجدها؟‍‍ 000 إن لكل صنعة لابد لها من صانع، وهذا الصانع يقدر فى حكمتها أشياء ويصنعها لعلة، لا هباء ولا عبثاً، فهو قادر حكيم عالم مدبر عدل رميم كريم([11])0

والله عز وجل هو الذى خلق هذا الكون وما فيه من عوالم علوية وسفلية، بتقديره وعلمه وعدله وفضله، وهو الأول والآخر، سحر الأشياء للإنسان وأمره ونهاه، فى غير ما جبر ولا قهر، وتعبده بالطاعة اختياراً، ومن عصاه أنظره رحمةً ورأفة، لا ضعفاً ولا إهمالاً ، ولكن ابتلاء، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وجعل جزاء من أطاعه الجنة وعداً منه حقاً، ومن عصاه النار عقاباً منه عدلاً0

وخلق الله عباده لينفعهم، ولم يكن منه شئ عبثاً، فكيف يكون كل هذا التدبير من مخلوقات لا وحول لها ولا قوة ولا علم ولا حكمة ولا تدبير ولا من غيرها‍00 فسبحان الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء، وسعت رحمته كل شئ، وهو العلى القدير([12])0

سمى القاسم كتابه الثالث الطبائع([13])0
ومرة أخرى يسأل الملحدون عن الدليل على حدث السموات والأرضين، ويصل بهم العالم الحصيف، إلى أن اختلافهما دليل على حدثهما، ولا يمكن أن يكون هذا الاختلاف من فعل أنفسهما، ولا من قبل قدمهما، لأن الأول محال، والقديم لا يوصف بالاختلاف ولا يتضاد0

كما أن التفاوت فى الخلق يدل على الحدث، وما تشهده الأرض من تنوع سهولها وجبالها وتضاد أحوالها وألوانها يدل على صانعها وجاعلها، إذ التفضيل لبعضها على بعض يدل على المفضل بينها 00 كما أن افتراقها واجتماعها، يدل على وجود صانع لها فرق ما فرق منها وجمع ما اجتمع منها([14])0
سأل الملحد عن الدليل على حدث أصول ـــــ وفروعها وبيان الصنع فى عللها وطبائعها، وأبان القاسم أن السر فى ذلك كله راجع إلى الحكمة، فالحكمة الإلهية هى التى من وراء الخلق، وكل طبيعة من طبائعها قد جعلت لمصلحة من مصالحها00 وليست الطبائع بفاعلة للحكمة والتدبير ولا هى بعالمة بعجائب التقدير، وإنما هى كلمة من حكم رب العالمين، ودلالة عليه لجميع المخلوقين([15])0
وأصل الحكمة إصلاح الأسباب بالأسباب، فلما وجدنا الأشياء مصلحة بطبائعها، دلنا الإصلاح على حكمة صانعها وقد اهتم المسلمون بالغائية والنهاية، فما الغاية من الخلق والحياة والكون والابتلاء، وهو الموت وهو يقع على كل حى مخلوق هو وفروعه وكما جمع الحياة بينهم كذلك الموت00 فقد جمع الموت فى البدء بين الجميع فى حال العدم، ثم نشأت الحياة وتكاثرت الأحياء بعجيب قدرة خالقها، ثم أدركها العدم أى الموت، وبين الابتداء والانتهاء تجد معنى المحدودية والمكانية والتناهى والتلاشى أيضا00 فمبعث الكثرة الخلية الواحدة، وأصل الكثير القليل، والنهاية تدل على البدايات([16])0

وعن نشأت الإنسان وتزاوجه وتكاثره، وكيف حدثت النشأة ولم خلقنا الله من ذكر وأنثى، وما الذى يحدث عن خلق الإنسان، ثم ما يحدث فى طفولته وصغره ، وكيف ينمو ويكبر، كل ذلك يدل على حكمة الخالق وقدرته ورحمته00 والفعل والجوارح والحواس والنمو، كل ذلك لا يمكن الغفلة عنه أو تجاهله00 وأقل القليل منه يدلنا على الله العلى القدير، ولكن الملحدين أصيبوا بالعمى والصمم والبكم، وجهلوا أبين البيان على وجود الله ووحدانتيه([17])0
***
سأل الملحد كذلك عن علة دوام التكليف وسببه، بعد الرسول e، وطلب أن يكون الجواب من المعقول لا من المنقول00 وكان الجواب كما طلب00 فالحق تعالى حكيم لا يهمل خلقه دون أمرهم بالخيرات ونهيهم عن المنكرات، وإن فعل ذلك اختار لهم الضلال على الهدى00 ومن كان كذلك لم يكن رحيما، كما أن الإهمال يدعوا إلى الفساد([18])0

كما أن من شأن ما ركب فى عباده من استطاعة، وفطرهم عليه من منازعة الهوى، يدعوا إلى ذلك التكليف صيانة لهم من الفئ والضلال([19])0

التكليــف أيضا يحمل معنى الرحمة والحكمة والحجة، الرحمة من الله بأوليائه، والحكمة فى تصرفه وإنشائه، والحجة على أعدائه، فإذا لم يكن ثمة تكليف كان هذا عيباً فى الحكمة والتدبير، والله برئ عن هذا0
والعباد فى حاجة إلى التكليف، الذى يحمل من الله لهم الرحمة بهم، فى أمره ونهيه وإرشاده، والناس تتنازعهم الأهواء وفطروا على الاختلاف، ومن شأن حكم الله أن يجمعهم على الهدى، وفى ذلك يبقى حكم الله أمام حكم البشر والعلم أمام الجهل، والحكمة أم الرعونة، وهدايات السماء أمام ضلالات الأرض، بها يكون الحق والعدل والمساواة، فهى قانون الله بين خلقه، والحكيم المدبر الرحيم يجب لخلقه أن يغلبوا الجهل والهوى والخلاف ويتبعوا أمره لأن فيه صلاحهم، وصلاح أمورهم([20])0
***
القاسم يرى أن من الواجب على الله إرسال الرسل، بل هو يحدد ذلك فعلى الله أن يرسل فى كل قرن من القرون رسولاً، وذلك لحكمته تعالى، فالحكمة هى التى أملت ذلك الوجوب00 وهو واجب على ما أظن أخلاقى لا أكثر0
من خلال هذا التصور فى النبذة، استشفى القاسم أيضا وجوب أن يخص بالإمامة أهل بيت معروفين منسبين، ومن ثم هم آل بيت رسول الله، ولذا يجب مودتهم لقربهم من رسول الله، وجهادهم وحب الله لهم، وعلى رأسهم سيدنا على بن أبى طالب([21])0

ثم أقرب قرابة الرسول، e، هما السبطان، ابنا الرسول الطالوان وأمهما وذريتهما من بعدهما، ويشترط فى الإمام من ذريتهما أن يكون أرجحهم عقلاً وأحسنهم مقالاً وفعلاً، وأشهرهم حكمة وفضلاً([22])0

ما الحكمة فى خلق الله للضوارى من ذوات السموم والمضار0000؟
ينبغى أولاً بيان أن الخالق حكيم ولا يخلق إلا لحكمة، وهذه الهوام أو الضوارى المخلوقة قد أعطاها الله من الإمكانيات ما يساعدها على العيش والاستمرار فى الحياة، وفيها من العجائب ما تعجز الأفهام عن إدراكها أو الحديث عنها، وكذلك الذرة كيف تحس وتدرك وتفهم وتعيش([23])00 00إلخ0
أما ما ينال الآدميين من ضرر الهوام، فأجر المسلم فيها عظيم، ويحمل معنى التخويف والعبرة والعظة، والحجة على الفاسقين، والألم يدعونا تذكر الموت والفناء، والزهد فى الدنيا0

وكما أن أن الصحة نعمة، فالمرض والألم بلاء ومحنة، فالحمد لله على عطائه وسرائه وضرائه([24])0
فهل يعوض الله البهائم عن آلامها عندما تألم بالموت والأسقام، وقتل بعضها لبعض؟00 يرى القاسم، والزيدية جميعاً، ذلك، فعدل الله وحكمته ورحمته تدعو إلى ذلك، وجديرة بألا تفوت على مخلوق مصلحة هو يستحقها أو عوضاً هو له([25])0

ورد على المجبرة ومن ادعى أن البهائم بعد الحشر تكون تراباً، ولا يجعل الله لها على ألمها ثواباً، وهو جهل وبعد عن اليقين، وعدم فهم للعدل وإفناؤها ضد العدل والحكمة والرحمة وقاعدة العوض والمنفعة التى ارتضاها الله لعباده([26])0
***
سأل الملحد أيضا عن دوام التخليد فى الآخرة 00 وهى متعلقة بالوعد والوعيد، وتحقيق الله لما وعد به المؤمنين من الثواب والجنان، ووعيده للكافرين بالنيران، والله عز وجل صادق فى وعده ووعيده، وهو من الحكمة والعدل، وقد قال العدلية بوجود الوعد والوعيد، ولم يستثنوا من ذلك أحداً0
وقد رد القاسم على من قال بأن له تعالى، أن يخرج من أهل النار من يشاء بفضله وشفاعة النبى e وبعض عباده المؤمنين، الذين يأذن لهم بتلك الشفاعة([27])0

وتساءل القاسم كيف يخرج الله الكافرين أو الفاسقين العصاة، أصحاب الكبائر، من النار بعد أن دخلوها عقاباً على ما فعلوا، أو ليس هذا اختلاف لوعيده، وإبطال لعدله وحكمته، من كون الجزاء من جنس العمل، كما أن ذلك يطمع الكافرين والفاسقين بالغى والبطر والفساد اتكالاً على أن الله سيخرجهم من النار بعد دخولهم فيها، وفى ذلك نقص لما أنزل، من كونهم خالدين فيها أبداً وإبطال لعلمه لقوله فيهم وكذباً ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون0

ثم كيف يتحقق الردع والزجر الإلهى للكافرين والفاسقين فيؤمن من أبى ويطيع من عصى إن كان مصيره فى النهاية إلى الجنة([28])؟‌
كذلك سأل الملحدون لم لا يهلكهم الله ويفنيهم ويميتهم فى النار، بدلا من دوام التخليد فيها، سيما وأن ذلك يتناقض مع رحمته التى ذكر فى تنزيله أنها وسعت كل شئ؟
وفى ذلك مخالفة لوعده ووعيده وعدله، والمخالف ليس بحكيم ولا صادق مما يدل على النقص بين الجميع0
ثم إن فى إماتتهم راحة لهم، وتخليصاً لهم من العذاب، وتفريجاً لكروبهم، بعهد قتلهم الرسل وعباد الله المؤمنين، وما اقترفوه من فساد وطغيان00 ولهو وفجور([29])00

والعذاب فى النيران درجات، فكل ظالم بحسب وجبروته وطغيانه، فإبليس وفرعون وهامان وقارون فى مرتبة مختلفة عن غيرهم من الكافرين، من قتلة الأنبياء والرسل والأولياء والأئمة الطالوين، وكذلك العصاة فى درجة أخف من درجة السابقين، ولله حكمة بالغة لا يدركها الجاهلون0
فلا ينبغى أن يطمع جاهل، كفر وفرج وعصى واستكبر، فى أن يخلف الله وعده أو وعيده، فهو صادق حكيم، لا يكذب ولا يعبث فى أقواله أو أفعاله، وأحكامه ماضية، فلا يمنين كافر نفسه، أو عاص قاتل للأئمة والناس بلا جريرة إلا الاستبداد والطغيان، وبداوة البداوات على رأسه، من جراء شهوات نفسه، أن يعفو الله عنه، ولم يتب ولم يقتص منه فى الحياة الدنيا00 فمن شاء مغفرة الله له فعليه بقضاء الحقوق إلى أهلها قبل أن يدركه الموت وهو كاذب00 فيقول }رب ارجعون{ وهو كاذب، فيرد عليه المولى :} كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يرجعون{([30])0

جاء الكتاب الرابع من المعجز للقاسم العيانى تحت عنوان "كتاب شواهد الصنع والدلالة على وحدانيته تعالى وربوبيته"([31]) واشتمل على خمسة أبواب هى على النحو التالى :
باب الدلالة على الله عز وجل0 ويدور حول مبحث الوجود0
باب الدلالة على صنع الله فى الحيوانات0 ويدور على مشاهدة الآثار والاتقان والحكمة0
باب الدلالة على نفى الصفات عن الخالق والدليل على قدمه، ويدور حول نفى الصفات السلبية كالحدوث والمادة الجسمية والعرض والماهية والمكانية والولد وما شابه ذلك0
باب الدلالة على نفى الصفات عن الله فاطر السموات0 ويدور حول بيان أن الصفات هى عين الذات وليست متغايرة ولا منفصلة عنها0
باب الدلالة على التعبد0 وهو مبحث فى التكليف والبعث والنشور والجزاء والإمامة وحتى آل البيت فى ذلك0
***
فى صدر الكتاب الذى ذكره القاسم، ودار حول شواهد الصنع، والدلالة على وحدانية الله تعالى وربوبيته، يقول بعد المقدمة والحمد والثناء على الله ورسوله: "إن الله جل ذكره، تعرف إلى خلقه بإيجاد ما أوجد من بريته وصنع وبدأ بمشيئته، ثم أوصل إليهم العلم بربوبيته، بما أظهر لهم من أعاجيب فطرته، وشواهد صنعه وآياته([32])0

(1) فى باب الدلالة على الله، عز وجل([33])، بدأ القاسم بسؤال الملحد الذى سأله ما الدليل على الله رب العالمين ؟
هذا السؤال يجدر أن يسأله غير الملحد، الباحث عن أدلة الوجود ليهتدى شاربه، أو يستدل على هذا الوجود، فكيف تستدل على وجود الله إذن يرى القاسم أن هناك ستة أوجه يمكن بها الاستدلال على وجو د الله على النحو التالى :
أن يكون الإنسان قد خلق نفسه0
أو يكون قديماً لم يزل0
أو يكون حدثاً لعلة من الفلك0
أو يكون هملاً رسلاً لا من علة ولا من خالق0
أن يكون متولداً من إنسان وإنسان من نطفة إلى ما لا نهاية له ولا أصل ولا غاية ولا أول0
أن يكون من خالق محدث قديم حى([34])0

وقد أبطل القاسم كل هذه الوجوه عدا وجه واحد من الصواب إما للدور أو التسلسل أو الاستحالة، وبقى الاستدلال السادس هو الوحيد الصواب، أن الإنسان خلق وخالقه قديم، ومن ثم كان هذا القديم هو الله عز وجل([35])0
كما استعان بدليل الحكمة والإتقان والفرع والأصول ودليل النهاية والغاية والتحديد والتناهى، ودليل الحياة والموت وهكذا كل هذه الأدلة تدل على حدوث الجسم وقدم الخالق([36])0

رد القاسم على دعوى أنه ما الذى يمنع من أن يكون لم يمت من هذه الأصول إلا وقبلها أموات إلى ما لا نهاية00 كذلك تناقض الملحد حين قال بأن الإنسان محدث ثم يعود مرة أخرى فيقول هو قديم([37]) 00 فكيف يكون محدث وقديم فى الوقت ذاته؟

وركز القاسم على دليل الحركة – والسكون والتناهى 00 ويختم هذا الباب بقوله : إذا لم يكن الجسم، كائنا ما كان، من الأشياء، لم ينفك من هذين الحالين، فهو محدث بأبين البيان، وإذا كانت الأعراض لا توجد إلا فى الأجسام، وكان محالاً أن تكون قبلها، فسبيلها فى الحدث سبيلها؛ لأنا نفينا أن يكون على كون الإنسان، وغيره من الحيوان، جسماً أو عرضاً، لأنهما محدثان، فلما بطل أن يكون علة كون الإنسان، وغيره من الحيوان، جسماً أو عرضاً أو عدماً، صح أن له صانعاً قديماً، وهو الله رب العالمين([38])0

ويبدو أن القاسم ألزم نفسه، والتزم تماماً، بالاستدلال بالمعقول، ولم يتطرق إلى المنقول
***
(2) جاء الباب الثانى من هذا الكتاب ليحدثنا القاسم عن الدلالة على صنع الله فى الحيوانات([39])، ويبدو من العنوان أنه سيلزم نفسه بأن يتحدث عن آثار صنع الله وإعجازه فى خلق الحيوانات، فلننظر هل التزم بذلك أم تجاوزه0

بدأ مقالته بسؤال من سائل، وهو تقليدى لدى الفلاسفة والمتكلمين، واعتادوا عليه، سواء وجد هذا السائل أم لا000 وجاءت فحوى السؤال ما الدليل على الله عز وجل ؟

وكما جاء السؤال بسيطاً، ومضمونه كبيرا جداً، بحجم الفلسفة الإنسانية فى مسائل الوجود والإلهية، كذلك كان رد القاسم حيث قال : أقرب الأدلة إلى الإنسان نفسه، وذلك أنا نجد الإنسان بعد عدمه، فنعلم أن له موجوداً، أوجده بعد عدمه، لم يجد فى نفسه حكمة، ونجد عليه نعمة، ولا تكون الحكمة إلا من حكيم، ولا النعمة إلا من منعم كريم"([40])0

ما الحكمة التى فى خلق الإنسان وما النغمة التى عليه ؟
أما الحكمة التى فى الإنسان هى الصنع الذى لا يكون إلا من صانع حكيم وأما النعمة فالرزق المبسوط، الذى لا يصح إلا من رازق من كريم00 وهذه نعم محكمة، لا تكون إلا من حكيم عليم، وتدبير لا يكون إلا من مدبر قديم، ورحمة لا تكون إلا من رحيم([41])0

والدليل على ما ذكرنا من العلم والحكمة والرحمة، أن الرحمة هى الفضل والنعمة، وأن الكريم هو الباسط للمنافع عند الحاجة والفاقة، وأن ذلك لا يكون إلا من عالم حكيم([42])0

وبدأ القاسم فى الغوص فى الإنسان وتكوينه، منذ أن كان نطفة، وما حدث فى الرحم، وكيف يتطور الخلق فى داخله، من مضغة وعلقة ثم عظام ولحم وكيف يضع الله فى الإنسان أدق تفاصيل التفاصيل، وعندما يخرج إلى المياه، وعطاءات الله له من رزق، وتعهد وتربية ونمو، يقول: "فبينما نحن نطف مقبرة أموات، إذ نحن على غاية الكمال، من توصل الأجساد والأوصال، والحياة بعد موتنا، والتكثير بعد قلتنا، والعقول بعد غفلتنا000 فلما نظرنا إلى هذه الحكمة البالغة والنعمة السابغة، علمنا أن الحكمة صفة الحكيم، لما فيها من بيان علم العليم، والصفة لا تكون إلا لموصوف([43])0
والعقل شاهد على حكمة الله فى الخلق00 أما كيف تولدت هذه الحكمة فإن قال حدثت من علل قديمة حية حكيمة مدبرة، فهذا هو صفة الخالق، والخالق ليس يسمى عللاً0 وإنما هو الله الذى لا إله إلا هو العليم الحكيم0
واستعان بدليل الحركة والسكون، والحدوث والقدم، على بيان أن الحكمة أو العلل محدثة، وما لم ينفك من الحوادث فهو حادث، وبذلك صح الخالق المحدث([44])0

يقول القاسم : "إنما سميت الحكمة حكمة لأنها محكمة، والحكيم فهو المتقن المبرم، والإتقان والإبرام فلا يكونان إلا بعلم وإحكام 00 وهكذا يتسلسل حتى يكون ذلك كله من الله ذى الجلال والإكرام([45])"0
والحكمة تضاف إلى حكيم، وكفالة الحيوانات لأولادها، وطلبها للنكاح والمآكل والمشارب، وجميع منافعها ومصالحها، يدل على أن ذلك من حى حكيم كما أن خلق الله للعقول من أدل الدلائل على خالقها([46])0
***
(3) جاء فى الباب الثالث ليعالج فيه القاسم قضية الصفات الإلهية تحت عنوان "باب الدلالة على نفى الصفات عن الخالق والدليل على قدمه([47])، والعدلية جميعاً معتزلة وزيدية، ومن قال بمقالتهم من الشيعة، على أن الصفات هى عين الذات، فليس هناك ثمة صفات مغايرة أو مستقلة عن الذات، وبدا كلام بعضهم وكأنهم ينفون الصفات، ولكن الحقيقة هم يثبتون صفات هى عين الذات غير مستقلة عنها00 وهم بذلك يخالفون الأشاعرة والكلابية، أو لنقل الصنعانية جميعاً، ليدخل فيهم الكرامية والنجارية، وقد اعتقد بعض المتكلمين فى القديم والحديث، أن هذه القضية مفتعلة أو لفظية، والمخالفة لا تتعدى اللفظ ، أما أنهم يتفقون فى المعنى، فهو ما يقول به الكثيرون منهم0

صدر القاسم هذا الباب ببيان أن الخالق يخالف المخلوق فى كل شئ ولا يشبه فى وجه من الوجوه، ولو أشبه المخلوق فى بعض صفاته لاشترك معه فى الحديث، والحدث لا يتعلق بقديم، وهذه الصفات التى قصدها القاسم هنا الصفات السلبية، مثل الحدوث والتغاير والحركة والسكون والجسمية والجوهر والعرض والحدود والتناهى والمكانية، وغيرها من الصفات التى هى من خصائص المادة أو المخلوق أو الحدث([48])0
***
تساءل الملحد لم لا يكون الخالق نفسه مخلوقاً، وكذلك خالقه إلى ما لا نهاية؟00 وهو سؤال الدهرية تماماً00 الذين يعتقدون الوجود حلقة و دائرة ولا أثر للخالق فيها، وإذ ما فنى الوجود لا يعود0 وأحال القاسم هذا الافتراض؛ لأن حدوث الخالق يجعله مثلاً فى الصفات مع غيره، فلا ينحاز عنهم، كما أنه لا يساوى بينه وبينهم، مما يبطل الألوهية فى حق الجميع([49])0

كما لا يجوز أن يكون الخالق آخر المخلوقات؛ لأنه يخالف فكرة الحدوث والقدم، وكون بعض المخلوقات قديم، والآخر محدث، وكل محدث يحتاج لقديم أحدثته، كما أنه من وجه آخر يتناقص، لأنه يقتضى التسلسل إلى مالا نهاية، ويستحيل آخر بلا أول([50])0

واستعان القاسم بفكرة السبر والتقسيم فى إبطال تساؤل الملحد، فهو إما محال أو يقتضى التناقض أو العدم أوالتناهى، ومثال ذلك قوله :"إن هذه الأرباب المخلوقة التى زعمت محدثة، وإذا كانت محدثة، فيستحيل قولك : خلقت أمثالها؛ لأن المخلوق لا يقدر على خلق مثله، ويستحيل أن تكون الأجسام من فعله([51])0
***
(4) أما الباب الرابع فكان أيضا حول الدلالة على نفى الصفات عن الله فاطر السموات([52]) وفيه يرد القاسم على تساؤل مفاده : هل لله صفات؟

ولأن يؤمن بالمنهجية فى الطرح وجه السؤال نحو المقصود منه، فإن كان المقصود منه أن لله صفات هى غيره فلا، أما إن كان المقصود هو أن لله صفات هى هو فهو أمر مقبول([53])0
وأخذ القاسم يبين لم لا يمكن أن تكون لله صفات هىغيره؛ لأن ذلك يعنى أنها متعقلة به، وهو محل لها، أو مباينة له، وهذا يعنى الاشتراك والتعدد فى القدم، وكلا الأمرين محال على الله0
كما أن التعليق يفيد المكانية، ولو تعلقت بجزء دون جزء؛ لكان ذلك يعنى أن هناك ما يحل بأجزائه، بعضها دون بعض، وفكرة الكل والبعض تعنى التفرق والتجمع، والحركة والسكون، وهو من خصائص الأجسام([54])0

إذن فصفات الله هى هو، فهو واحد ليس معه شئ يعلم به ولا يقدر، ولكنه غنى حكيم عالم قادر حى بغير معان سواه0
والتساؤل الذى يترتب على ماسبق، كيف علمتم أنه حى عالم قادر، بل كيف عرفتموه هو لا يرى؟00
والقاسم لا يتردد فى طرح أدلته، فالله، عز وجل، حى لأنه حكيم أتقن صنعته، وذلك لا يتأتى من ميت، وهو عالم لإحكامه الصنع أيضاً، والصانع لا يفعل إلا بعد علمه بالمصنوع، وهو قادر أيضا؛ لأنه أبدع من عدم، واخترع من غير أصل، وتلك صفات القادر لا العاجز([55])0

ويبقى أن نشير إلى أن القاسم قد أجاب على تساؤل: فكيف يعقل شئ ليس بجسم ولا عرض، ولا له كل ولا بعض ولا طول ولا عرض؟00 بأن أجاب بقوله : يعقل بما أظهر من صنعة الجليل الذى لا تمتنع منع العقول، ولا توجد إلى دفعه سبيل0 هذه إجابته، واعتقد أنه أوجز أيما إيجاز فيها، وكان ينبغى أن يفضل القول فيها00 حيث جاء السؤال "بكيف" ولا يسأل عن الإلهية "بكيف" أبداً([56])0
وتطرق التساؤل عن المعرفة، فبم عرف المؤمنون ربهم00 سيما وهم لا يرونه؟00 لم يجد القاسم صعوبة فى بيان أن العقل هو مفتاح تلك المعرفة، وهو قادر على إدراك الإلهية، إدراكاً لا يقبل الفساد ولا المحال، وذلك عن طريق تأمل آيات صنعه فى الأشياء والأكوان، والحيوان والنبات والجماد، والنفس البشرية، وهى تدل على حتمية أن يكون هناك حكيم عالم قادر حى مبدع، صنع وأبدع وأتقن، ويستحيل أن تكون هذه المخلوقات قد خلقت نفسها، أو خلق بعضها بعضاً00 لأنه لا يقبل عقلاً، ولا يسع عاقل المعنى فى إنكار وجود خالق لهذه الكائنات، له صفات الكمال والجلال والجمال وهى ذاته([57])0
([1]) انظر النص من 1-4 0
([2]) انظر النص من 4-22 0
([3]) انظر النص 11 0
([4]) النص 16 0
([5]) النص 21 0
([6]) النص من 22-50 0
([7]) النص 25-26 0
([8]) النص 26-29 0
([9]) النص 30-33 0
([10]) النص 33-38 0
([11]) النص 38-46 0
([12]) النص 46-50 0
([13]) النص من 51-67 0
([14]) النص من 51-53 0
([15]) النص 53-54 0
([16]) النص 55-56 0
([17]) النص 57-58 0
([18]) النص 58-59 0
([19]) النص 59 0
([20]) النص 60 0
([21]) النص 60 0
([22]) النص 60-61 0
([23]) النص 61 0
([24]) النص 62-630
([25]) النص 63 0
([26]) النص 63-64 0
([27]) النص 64-65 0
([28]) النص 65-66 0
([29]) النص 66 0
([30]) النص 67 0
([31]) النص من 68-105 .
([32]) النص 68 0
([33]) النص 69-79 0
([34]) النص 69 0
([35]) النص 7-71 0
([36]) النص 72-74 0
([37]) النص 75 وما بعدها0
([38]) النص 79 0
([39]) النص من 79-93 0
([40]) النص 79-80 0
([41]) النص 80 0
([42]) النص 80 0
([43]) النص 83 .
([44]) النص 87 0
([45]) النص 89-90 0
([46]) النص 92 0
([47]) النص من 93- 96 0
([48]) النص 93-94 0
([49]) النص 94 0
([50]) النص 95 0
([51]) النص 95-96 0
([52]) النص من 97-100 0
([53]) النص 97 0
([54]) النص 97 0
([55]) النص 98-99 0
([56])النص 99 0
([57]) النص 99-100 0

ليست هناك تعليقات: