الثلاثاء، 25 نوفمبر 2008

ملخص بحث
الآراء الكلامية والصوفية عند القشيري
ماجستير"منشور"1997م.
د.امام حنفي سيد
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، المبعوث هداية ورحمة للعالمين، وبعد000 هذه الدراسة عن آراء القشيرى الكلامية والصوفية، قسمتها إلى قسمين، الأول منهما تناولت فيه آراءه الكلامية وجاء في تمهيد عبارة عن ترجمة القشيرى ومؤلفاته، وستة مباحث اشتمل على العناوين التالية : موقف القشيرى من علم الكلام، والصفات الإلهية، والقضاء والقدر، والنبوات، والتكليف والإيمان، والإمامة0
ثم تناولت في القسم الثاني آراءه الصوفية، وجاء في تمهيد تحت عنوان التصوف وضرورة الالتزام، وخمسة مباحث هي على النحو التالي : البدايات في الطريق الصوفي، والإعداد في الطريق الصوفي، والأحوال، والمقامات، وثمرات الطريق الصوفى0
وتأتى أهم نتائج هذه الدراسة على النحو التالي :
أولاً : بالنسبة للجانب الكلامي :
كان القشيرى من أهم وأبرز المشجعين للعمل بعلم الكلام ودراسته، وكان يرى ارتباط هذا العلم بالعقيدة الإسلامية، فهو يقوم ببيانها وتوضيحها وتقديم الأدلة العقلية والبراهين التي تؤيدها، كما أنه يدافع عن هذه العقائد في مواجهة الشبهات وشكوك الخصوم0 ومن ثم أجاز الجدل والمناظرة في علوم العقائد في إطار الدفاع عن أصول الدين، ولذلك سعى إلى التماس شرعية علم الكلام من الكتاب والسنة0
كما ذم القشيرى التقليد ورأى وجوب النظر في العقائد وغيرها، ووجد في التقليد خطورة كبيرة على المكلف، واسترشد بموقف القرآن الكريم من الدهريين عندما رد حجتهم باتباعهم فى كفرهم لآبائهم، وذهب إلى أن أول الواجبات على المكلفين هو النظر0
ورد القشيرى على خصوم علم الكلام ووضح أنه علم له لغته ومصطلحاته الخاصة به، وكان السلف على دراية بقضايا علم الكلام على عكس ما يتصور الخصوم من جهلهم بها، كما بين أن علم الكلام ليس بدعة فهو ككل علم ظهر لخدمة الشريعة كعلم الأصول والفقه علوم الحديث وغيرها، وبين أن نهى السلف كان عن الجدل بالباطل واتباع المتشابه الذي نهانا الشرع عن الخوض فيها، وانتهى القشيرى إلى تقرير حقيقة أن علم الكلام من العلوم الشرعية المقدمة على غيرها من العلوم، ويحمد دارسوها إن التزموا بأصول المنهج ووقفوا عند آداب البحث والنظر والحوار مع الخصوم0
وجاء موقف القشيرى من المنهج واضحاً وقويماً ومعتدلاً، فقرر أنه يقوم على أساسين العقل والنقل، وأن الأدلة العقلية شرعية، طالما كانت صحيحة وسليمة وواضحة، سواء ورد بها نص أم لم يرد، كما أشار القشيرى إلى أن الإلهام القلبي طريق يصل بصاحبه إلى اليقين، وهو يخص الصوفية0 ومن أساسيات المنهج عنده الاتباع وعدم الابتداع، وذهب إلى أن مصادر أصول الدين والفقه واحدة وهى الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وأجاز التأويل إذا أدى ظاهر النص لشيء من التشبيه أو التجسيم؛ لتعارض ذلك مع أصول العقيدة0 واحتج القشيرى بأحاديث الآحاد وجواز العمل بها، إلا أنه لم ير إفادته لليقين، وكان يأخذه بضابط وهو وجود أصل له في كتاب الله أو الإجماع، وعد القشيرى الإجماع حجة يقطع بها في مسائل الأصول، وذهب إلى أن القياس مصدر من مصادر الشريعة0
وذهب القشيرى إلى أن العلوم مكتسبة والمعرفة إلهامية ووهب من الله، تأتى على إثر مجاهدة الإنسان لنفسه وتقويمها، والطريق لمعرفة العلوم الدينية هو العقل والنقل، أما الإلهام فالطريق إليه هو المجاهدة، ويؤدى لليقين عند الصوف ، وبداية الإلهام هو علوم النظر والكسب، ويعتقد القشيرى كغيره من الصوفية إمكانية اكتساب المعرفة من غير طريق العقل، وتتقدم المعرفة الإلهامية عنده على النظر، ومع أنه يقدم العارف الصوفي على العالم إلا أنه لا يجيز له الفتوى أو الجلوس لتعليم الناس، وتختلف درجات اليقين عنده باختلاف درجات المريدين في طريق المجاهدة0
وذهب القشيرى إلى أن إثبات الصانع هو أساس البحث في الإلهيات، وأن القرآن الكريم تعددت فيه أدلة إثبات الوجود، وتفاوتت مستويات الخطاب فيه؛ لتناسب جميع الناس، منها النظر والتأمل فى خلق الكون والإنسان، واستشهد كالمتكلمين على إثبات وجود الله بالأدلة القرآنية كدليل الصنعة، والقدرة والإتقان والإحكام، وكان هذا هو طريق الأنبياء في إثبات وجود الصانع، كما عد القشيرى معجزات الأنبياء ونجاح دعوتهم وانتشار اتباعهم دليلاً على وجود الله، واستعان كذلك بدليل الجواهر والأعراض0
وأشار القشيرى في حديثه عن النبوات إلى أن الواجبات بعد ورود الشرع كلها سمعية، وهو يتفق فى ذلك مع الأشاعرة إلا أنه يجيز إرسال الرسل من طريق العقل، ثم بين أن دور الشرع هو تحديد العلاقات بين البشرو الحفاظ عليهم من الصراعات والمنازعات، وإبطال الشرع إثارة للفتن وفساد للعالم0 ويفرق القشيرى بين نوعين من الوحى أحدهما للإلهام والآخر للإعلام، فالملائكة التى تنزل بالإلهام وهو يخص الصوفية من هم دون الأنبياء، أما ملائكة الإعلام فتخص الأنبياء وحدهم0
وذهب القشيرى إلى أن العصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنون عصوا ربهم فهم فى قبضة رحمته وعدله، إما أن يغفر لهم بفضله ورحمته أو يعذبهم قصاصاً وعدلاً جزاء ما اقترفوا من ذنوب، وهو موقف معتدل يعبر عن حقيقة موقف السلف الصالح وأهل السنة والجماعة0 واتفق القشيرى مع أهل السنة والجماعة أيضاً في أن البعث والنشور وكونه بالروح والجسد جميعاً، وأن الجنة والنار مخلوقتان الآن وباقيتان ودائمتان لا يزولان ولا يبيدان0 كما أثبت الرؤية في الآخرة، ونفاها في الدنيا في مقابل موقف المعتزلة الذين نفوها فى الدنيا والآخرة، وهى عنده في الجنة للمؤمنين فقط دون الكفار0
وحول آراء القشيرى في الإمامة نجده يرى وجوب تنصيب الإمام عن طريق السمع، وإن كان الشرع ترك حرية اختيار الإمام للمسلمين، ولا يوجد نص قاطع بإمامة أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأجاز أغلب الأشاعرة عقد الإمامة لإمامين أو أكثر بشرط تباعد البلاد فيما بينهم0 وذهب القشيرى إلى ضرروة اشتراط عدة شروط فى الإمام منها العلم والعدالة والورع وحسن التدبير والقرشية... وذهب أيضاً إلى وجوب الشورى، وجواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل بغير عذر، وأوجب طاعة الأئمة ولم ير جواز الخروج عليهم بالسيف0 كما أثبت إمامة الخلفاء الأربعة، وقرر أن ترتيبهم في الفضل جاء كترتيبهم في الولاية ونهى عن سب الصحابة، وأن ما حدث بينهم كان اجتهاداً وتأويلاً وأدار الله الحق مع علىٍّ حيث دار0
- ويجدر الإشارة أن القشيرى قد ذهب في مباحث علم الكلام إلى الجمع بين أسلوب الكلاميين ومذاقات الصوفية، ولذلك كان يتجاوز عن الجدل الكلامي في الفروع بهدف تقرير الأصول وتحويل علم الكلام إلى علم عملي سلوكي يعرفه المريد، ثم يبدأ بتطبيق مراحل الطريق الصوفي دون الوقوف عند حدود الجدل، ويمكن القول بأن أسلوب القشيرى في علم الكلام هو أسلوب كلامي متصوف أو متصوف متكلم0
ثانياً : بالنسبة للجانب الصوفي :
ذهب القشيرى إلى أن التصوف مأخوذ عن الصفاء، والصوفي هو من يصافيه ربه، والتصوف عنده عبارة عن التخلي عن كل خلق مذموم والتحلي بكل خلق حميد، ويرى ضرورة اتباع الكتاب والسنة وعدم الابتداع، وصحبة أهل الالتزام، ونبذ المبتدع في الدين أو التارك للسنة0
والمريد في البدايات يجاهد نفسه بقسوة حتى تبرأ من كل عيب وتتخلى عن كل آفة، وتهجر كل شهوة، وتنمو الإرادة عنده بالتجرد عن الجاه والسلطان وترك العلاقات والأملاك والخلوة والجوع والسهر والذكر، ومن الصوفية من يكون مريداً فيسلك الطريق من أوله ومنهم من يكاشف من أول الطريق وهو المراد0
وعلى المريد أن يتحلى بالصدق، ويبدأ بتصحيح عقيدته وإخلاص نيته ويوجب عليه القشيرى تعلم علوم الشريعة فى البدايات، وعدم الأخذ بالرخص وضرورة التأدب بشيخ فمن لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان، وعلى المريد أن يتأدب مع شيخه ويحترمه ويحذره من عقوق المشايخ ولعلاقة المريد بالشيخ جانبها الايجابي والآخر السلبي، والقشيرى يتبع الصوفية في موقفهم من الشيخ، وهو ما قد يخالف بعض مقاصد الشريعة من ضرورة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وحسن الصحبة، وعدم قبول ما يخالف الشريعة أو الموافقة عليه0
ولأخلاق المريد مع أصحابه جوانب إيجابية كثيرة تدل على فهم الصوفية لآداب الإسلام وعملهم بها، وخصوصاً تحذير القشيرى ومشايخ الصوفية من صحبة الغلمان والنسوان وعدّوا ذلك فتحاً لباب الخذلان، وكذلك حَسُنتْ آداب الصوفية في السفر، واختلف القشيرى مع الصوفية فى جواز السفر فى البدايات، فلم يره للمريد في البدايات، واتفقت وجهة نظر الصوفية مع مقاصد الشريعة فى السفر، عدا موقفهم من جواز السفر في البراري والصحراوات بلا هدف أو غاية، ودون التزود بالطعام والشراب وغيره من أدوات السفر وكثرة حكاياتهم فى ذلك0
وتحاكم الصوفية في مجاهدة النفس إلى الكتاب والسنة، وذهبوا إلى ضرورة تنقيتها من كل آفة كالكبر والحسد والحقد والغرور والغيبة والنميمة، وتحليتها بكل خلق محمود كالإيثار والصدق، ويؤخذ عليهم التجرد التام من الجاه والأملاك، وإيثارهم الفقر على الغنى والذل على العز، وذلك أنهم جعلوا الفقر غاية من غاياتهم لا يتم للصوفي حقيقة المجاهدة إلا به، ورغم موافقة القشيرى للصوفية فى ذلك إلا أنه لا يرى الخروج عن الأموال لمن له عيال لا يصبرون على الفقر والجوع، أو ظن من نفسه السؤال بعد ذلك0
ويذهب القشيرى إلى أن الجوع من صفات الصوفية، ويميل معهم في مواقفهم المعتدلة والمغالية في أمر الجوع، وإن كان يرى سياسة النفس على الاعتدال، والجوع كما يصفه الصوفية يتفق مع التصوف الهندي والفارسي وكذلك عند النصارى، أما في الإسلام فيقابله الصوم على ما ذكرت الشريعة التي لا تعتبر الجوع غاية في ذاته، ولكنه عبادة يتقرب بها العبد لربه، يتم به تنقية نفسه وتهذيبها من شرورها وكبح جماح شهواتها0
ويعد جانب الإعداد هو الجانب العملي الذي يمثل المنهج عند القشيرى، والذي استقاه من خبرته العملية وتخلقه في الطريق الصوفي، ويعد الذكر من أبرز أركان المجاهدة والإعداد، ويتسم عند القشيرى بموافقته للآداب الإسلام فى ذكر الله، إلا أنه يوافق الصوفية على الذكر بالاسم المجرد "الله" وهو ما رفضه مشايخ الإسلام فانكروا على أصحابه كابن تيمية، كما أقر الصوفية فى السماع والرقص وتمزيق الخرقة والذين يجيزون ذلك على شروط يصنعونها، والسماع في حد ذاته لا غبار عليه عندما لا يكون دنياً أو طقساً يتعبد به إلى الله، أما والحال كذلك فهو مرفوض شرعاً وطبعاً، وما أنزل الله بذلك شريعة تتبع ولا أثُرَ عن النبي أنه سمع كسماع الصوفية وعلى إثره تواجد هو أصحابه واتبعوا ذلك بمنكر من الفعل كتمزيق الثياب أو الغيبة أو ما شابه ذلك، وكل استدلال على هذه الأفعال من الشريعة افتراء وتعنت غير مقبول0 ويكاد لا يكون هناك تصوف بغير سماع أو رقص صوفي على مسيرة تاريخه، مما يشوه آداب الشريعة وينقض بعض أركانها، وقد أدى السماع والوجد بعد القرن الخامس الهجرى إلى ظهور أنواع أخرى من المنكرات في السماع أحالت الشريعة والحقيقة إلى محض خيالات، وذهبت بتعاليم الرسول تماماً0
وساهم القشيرى بخط كبير في تأصيل المصطلح الصوفي ووضع قاموس عام لألفاظ الصوفية، يحتاج للرصد والدراسة0 ويتجلى ذلك بوضوح عند تناول القشيرى للأحوال عند الصوفية وتعريفه لمفهومها عندهم بدقة شديدة تدعو للإعجاب، وتعددت مقاصد الصوفية من وضع قاموس للمصطلحات يخصهم وحدهم دون غيرهم ذكرها القشيرى ووافقهم عليها0 وجملة الأسباب التي يركن إليها الصوفية في هذا الشأن تصلح لأن تكون مفتاحاً لفهم غايات الصوفية من التصوف على وجه الحقيقة وحسم بعض المسائل الغامضة في تاريخهم مثل موقفهم من التكاليف والشريعة والحقيقة والتوحيد والفناء والحب والولاية وغير ذلك0
وتعبر المقامات عند الصوفية على ترقى الصوفي في مراحل الطريق وقطعه لأشواطه، والمقامات عند القشيرى كثيرة بلغتْ الثامنة والأربعين، وعند غيره كالهروى بلغت المائة، واقتصرتُ على المقامات الأساس أو المقامات التي رأى الصوفية الأوائل أنه لا غنى عنها في الطريق، ومن ذلك التوبة، والزهد، والصبر والشكر، والخوف، والرجاء، والتوكل، والرضا0 ويتسم موقف القشيرى من المقامات المذكورة بالاعتدال والتخلق بأخلاق الشريعة، ففي التوبة نجده في غاية الإيجابية حيث يغلب الرجاء على الخوف واليأس، ويؤمل المذنبين في جميل عفو الله ومغفرته0 أما مقام الزهد فلا يخلو عند الصوفية من الغلو حيث نجد بعضهم يصرح بضرورة توبة الزاهد عن زهده، وتخليه عن الأملاك والجاه تماماً وقعوده في ظل فقره وأن لا يشاهد في فقرة حقيقة فقره، وذلك عندهم هو الصوفي الحق، وكل ذلك مرفوض شرعاً وطبعاً، حيث يؤدى بصاحبه إلى السؤال والمذلة والمسكنة، فكيف يصل إلى الله من شغلته نفسه وقوت عياله عن صدق عبادته؟!0
وجاء حديث القشيرى عن الصبر في غاية التشويق، ومعبراً عن فهم الصوفية للنفس البشرية وبراعتهم في تحليلها وتفسيرها فتحدثوا عن الصبر وأنواعه وسماته ومميزاته حتى بلغوا مقامات الشكر في الصبر وبينوا أن أعلى درجاته وأحلى ثماره هو المحبة وعشق المحبوب0
وأعطى القشيرى الرجاء والخوف أهمية بالغة حيث يرى أنهما من أهم وسائل التربية وتهذيب النفس وتقويم الأخلاق،ويفرق بين الرجاء والتمني، وبين الرجاء والبسط عندما يكون الأول حالاً، ويرى وجود الخوف والرجاء في قلب المريد ضرورة لابد منها، إلا أنه يغلب جانب الرجاء على الخوف، لما فيه من زيادة التفاؤل والأمل في نفوس الناس كما يفرق في مقام الخوف بينه وبين الخشية والرهبة، ويربط بينه وبين مفهوم المراقبة0
واعتبر القشيرى التوكل من أعمال القلوب الاعتقادية وبه يطمئن القلب وتسكن الجوارح ثقة فى ربها، وبينَّ موقفه من إسقاط التدبير وكونه لا يخرج بالمريد إلى نفى الأسباب والتواكل وهو موقف معتدل، وأكبر ثمرات التوكل الرضا، وللصوفية موقف من الكسب يتراوح بين تركه تماماً توكلاً، أو التكسب واعتبار ذلك من صميم التوكل، ويتأرجح موقف القشيرى من هذه المسألة إلا أن الغالب على كلامه الأخذ بالأسباب، وطلب المعاش وعدم التواكل0
وتأتى المحبة كثمرة من ثمرات الطريق الصوفي عند القشيرى، وغاية يرنو إليها المريد، ويفرق بين محبة العبد لربه، ومحبة الله لعبده، ويربط بين محبة الله والإرادة، فهي تعنى إرادة الله أن ينعم على عبده، ومن آثار المحبة على العبد إيثار رضا المحبوب، وكثرة ذكره، وخير شاهد على محبة الصوفية لربهم ما يبذلونه في الطريق الصوفي من مجاهدات ورياضات عنيفة، ومقاساة الشدائد شرط المحبة عند القشيرى0 ورفض القشيرى إطلاق لفظ العشق على العلاقة بين العبد وربه لما يجده في نفسه من فرط الحب، لما في ذلك من تجاوز العبد لحدوده وإرخاص لمقامات التوحيد في قلبه، والعشق لا يكون إلا بين مثلين، وحاش لله أن تلحقه صفات النقص وآفات الخلق0 كما تناول القشيرى مفهوم الشوق إلى الله، وحب لقائه ومن كان حاله الشوق إليه رغب في الموت والشهادة، وقدم المحبة على الخوف، وعد الثانية من صفات أهل التلوين، والمحبة في النهايات ولذلك فهي من صفات أهل التمكين0 ولا يجد القشيرى فرقاً بين المحبة والخلة، فهما من نوع واحد والفرق بينهما في الدرجة، وعد المعرفة أصل المحبة، ولذلك كل منهما يستدعى الآخر، وهما متلازمان0 وعن علاقة المحبة بالتوحيد، والفناء في مقامات التوحيد نجد القشيرى ينكر على من يصرحون بأسرار التوحيد، وإن كان هذا لا يعنى إنكاره لهذه الأسرار، ولكنه كالجنيد يكتفي بالرمز والتلميح ولا يعترض على شيء مما ذكره البسطامى في الاتحاد أو الحلاج فى الحلول وكذلك النورى والشبلى، والرسالة واللطائف مشحونان بأقوالهم جميعاً، إلا أنه يقف عند حدود الفناء في الشهود، ولا يصرح بالفناء فى الوجود0
والولاية ثمرة من ثمرات الطريق الصوفي تأتى في نهاياته، وعد الصوفية الولي هو الفاني في مقامات المشاهدة وتتوالى عليه أنوار المكاشفة، والأصل عندهم هو توفيق الله للعارفين وولايته لهم0 ويقرر القشيرى أن النبي فوق الولي، والنبوة مقام لا ينبغي لأحد من خلق الله سوى من اصطفاهم الله لها، ورتبة النبوة فوق رتبة الولاية، وبالتالي معرفة الأنبياء الروحية تفضل معرفة الأولياء0 ومع ذلك يؤكد القشيرى على أن الأولياء يشاركون الأنبياء في العلم من باب الفضل والرضا لا على الوجوب، وأجاز أن يكون الولي معروفاً ومشهوراً بولايته، ولا يكون مفتوناً، ويرى مع أغلب الصوفية جواز سقوط الخوف من سوء العاقبة في المآل عن الولى0 كما يرى أن العصمة للأنبياء والحفظ للأولياء، وأجاز ظهور الكرامات على الأولياء، وإن كانت غير شرط في الولاية0
ويتفق القشيرى مع الصوفية في الفراسة، وهى في حدود ما قرروا لا تختلف مع حدود الشريعة والسنة النبوية، ولكن المشكلة في أن الصوفية لا يقفون عند هذه الحدود بل يتجاوزونها دائماً ويحلقون في آفاق أخرى، ومع ذلك يمكن القول بأن تيار الاعتدال وعلى رأسه القشيرى قد حفظوا للتصوف صبغته الإسلامية على طول مسيرته، ونجحوا إلى حد كبير في تنقية أجوائه من الأفكار الدخيلة والتصوفات الأخرى التي تحمل كثيراً من المناهج والمضامين المخالفة للإسلام روحاً ونصاً، وشريعة وحقيقة0
هذا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

ليست هناك تعليقات: