الثلاثاء، 25 نوفمبر 2008

الفضيـل بن عيــاض / د.إمام حنفي سيد عبدالله

الفضيـل بن عيــاض
(105-187هـ=723-803م)
د.امام حنفي سيد عبد الله

عرف الصوفية ربهم فأحبوه، وأفنوا أنفسهم فيه ابتغاءاً لمرضاته، والفضيل بن عياض من هؤلاء الذين ذابوا فى حب ربهم، وتخلقوا بأخلاقه وذابوا فيه، حتى صارت إرادتهم إرادته، وتلاشت صفاتهم وأنيتهم فى صفاته وأنيته0
إننا أمام شخصية وجدت فى ربها الملجأ والمأوى والحمى، فمن يكون ذلك العابد الزاهد الولى، الذى نظر الله إليه برحمته وفضله، وجذبه إليه بمحبته، فتحولت سريرته، وتغيرت سيرته رأسا على عقب، وبعد أن كان قاطع طريق، صار هاديا على طريق الله، مرشداً وواعظاً وعالماً وداعياً؟!
أما عن اسمه فهو الفضيل بن عياض بن مسعود التميمى اليربوعى، وكنيته أبو على، ولد بخراسان بكورة أبيورد، وقدم الكوفة وهو كبير، فسمع بها الحديث0 ثم تعبد وانتقل إلى مكة، وجاور بها، إلى أن مات، سنة سبع وثمانين ومائة0
وكأغلب العظماء فى التاريخ يعرف تاريخ وفاته على التحديد، ولا يعرف تاريخ مولده إلا على التقريب، اختلف العلماء حول عام ولادته اختلافا يسيرا، ولذلك فنحن مع من حدده بعام (150هـ) مائة وخمسين للهجرة0 وقد أفرد ابن الجوزى ترجمته بالتأليف0
وهذا الصوفى الكبير والقطب الفريد، كان شاطرا فى زمانه الأول، يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس0 ويذكر التاريخ أن سبب توبته أنه كان يعشق جارية، فبينما هو ذات يوم يرتقى الجدران إليها، إذ سمع تالياً يتلو قوله تعالى : (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله، وما نزل من الحق) سورة الحديد الآية/16، فقال فى نفسه : "بلى !. والله يا رب قد آن0 فرجع، فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها رفقة، فقال بعضهم :"نرتحل"0 وقال بعضهم : "حتى نصبح، فإن فضيلا على الطريق"0 فأمنهم، وبات معهم0
لقد أذن الله له بالهداية والولاية، فجعل له واعظاً من نفسه، يرشده ويدله ويوجهه فى الطريق إليه، وكأنه بدأ يربى ويوجه ويدرب نفسه، ويصحح مسار حياته بعد ذلك بوازع وواعظ من داخله، وهو شئ قريب من التعلم الذاتى والتربية الشخصية، وإن كانت بوادر هذه التربية راسخة فى الفضيل، فقد كان أبوه عابداً زاهداً، معروفاً بخشية الله والخوف منه، وعلى الرغم من انحراف الابن عن سيرة أبيه فترة من الزمن فى بواكير الشباب، فقد كان يحمل ضميرا مؤمناً يقظاً، ونفساً لوامة تحاسبه وقلباً يراقبه، واستقامة تربى عليها، وإيماناً كامناً بداخله، تغلب كل ذلك على دواعى الانحراف فى شرخ الشباب الأول، وانتفضت نفسه واستيقظت قوى الإيمان فيه، فكان ذلك الانقلاب المفاجئ فى حياته، بتوفيق وهداية وفضل من الله0 وهو يذكر أنه راجع نفسه، وربما راجعها مرات عديدة، حتى كانت اللحظة الحاسمة فى حياته، والتجربة الفارقة بين عهد وعهد وزمان وزمان، يقول عنها : "ففكرت، فقلت : أنا أسمع اسمى بالليل فى المعاصى، وقوم من المسلمين يخافوننى ها هنا، وما أرى الله سائقى إليهم إلا لأرتدع.. اللهم إنى قد تبت إليك، وجعلت توبتى مجاورة البيت الحرام"0
إن أول الطريق توبة إلى الله نصوحة، نابعة من قلب منيب إلى ربه، وعازم على هجر المعاصى والذنوب، بإردة قوية نادمة على ما كان منها فى حق ربها، ويعقب ذلك هجر المكان الذى كان يعصى فيه الله، إلى مكان آخر يطاع الله فيه، وصحبة أهل الطاعات الذين يعاونونه على فعلها0 وهو ما كان من التائب الفقيه، أو الفقيه التائب العارف بأول أحوال المريدين فى سلوك الطريق، تاب الفضيل وأكد التوبة بعزم أخرجه من أرض المعصية إلى أرض الطاعة، ومن معاقرة المفاوز والصحراوات، إلى مجاورة البيت وإدمان الطاعات0
ولقد علم الفضيل أنه لا طاعة بغير علم، وأن المعرفة ضرورية فى الطريق، فقدم إلى الكوفة، وكانت منارة العلم فى عصره، فنهل من العلم الشريف، ولذا جالس الفقهاء والمحدثين، وأقبل على الحفظ والاستذكار، وكان صاحب ذاكرة قوية، وفطنة نفاذة، وأعانه حفظ الحديث على اتباع أخلاق النبوة، ومعرفة السيرة، فجمع بين العلم والعمل0
ولقد عاش الفضيل بعد توبته عيشة متزنة، فقد تزوج ورزقه الله الأولاد، فقام على إرشادهم وتربيتهم، وبرز فى الزهد والعبادة ابن له اسمه علىّ، فأحبه وصرح بذلك، وكذلك رزقه الله على كبر بولد آخر، سماه أبا عبيدة، وكان يقول : "إنى لأحبه، وأحبه لأنه جاءنى على كبر0
وكان الفضيل فقيرا رقيق الحال، وكان يحمد الله على ذلك، ويعده من نعم الله عليه، ويقول : "أصلح ما أكون، أفقر ما أكون، وإنى لأعصى الله فأعرف ذلك فى خلق حمارى وخادمى"0 وخادمه هذا راوية سيرته وتلميذه المخلص إبراهيم بن الأشعث، ولم يكن خادما كما نفهم، وإنما كان مريدا يستقى آداب الطريق من شيخه ومعلمه، حتى صار كخادمه لا يفارقه كظله حرصا منه على التعلم والتأدب، ولم تكن له نفقة ولا راتب معلوم يأخذه على الدوام وبانتظام، فقد كان الفضيل سقاء، فمن أين له بنفقات الخادم، كما يفهمه أهل الدنيا؟! يقول الشعرانى : "وكان رضى الله عنه يسقى على الدوام، وينفق من ذلك على نفسه وعياله"0
لقد تجرد الفضيل من ترف الدنيا ومتاعها، وتوجه بكليته إلى الله، فتوحد وتعبد، واستشرف آفاق المعرفة الذوقية الإلهامية، حتى رأى وسمع ما به زاد يقينه، وظل على هذه الحال حتى مات، يقول ابن حبان عنه : "أقام بالبيت الحرام مجاوراً، مع الجهد الشديد، والورع الدائم، والخوف الوافر، والبكاء الكثير، والتحلى بالوحدة، ورفض الناس، وما عليه من أسباب الدنيا، إلى أن مات بمكة"0 لقد كان يعتبر الفقر من أمارات الولاية التى خصه الله بها، تفضيلا منه عليه :"أجعتنى وأجعت عيالى، وتركتنى فى ظلم الليل بلا مصباح، وإنما تفعل ذلك بأوليائك، فبأى منزلة نلت هذا منك؟!"0 إنه الرضا والتسليم والثقة والفرح بما قدر الله وقضى0
ومضى الفضيل يعبد الله جامعا بين الشريعة والحقيقة، مقتديا بالنبى المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالحياة الطيبة هى ما كانت فى رحاب السنة : "اسلك الحياة الطيبة : الإسلام والسنة"0 فاتباع النبى غاية الغايات عند عابد الإسلام وزاهد العباد0 وينصح الفضيل بالفرار من الناس إلى الله، فيقول : "فرَّ من الناس غير تارك للجماعة".. فهو لا يدعو إلى العزلة والهجرة نحو الخلوات والفلوات، بل يدعو إلى تخلى المريد عن دنيا الشهوات والنزوات، والأخذ بالضرورات فى غير ما شره ولا نزق، وأشد الناس بلاء وخطرا على أصحاب الزهد والعبادة أصحاب البدع، الذين يزينون الباطل ويسترون الحق، ويميتون السنة ويحييون البدعة، ولذلك نجده يحمل عليهم فى غير ما هوادة ولا مداراة معرضا نفسه لأخطارهم0 "من أحب صاحب بدعة، أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه"0
ويعتبر البدعة بلاءا والمبتدع مبتلى : "من علامات البلاء أن يكون الرجل صاحب بدعة"0وينبه على خطرهم الداهم على الإسلام وأهله : "من أعان صاحب بدعة، فقد أعان على هدم الإسلام"، والتصوف، عند الفضيل، عمل بالكتاب والسنة المحمدية : "عمل قليل فى سنة، خير من عمل صاحب بدعة"، ومن دواعى هجر المحدث بحديث رسول الله r ، وجرح عدالته عنده، أن يجالس أصحاب البدع :"ومن جلس إلى صاحب بدعة فاحذره"0 ويقول أيضا: "علامة النفاق أن يقوم الرجل ويقعد مع صاحب بدعة"0
أما موقف الفضيل من السلف، فهو موقف رجل الشريعة الصادق: عن حسين بن زيد قال : سمعت فضيلا يقول : "ما على الرجل إذا كان فيه ثلاث خصال، إذا لم يكن صاحب هوى، ولا يشتم السلف، ولا يخالط السلطان"0
وهكذا سارت حياة الفضيل بن عياض على نسق من العبودية لله مطرد ودائم، فمن توبة إلى الله خالصة نصوح، إلى حياة مادية مجهدة، ولكنها راضية حامدة، واتباع دقيق لسنة رسول الله، r، وبغض واضح لأصحاب البدع0
أما موقف الفضيل من أصحاب السلطان، فقد كان ككل الصوفية العباد والزهاد الأنقياء، فى عصره وبعد عصره، يعرضون عنهم ويبتعدون، فالصوفية يقودون الناس إلى الله والدار الآخرة، وهؤلاء يقودونهم إلى الدنيا وأعراضها، ولذلك يقول الفضيل : "لئن يدنو الرجل من جيفة منتنة، خير له من أن يدنو إلى هؤلاء"0 يعنى : أصحاب السلطان وعلماء الأمة ضميرها النابض، وقدوتها الحية، وهم ورثة الأنبياء، فلو عملوا بما علموا من أخلاق النبوة، لدانت لهم الدنيا وخضع لهم الجبابرة : "لو أن أهل العلم زهدوا فى الدنيا، لخضعت لهم رقاب الجبابرة، وانقادت الناس لهم، ولكن بذلوا علمهم لأبناء الدنيا، ليصيبوا بذلك مما فى أيديهم، فذلوا وهانوا على الناس..."0 فالفضيل كما يربى العامة، يربى ويوجه الخاصة، من العلماء والفقهاء والعباد، ويتوجه لهم بالوعظ والنصيحة والإرشاد، معاتبا مرة، ومذكرا أخرى، فيقول : "ما لكم وللملوك؟!.. ما أعظم منتهم عليكم.. قد تركوا لكم طريق الآخرة، فاركبوا طريق الآخرة.. ولكن لا ترضون، تبيعونهم الدنيا، ثم تزاحمونهم عليها.. ما ينبغى لعالم أن يرضى هذا لنفسه"0
لقد كان الفضيل زاهدا بحق، ورعا بصدق، يملك الدنيا ولا تملكه، ويسقطها من عينه، فتضعه ملكا على الملوك،وسيدا عليها، وهذا ديدن العلماء المحققين، يقول هارون الرشيد عن مالك والفضيل : "ما رأيت فى العلماء أهيب من مالك، ولا أورع من الفضيل"0 فسلطان الدنيا معجب، مأخوذ مبهور بسلطان العلماء، الذى توجهم الله به من الهيبة والورع، وما ذلك إلا لفهم قد بلغ به إدراك حقيقة الأشياء0
ولقد كان الرشيد من هؤلاء الحكام الذين يقربون العلماء، ويحتفون بالحكمة، وينصتون للموعظة، ويرتدعون من قرع الخطاب، وخص الفضيل بمقام رفيع عنده، فسمع منه، وبكى لموعظته، وعظم قدره، يقول له ذات يوم : "يا حسن الوجه: أنت الذى أمر هذه الأمة فى يدك وعنقك؟! لقد تقلدت أمرا عظيما"! فيبكى الرشيد حتى يرق له من حوله ! ويزوره فى بيته مرة أخرى، فيجلس به منتحياً جانباً نم الدار فى ظلمة تلفهما، وبعد صمت طويل يمد إليه الرشيد يده فيمسكها، ويعظه قائلا :"يا لها من كف .. ما ألينها إن نجت غدا من عذاب الله عز وجل"0 ويذكره بأحوال الراشدين والصالحين من أئمة المسلمين، بما تقع به الموعظة فى موقعها الصحيح المؤثر من نفسه، فيتذاكر معه حال عمر بن عبد العزيز، عندما تولى الخلافة، فيقول: "إن عمر بن عبد العزيز لما ولى الخلافة، دعا سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب القرظى، ورجاء بن حيوة، فقال لهم :" إنى قد ابتليت بهذا البلاء، فأشيروا علىَّ".. فعد الخلافة بلاءا، وعددتها – أى الرشيد – أنت وأصحابك نعمة ! فقال له سالم بن عبد الله : "إن أردت النجاة من عذاب الله، فصم الدنيا، وليكن إفطارك منها الموت"0
وقال له محمد بن كعب : "إن أردت النجاة من عذاب الله، فليكن كبير المؤمنين عندك أبا، وأوسطهم عندك أخا، وأصغرهم عندك ولدا، فوقر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك"0 وقال له رجاء بن حيوة: "إن أردت النجاة غداة من عذاب الله، فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، وأكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت"0 وإنى أقول لك : "إنى أخاف عليك أشد الخوف يوما تزل فيه الأقوام.. فهل معك – رحمك الله – مثل هذا ؟ أو من يشير عليك بمثل هذا ؟!" فبكى الرشيد بكاء شديدا، حتى غشى عليه0 وما كان من الرشيد إلا أن طلب منه الاستزادة من العظة والنصيحة، فيزيده منها، ويحدد له أوجه العلاقة الصحيحة بين السلطان ورعيته، فيقول له : "...وإياك أن تصبح وتمسى وفى قلبك غش لأحد من رعيتك، فإن النبى صلى الله عليه وسلم، قال : "من أصبح لهم غاشا، لم يرح رائحة الجنة"0 ويبكى الرشيد ويبكى، ويعزم على بر رعيته ورضاء ربه، ويسأل الشيخ أن يبره بقضاء ديونه، فتبرز شخصيته النقية الورعة، التى لا تبتغى مما تقول إلا وجه ربها، فيقول له : "سبحان الله ! أنا أدلك على طريق النجاة، وأنت تكافئنى بمثل هذا ؟ سلمك الله، ووفقك!"0 فمن أى نبع للحكمة والرشاد كان يمتاح الفضيل بن عياض، ومن أى كتاب كان يستمد ؟!.. إنه الكتاب الكريم وسنة النبى العظيم r، واصطفاء الله لأوليائه المخلصين الصالحين، فلا تأخذهم هيبة السلاطين، ولا تغرر بهم دنيا الترف والشهوات والنزوات الزائلة0
والعجب كل العجب من شأن هذا الشيخ، الآتى من المفاوز والفلوات، اللائذ بربه العائد لكنف عبوديته وحبه، أن يلزم نفسه تقواها، وأعجب منه ذلك السلطان الذى بات لأبواب العلماء والعباد والزهاد طارقا سائلا، ومتعلما وخائفا من غد يقابل فيه ربه0
يدخل الشيخ على الرشيد يوما فى مجلس تسقط فيه النفوس فى أعقابها، هيبة وخوفاً، فما يكون منه إلا أن يسأل عن ملك الدنيا "أيكم هو؟" فيشير الحاضرون إلى الرشيد، فوالله يفجأه كل المفاجأة، ويأخذه من نفسه كل الأخذ، وكأنه هو الملك والسلطان، فيقول له : "أنت هو يا حسن الوجه؟! لقد وليت أمرا عظيما، إنى ما رأيت أحدا هو أحسن وجها منك، فإن قدرت أن لا تسود هذا الوجه بلفحة من النار، فافعل"0 فقال له : عظنى0 فقال : "بماذا أعظك؟!. هذا كتاب الله تعالى بين الدفتين، انظر ماذا عمل بمن أطاعه، وماذا عمل بمن عصاه"0 وقال : "إنى رأيت الناس يغوصون على النار غوصا شديدا، ويطلبونها طلبا حثيثا.. أما – والله – لو طلبوا الجنة بمثلها أو أيسر لنالوها"0 فقال الرشيد : عد إلىَّ0 فقال : "لو لم تبعث إلىَّ لم آتك، وإن انتفعت بما سمعت منى، عدت إليك"0 فهل رأيت ترفعا واستعلاءاً مثل هذا ؟! ... نعم، إنه شأن من أعزه الله بمقام العبودية بين يديه فعز، وأحبه الله فلم يردون وجه ربه بديلا ولا حولا0
لقد عرف الفضيل أهمية السلطان وخطورة منصبه وقدر نفعه وضره، وعرف ماذا يحدث لو أحاطت به بطانة السوء، وأصحاب الهوى، ولذلك أحبه وأبغضه، ونصحه ورفق به، وآلان له الكلام وزجره، ووعده وأوعده!0 أحب الفضيل الرشيد لما رآه من حبه للعلم والعلماء، وتقبله للوعظ والنصح، وحسن إدارة لشئون الرعية، وبلغ به ذلك الحال أن صرح بحبه وبغضه للرشيد، فقال : "ما على ظهر الأرض أبغض إلىَّ من هارون، ولا أحد أحب إلىَّ بقاء منه0 لو قيل : انتقص من عمرك، ويزاد فى عمره لفعلت0 ولو خيرت بين موته أو موت هذا – يريد ابنه أبا عبيدة 0 وإنى لأحبه .. وأحبه لأنه جاءنى على الكبر – لاخترت موت هذا0 فسبحان الله الذى جمع بين هاتين الخصلتين فى قلبى!"0
لقد كان الفضيل العالم المحدث الزاهد العابد، صوت الأمة وضميرها النابض بالحياة، يربى أبناءها ويوجه حكامها، ويرشد علماءها، ألا تراه يوجه اللوم والعتاب لعلماء عصره، وهم من هم فى العلم والتقوى، والقدوة لمن بعدهم، فيقول : "كنت معها شر العلماء سرجا للبلاد يستضاء بكم، فصرتم ظلمة، وكنتم نجوما يهتدى بكم، فصرتم حيرة، أما يستحى أحدكم من الله، إذا أتى إلى هؤلاء الأمراء، وأخذ من مالهم، وهو لا يعلم من أين أخذوه؟!.. ثم يسند بعد ذلك ظهره إلى محراب، ويقول : حدثنى فلان عن فلان!"0فطأطأ سفيان رأسه، وقال : "نستغفر الله، ونتوب إليه"0
ولك أن تقارن بين علماء وعلماء وعصر وعصر، ولك أن تنظر من وراء الغيب لذلك الشيخ الذى يجلس عند أقدامه وبين يديه حكام عصره وعلماؤه، فيسمعون له ويستجيبون ويطيعون، وبعد ذلك تعلم كل العلم أن من سجد بقلبه فى مقامات القرب، وأسقط الأنداد من حسابه، والدنيا من قلبه وعقله، ولم ير سوى ربه رقيبا وحسيبا أن يحله فى مقامات العز به، فيعز فوق كل عزيز، ويطلق يده فى عباده0 فلا يخاف بطش السلطان، ولا تفرق العلماء والعامة عنه0
أما موقف الفضيل من العلم، فقد كان عالما فقيها محدثا عابدا زاهدا، جمع بين علوم الشريعة والحقيقة، ويرى أن العلماء "إنما هما عالمان، عالم دنيا، وعالم آخرة، فعالم الدنيا علمه منشور، وعالم الآخرة علمه مستور، فاتبعوا عالم الآخرة، واحذروا عالم الدنيا، لا يصدنكم بسكره.. ثم تلا هذه الآية : "إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل" (سورة التوبة الآية/34)0 ويقصد بعلماء الدنيا أولئك الذين يبيعون دينهم بعرض زائل،ـ ويذلون أنفسهم بالوقوف على أبواب الحكام، وذوى الجاه من الأغنياء والأمراء0 وكان يرى أن العلم بلا حكمة لا طائل من ورائه، فإنما يطلب العلم ابتغاء الحكمة، فيقول : "العلماء كثير والحكماء قليل، وإنما يراد من العلم الحكمة، فمن أوتى الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا"0 ويدعو الفضيل إلى تتويج العلم بالعمل، والمعرفة بالدعوة، وترفع أصحاب القرآن عن طلب الدنيا به، أو الاستجداء عند أصحاب السلطان، فيقول : "من قرأ القرآن سئل، كما تسأل الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – عن تبليغ الرسالة، فإنه وارثهم"0 ويقول : "لا ينبغى لحامل القرآن أن يكون له حاجة عند أحد من الأمراء والأغنياء، إنما ينبغى أن تكون حوائج الخلق إليه هو"0 ويحدد صفات أولياء الرحمن من القراء والحفظة والعلماء، بقوله : "قراء الرحمن أهل ذبول وخشوع، وقراء الأمراء أهل كبر عجب، وازدراء للناس"0
وكان يؤمن الفضيل بوظيفة الدعاء فى حياة المسلم، فهو يعلم أن "الدعاء هو العبادة" وهو مخ العبادة، كما صح عن النبى r، ولذلك رأى فيه وجها من وجوه العلاقة بين العبد وربه، يظهر فيه عبوديته وخضوعه لله عز وجل، كما أن فيه صلاح الفرد والأمة، وتنزلاً لرحمات الله على عباده، فقد طلب من العباد الدعاء، ووعدهم بالإجابة، فقال "ادعونى استجب لكم" سورة غافر/60 ، كما توعد المتكبرين عن دعائه والطلب منه ورجائه، فقال تعالى : "إن الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين" سورة غافر/ 60
وكان الفضيل يكثر من الدعاء فى أوقات مختلفة ومقاصد متعددة مقتديا بالنبى r، وكان من دعائه : "اللهم أعزنا بعز الطاعة، ولا تذلنا بذل المعصية"، ويقول : "اللهم أهدنا فى الدنيا فإنه صلاح قلوبنا وأعمالنا، وجميع طلباتنا ونجاح حاجاتنا"0ويقصد الزهد فى الشهوات والنزوات، والنزعات والأهواء، لا طلبا للفقر والعوز، وأكثر الصوفية يقصد ذلك فى دعائه، فقد كانوا زينة الدنيا وعمروها، وتزوجوا وأنجبوا، وعملوا وجاهدوا، والدنيا فى كل ذلك فى أيديهم، يبذلونها لله وفى الله، وليست فى قلوبهم شهوة أو هوى ونزوة0
ولمعرفة الفضيل لأهمية الدعاء فى إصلاح الناس والعباد والبلاد، كان يقول : "لو أن لى دعوة مستجابة ما صيرتها إلا فى الإمام"0 فقيل له : ولم ذلك يا أبا على؟ فقال : "متى ما صيرتها فى نفسى لم تتجاوزنى، ولكنى إذا صيرتها فى الإمام، فإنه يكون فى ذلك صلاح العباد والبلاد"0 فقيل له : وكيف ذلك يا أبا على، فسر لنا هذا؟ فقال : "أما صلاح البلاد، فإنه إذا أمن الناس ظلم الإمام، عمَّروا الخرابات، ونزلوا فى الأرض لإصلاحها، وأما صلاح العباد فإن الحاكم ينظر إلى ذوى الجهل، فيرى أنه قد شغلهم طلب المعيشة عن طلب ما ينفعهم، من تعلم القرآن وغيره : فيجمعهم فى دور خمسين خمسين، أو أقل أو أكثر، ويعلمهم أمور دينهم، ويعرفهم أن ذلك هو ما يصلحهم0 وينظر فى أصحاب الثراء، ويأخذ من زكاتهم، ويردها على فقرائهم، فيكون فى ذلك صلاح العباد"0 ا هـ0
وكان بمجلس الفضيل حينئذ ابن المبارك العالم الورع، فسمع ذلك فما ملك أن قام فقبل جبهة الفضيل، وقال له فى – إعجاب- : "يا معلم الخير، من يحسن هذا غيرك؟!"0 لقد كان الفضيل محدثا ثقة قوى الذاكرة ذكيا بفطرته ورعاً يتحرج من الكذب على رسول الله r كل التحرج، ويشهد له هارون الرشيد بذلك فيقول : "ما رأيت أورع من الفضيل"0 وكان كثير البحث والتحرى، ومحبا لرسول الله r، وروى بسنده عن النبى r قوله: "من كذب على متعمدا بنى الله له بيتا فى النار"0 وأجمع أهل الحديث على الفضيل بن عياض، كما لم يجمعوا على غيره، فقال النووى : "وأجمعوا على توثيقه، والاحتجاج به، وصلاحه، وزهده وورعه، ونحوها من طرائق الآخرة"0 ولم يخالف فى ذلك أحد من المحدثين أصحاب الجرح والتعديل فقال أبو حاتم والنسائى والدارقطنى عنه: "صدوق، ثقة مأمون"0 وقد أخذ عن كبار التابعين كأمثال الأعمش ومنصور بن المعتمر وعطاء بن السائب، وأخذ عنه خلق كثير منهم سفيان الثورى، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وغيرهم0
وكما ربى ووجه الفضيل المريدين فى الطريق إلى الله، ونصح العلماء والحكام، لم يبخل بالنصيحة على المحدثين، وهو منهم، فقد رأى بعضهم مرة يمزحون ويضحكون، بما يتنافى مع خلق وسلوك العلماء القدوة، حملة علم رسول الله الشريف، فناداهم :"مهلا، يا ورثة الأنبياء – مهلا – ثلاثا – إنكم أئمة يقتدى بكم"0 روى عن رسول الله r قوله : "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة إذا لم تستح فاصنع ما شئت"0
كما روى عن عائشة قولها : "كان يأتى على آل محمد الشهر، ما يختبزون"0 وروى عن مسلم البزار عن أنس بن مالك قال : "كان رسول الله r يجيب العبد، ويركب الحمار، ويعود المريض"0 وروى - بسنده – عن أبى هريرة، قال : قال رسول الله r : "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة"0 وروى – بسنده – عن جرير بن عبد الله البجلى عن النبى r، قال : "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل"0 وروى – بسنده – عن جابر، قال : سمعت النبى r قبل موته بثلاث، يقول :"لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن بالله الظن"0
ولقد وضع الفضيل للمسلمين تصوراً تربوياً مكتملاً، عليه يسيرون وبه يأخذون، فمثلا لا يكون المؤمن مؤمنا إلا بأداء الفرائض واجتناب النواهى، والرضا بالقضاء والقدر، والحذر من الكبر ومكر الله، فيقول : "... والله لا يستكمل العبد الإيمان، حتى يؤدى ما افترض الله تعالى عليه، ويجتنب ما حرم الله تعالى عليه، ويرضى بما قسم الله تعالى له، ثم يخاف مع ذلك أن لا يتقبل منه"0 ويقول : "من خاف الله لم يضره شئ، ومن خاف غيره لم ينفعه شئ"0 ويقول : "حرام على قلوبكم أن تصيبوا حلاوة الإيمان حتى تزهدوا فى الدنيا"0 ويقول :"يهابك الخلق على قدر هيبتك لله"0 وعن محمد بن زنبور، قال : سمعت الفضيل يقول : "رهبة العبد من الله عز وجل، على قدر علمه، ورهبته من الدنيا على قدر رغبته فى الآخرة"0 وقال لسفيان بن عيينة : "ويل لك إن لم يعف عنك ..إذا كنت تزعم أنك تعرفه، وأنت تعمل لغيره"0
فالزهد والإخلاص والخوف علامات وأمارات يصاحبها التوبة والتوكل على الله فى الطريق، والفضيل قارع أجراس الإنذار، وواعظ الله فى قلب إخوانه، يقول لهم : "تريد الجنة مع النبيين والصديقين، وتريد أن تقف الموقف مع نوح وإبراهيم ومحمد عليهم الصلاة والسلام.. بأى عمل .. وأى شهوة تركتها لله عز وجل؟ .. وأى قريب باعدته فى الله؟.. وأى بعيد قربته فى الله؟"0
وعن إسحاق، قال : قال الفضيل: "طوبى لمن استوحش من الناس، وكان الله أنيسه، وبكى على خطيئته".. وهكذا تجده يحث على الأنس بالله، والخلوة ودوم الفكر، وقال الفضيل : "ترك العمل من أجل اناس هو الرياء، والعمل من أجل اناس هو الشرك!".. فلابد أن يخلو العمل من الرياء والشرك، ويتصف بالإخلاص والصدق0 أما عن موقف المريد من إخوانه، فينصح المبتدئ بقوله : "من طلب أخاً بلا عيب صار بلا أخ"0 لأنه لا يخلو الإخوان من المعايب، وأول آداب الصحبة التماس الأعذار، وغض الطرف عن العيوب وسترها0 ومن كلماته :"من أظهر لأخيه الود والصفاء بلسانه، وأضمر له البغض والعداوة.. لعنه الله، وأصمه وأعمى بصر قلبه"0 وقال : "لم يدرك عندنا من أدرك بكثرة صيام ولا صلاة،وإنما أدرك بسخاء الأنفس وسلامة الصدور، والنصح للأمة"0
لقد أسس التصوف على الشريعة السمحاء، وهو معرفة خالصة فى مبادئه، وأصوله وأخلاقه، وأعلى درجات المعرفة بالله، يقول الفضيل : "من عرف الله من طريق المحبة بغير خوف، هلك بالبسط والإدلال0 ومن عرفه عن طريق الخوف انقطع عنه بالبعد والاستيحاش0 ومن عرفه من طريقهما معا أحبه وقربه، ومكنه وعلمه0 ومن عرف الله حق المعرفة فهو بعيد عن الضلال0 ومن أنزل الموت حق منزلته لم يغفل عنه"0
ويرى الفضيل أن الإخلاص أساس العمل :"كان يقال : لا يزال العبد بخير، ما إذا قال قال لله، وإذا عمل عمل لله"0 وأن أعلم الناس بالله أخوفهم له : "أعلم الناس بالله أخوفهم له"0 وأن الخوف أفضل من الرجاء فى بعض الأحوال، والرجاء أفضل فى بعضها الآخر ..: "الخوف أفضل من الرجاء، ما دام الرجل صحيحا.. فإذا نزل به الموت فالرجاء أفضل من الخوف"0 وكانت أفضل عباداته وأكثر نوافله فى الشتاء : "الشتاء غنيمة العابد".. ويداوم على قيام الليل وصيام النهار : "إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار، فاعلم أنك محروم مكبل، كبلتك خطيئتك"0
أما الذكر عنده فهو علاج للمذنب، وثواب للعابد :"الذاكر سالم من الإثم – ما دام يذكر الله – غانم من الأجر"0 والورع يكون فى اجتناب المحارم" : وأشد ما يكون فى اللسان"، والغنى فى القناعة : "القناعة، وهى الغنى"0 والخير كل الخير فى الزهد فى الدنيا : "جعل الخير كله فى بيت، وجعل مفتاحه الزهد فى الدنيا"0 والصبر على المصائب فى "أن لا تبث".. أى : لا تشكو0 ويصاحب التوكل الأسباب، وإسقاط التوكل شرك، وترك الأسباب تواكل وكسل، والمتوكل الحقيقى هو :".. الواثق بالله، ولا يتهم ربه، ولا يخاف خذلانه ولا يشكوه"0 وحقيقة المحبة : ".. بإيثار المحبوب على الكونين فى القرب والبعد"0 وغايتها حب الله عز وجل،ومنتهى الحب له : "إذا كان عطاؤه ومنعه إياك عندك سواء، فقد بلغت الغاية من حبه"0 ولا يبلغ درجات الرضا إلا المقربون : "درجة الرضا عن الله، عز وجل، درجة المقربين، ليس بينهم وبين الله إلا روح وريحان"0

المــصـــادر
أولا : القرآن الكريم0
ثانيا : كتب السنـة0
ثالثا : مصادر أخرى0
- الأعلام، للزركلى، جـ5/153 0
- البداية والنهاية، لابن كثير، 11/198 0
- تهذيب التهذيب، لابن حجر العسقلانى، 8/291-297 0
- الرسالة القشيرية، للقشيرى، جـ1/62-64 0
- صفة الصفوة، لابن الجوزى، 2/134-139 0
- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبى نعيم، 8/84-140 0
- طبقات الصوفية، لأبى عبد الرحمن السلمى، ص 6-14 0
- الطبقات الكبرى، لابن سعد، 1/5/366 .
- الطبقات الكبرى، للشعرانى، 1/79، 80 0
- الكواكب الدرية، للمناوى، 152، 160 0
- ميزان الاعتدال ونقد الرجال، للذهبى، 2/334 0
- وفيات الأعيان، لابن خلكان، 1/525 0

د/ إمام حنفى سيد عبد الله
اميل:iimaamm_001@yahoo.com
ت / 0171942755

ليست هناك تعليقات: