الثلاثاء، 25 نوفمبر 2008

الشفاعـــــة

الشفاعـــــة
د.إمام حنفي سيد عبدالله

ينبغى أولا بيان معنى الشفاعة، وهى انضمام الإنسان إلى
غيره، بحيث يكون معه شفعا، بعد أن كان وترا؛ ليطلب له من آخر أمراً يحقق له جلب منفعة أو دفع مضرة، وهى تقتضى أربعة أمور : شافعا، ومشفوعا له، ومشفوعا عنده، ومشفوعاً فيه0 والشفاعة منها ما يحمد وما يذم، والمحمودة أن يشفع الشافع لمن يستحق الشفاعة، فى تحقيق أمر مشروع له، وإن لم يكن حقا له.. والمذمومة كأن يشفع شافع لإسقاط عقوبة عمن يستحقها؛ لنسبه أو جاهه أو ماله، وهو ما أنكره رسول الله r على أسامة بن زيد، حين تشفع في أمر المخزومية التي سرقت، وقال له : "أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة" متفق عليه0
وعليه فالشفاعة التي نؤمن بها منضبطة بشروط ولها مجالها وأهلها، وهى التي أثبتها القرآن الكريم للمذنبين العصاة من أمة محمد يوم القيامة، وصحت بها أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن بحال أن تكون من النوع المذموم0 قال تعالى : "من يشفع شفاعة حسنة، يكن له نصيب منها، ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها" النساء الآية/85.. فالله عز وجل مالك الشفاعة، ومن يشفع عنده لابد أن يكون من أهل القبول، ممن أذن له ورضي له قولا من الملائكة أو الأنبياء أو الصالحين، والمشفوع فيه لابد أن يكون أمرا يدخل في دائرة الشفاعة وتجوز فيه الشفاعة0
وقبل الحديث عن قضية الشفاعة وموقف علماء الإسلام منها، ينبغي الوقوف على البواعث التي ساعدت على إثارتها، وهو الخلاف حول مرتكب الكبيرة، وحكم العصاة من أهل القبلة، من حيث حكمهم في الآخرة وتسميتهم في الدنيا، وهى إحدى نواتج الخلاف في قضايا الإيمان، وتعد أولى قضايا الفكر الإسلامي، وقد اشتد الخلاف فيها بين طوائف الأمة؛ لأسباب مختلفة، فتطرفت بعض الآراء حتى بلغت فى الغلو أقصاه، إفراطا وتفريطا، وتوسط أهل السنة والسلف الصالح وأخذوا بسنن الاعتدال0
1- فقد أثارها الخوارج أيام على، رضى الله عنه، وحكموا على مرتكب الكبيرة – ولو كانت واحدة – أنه كافر، وأنه مخلد فى النار، إذا لم يتب منها، وطبقوا ذلك على الإمام على، فقد كفروه بقبوله للتحكيم، وحكموا عليه بالخلود فى النار! .. والخوارج أهل غلو كفروا وقتلوا، ومالوا للشدة والعنف، وأهدروا الدماء، واستحلوا الأعراض، وحكموا على العصاة من أمة محمد r بالخلود فى النار، إن ماتوا ولم يتوبوا، مع المشركين فى النار، وانعكست أفكارهم السياسية المتطرفة على عقائدهم بشكل واضح، وعلى فكرهم الفقهى ، وكذلك كفروا من ينكر عليهم، ويشهد الإسلام أنهم كفروا الأمة من عهد الصحابة وانتهاء بأنفسهم، وتقاتلوا فيما بينهم حتى تفانوا، وفاضت السنة بذكر أحوالهم وذمهم، فآفتهم لم تكن في ضمائرهم، بل في عقولهم وأفهامهم، فقد كانوا أصحاب عبادة وصلاة وصيام، ومع ذلك يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية : "يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وقيامه إلى قيامهم، وقراءته إلى قراءتهم.." متفق عليهم .. ولذلك بعث إليهم الإمام على ابن عمه عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما ليناقشهم ويجادلهم، وقد نجح فى إقناع الكثير منهم فرجع الآلاف إلى الحق، وأصر الآخرون على موقفهم فقاتلهم الإمام على، ومن معه من الصحابة0 واستدل الخوارج على تكفير العصاة، بقول الله تعالى :"ومن يعص الله ورسوله، ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها" سورة النساء الآية/14، وذهبوا إلى أن الذنوب كلها في تحقيق اسم العصيان واحد، واستدلوا على خلود الكفار، بقول الله تعالى: "واتقوا النار التي أعدت للكافرين"، وهكذا ساووا بين المشركين الكافرين والمؤمنين الموحدين!
2- ثم ثارت هذه القضية مرة أخرى في عصر التابعين، في حلقة الإمام الفقيه : الحسن البصري، فقد سأل سائل عن مرتكب الكبيرة، فرد عليه واصل بن عطاء تلميذ الحسن: ليس بمؤمن ولا كافر، ولكنه فى منزلة بين المنزلتين، وهو مخلد في النار كالكافر فقال الحسن : اعتزلنا واصل0 فقد أتى موقف المعتزلة كموقف الخوارج أو قريبا منه، فسموا صاحب الكبيرة فاسقا لمخالفته أهل الكفر والإيمان، ولكونه مصدقا مؤمنا يعمل بالشريعة لا يكون كافرا، فهو في منزلة بين المنزلتين0 والحسن البصري رأى مرتكب الكبيرة منافقا، يخلد في النار إن لم يتب قبل موته، ولكن عذابه دون عذاب الكفار، لقوله تعالى : " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها" سورة النساء الآية/93، وقوله : " أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون" سورة السجدة الآية/18. فالمؤمن يقابل الفاسق، ولذلك جمع بين الاسم والحكم فى قوله تعالى :"أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون" سورة السجدة الآية/20.. أما الصغائر فيكفرها اجتناب الكبائر، لقوله تعالى : " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم" سورة النساء الآية/31 0
3- وجاء موقف المرجئة الذين أرجئوا العمل، وأخروه عن الإيمان، فى مسألة مرتكب الكبيرة، مطابقا لموقفهم من قضية الإيمان، فلا يؤثر ترك العمل فى الإيمان، والعاصى مؤمن، فلا يضر مع الإيمان معصية، ولا ينفع مع الكفر طاعة، ويتساوى فى الإيمان جميع الناس بلا فرق، وهكذا تطرف المرجئة إلى أقصى اليمين ليقابلوا الخوارج والمعتزلة فى أقصى اليسار، ولم يعرفوا أبدا الاعتدال والتوسط0
4- أما أهل السنة والجماعة والسلف الصالح، فقد حققوا منهج الوسطية السمحاء، فى موقفهم من مرتكب الكبيرة، وقضية الشفاعة فى الآخرة، فراعوا الرضا النفسى، والقبول الإنسانى والعقائدى، ووافقوا العقل والفطرة جميعا.. فأثبتوا أن هناك عصاة مؤمنين يدخلون النار، كما دلت على ذلك آيات القرآن وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فهم مرجون لعفو الله وفضله، بشرط عدم استخفافهم بها، أو استحلالهم لها، وخوفهم وخشيتهم من أن يعذبهم الله عليها0 قال تعالى : "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما، إنما يأكلون فى بطونهم نارا وسيصلون سعيرا" سورة النساء الآية/10، وقال تعالى : "ومن يعص الله ورسوله، ويتعد حدوده، يدخله نارا خالدا فيها، وله عذاب مهين" سورة النساء الآية/14، وقال تعالى : "ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما، فسوف نصليه نارا، وكان ذلك على الله يسيرا" سورة النساء الآية/30 0 أما الأحاديث فهى كثيرة، مثل : " دخلت امرأة النار فى هرة حبستها، فلا هى أطعمتها، ولا هى تركتها تأكل من خشاش الأرض" متفق عليه0
وهؤلاء العصاة ماتوا على التوحيد، ولذلك سيخرجون يوما من النار، فبعد أن يمكثوا ما شاء الله لهم أن يمكثوا، يشفع فيهم من أذن الله بشفاعته من الملائكة أو الأنبياء أو الصالحين، أو يخرجون من النار بفضل الله ورحمته، فقد صح عن الله عز وجل فى الحديث القدسى : "بقيت شفاعتى، فيخرج من النار قوما قد امتحشوا.. أى أحرقوا".. هذا موقف أهل السنة، والذى جاء وسطاً بين مواقف الغلاة من غيرهم، كما جاءت أمة محمد r أمة وسطاً بين الأمم وأهل الأديان .. أما موقف الخوارج والمعتزلة فقد جاء متشدداً، يحمل روح اليأس من رحمة الله وفضله، وسد باب الرحمة دون التائبين من العصاة أو المذنبين الغافلين من أمة محمد، ودائرة الرحمة أوسع وأرحب من ظنهم، فالمعاصى لا تخرج المسلم من دائرة الإيمان إن اجتنب الشرك والكفر، قال تعالى : "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.." سورة النساء الآية/116 0
فمن حيث الحكم ذهب أهل السنة إلى أن من مات من غير توبة، فهو متروك للمشيئة الإلهية، إن شاء الله عفا عنه بفضله ومنِّه وكرمه، وببركة ما معه من الإيمان والحسنات، أو بشفاعة بعض الأخيار، وإن شاء الله عذبه بقدر ذنبه، ثم مآله إلى الجنة ولا يخلد فى النار0 ومشيئة الله – كما يقول القشيرى – إخراج أهل التوحيد من النار، ليكون شقاؤهم غير مؤبد0 ويبدو أن النزاعات السياسية والخلافات المذهبية، جعلت كل فريق يتمسك برأيه، وكذلك خلافهم فى فهم وتأويل النصوص القرآنية والأخبار النبوية، والحق أن بعض الفرق استقبلوا النص بآراء مسبقة وهوى، أو نقص فى أدوات التفسير والفهم، وبنظرة قاصرة جزئية، تأخذ ما تريد وتدع ما لا تريد، أما أهل السنة فقد نظروا للنصوص ككل، وكانت العبرة عندهم بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فى اعتدال جمع بين العقل والنقل، وإيمان بأن القرآن لا يتعارض ولا يختلف ولا يتناقض، وفهم للسنة رواية ودراية، فكان من الصعب أن يتطرفوا أو يجنحوا، فاتسموا بوضوح المنهج وسلامة التطبيق وتكامل النظر0
وينبغى الآن بسط بعض الحقائق الثابتة، والتى يجب الاتفاق عليها لفهم قضية الشفاعة، وأول هذه الحقائق هى أن سعادة الإنسان فى الدنيا والآخرة، موقوفة على إيمانه وعمله، لا على الاتكال على غيره، قال تعالى :"من عمل صالحا من ذكر أو أنـثى، وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون" النحل الآية/97 ، ويقول تعالى : "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" البقرة الآية/286، ويقول تعالى : "من عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها، وما ربك بظلام للعبيد" فصلت الآية/46 0 والأمر الثانى : أن العبرة بالحقائق والمضامين لا بالشعارات والعناوين، فليس كل من ادعى الإيمان مؤمنا، قال تعالى : "قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا، ولما يدخل الإيمان فى قلوبكم.." الحجرات الآية/14 0 والأمر الثالث : هو أن الله يوم القيامة، هو مالك الملك، المتصرف فى كل شئ : " مالك يوم الدين" ويقول تعالى : "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار" غافر الآية/16 0 وبالتالى لا شفاعة لأحد إلا من بعد إذنه ورضاه، يقول تعالى : "من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه" البقرة الآية/255، ويقول : "ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له" سبأ الآية/23 0 والأمر الرابع : هو أن شعار ذلك اليوم هو العدل المطلق، فلا ظلم ولا محسوبية ولا محاباة لأحد، وكل إنسان موفى حسابه على الوجه الأكمل "ومن يعمل من الصالحات، وهو مؤمن، فلا يخاف ظلما ولا هضما" طه الآية/112، وقال تعالى : "ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى" الأنعام الآية/164 0 الأمر الخامس : أن ما شاع حول قضية الشفاعة بين الناس أوهام لا أساس لها، فأصحاب الكبائر والفجار والظلمة، وآكلوا أموال اليتامى وأموال الناس بغير حق، ومنتهكوا الأعراض والحرمات، وغاصبوا حقوق البشر اتكالا واعتمادا على الشفاعة واهمون، ولا شفاعة لهم وهم أشبه بالمشركين والنصارى واليهود فى ظنهم أن يغفر الله لهم أو يشفع لهم0 ولا شفاعة إلا لمن تاب وآمن وعمل صالحا وعبد الله بين الخوف والرجاء "يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه" الزمر الآية /9 0 الأمر السادس : هو أن القرآن ذكر نوعين من الشفاعة نفى، واحدة وأثبت الأخرى، أما الشفاعة المنفية فهى الشركية التى يعتقدها الوثنيون قال تعالى : "ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله" يونس الآية/118 ، وكذلك ما يظنه اليهود والنصارى فى أحبارهم ورهبانهم، قال تعالى : "وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه، قل فلم يعذبكم بذنوبكم، بل أنتم بشر ممن خلق" المائدة الآية/18.. وقد نفى هذا النوع من الشفاعة الحق تعالى بإطلاق، فقال : "واتقوا يوما، لا تجزى نفس عن نفس شيئا، ولا يقبل منها شفاعة" البقرة الآية/48 0 أما الأمر السابع : فهو بيان أن السنة مبينة للقرآن، ولا يجوز رد السنة اكتفاءاً بالقرآن، كما لا يجوز قبول السنة المناقضة للقرآن، لأن البيان لا يناقض المبين، إنما يوضحه ويبين المراد منه، بتخصيص عامه أو تقييد مطلقه، أو تفسير مبهمه، أو تفصيل مجمله0 قال تعالى : "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم، ولعلهم يتفكرون" النحل الآية/44 0 وقال تعالى: "من يطع الرسول فقد أطاع الله " النساء الآية/80، وقال تعالى : "فليحذ الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم" النور الآية/63 0
والشفاعة التى ثبتت بالنصوص المحكمة فى الآخرة نوعان : الأولى : الشفاعة العظمى لإراحة الخلق يوم القيامة من هول الموقف، وهذه جعلها الله لخاتم رسله، وصفوة خلقه محمد r، ولا خلاف عليها بين المسلمين0 والثانية : الشفاعة للعصاة والمذنبين من أهل التوحيد، الذين ماتوا على الإيمان، ولكنهم اقترفوا بعض الكبائر فى الدنيا، ولم يتوبوا منها، وهذه الشفاعة جعلها الله تعالى للملائكة والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين0 وهى التى نازع فيها المعتزلة، وردوا ما صح فيها من أحاديث، وأولوا ما جاء فيها من آيات بأنها للطائعين والتائبين : زيادة فى المثوبات، ورفع للدرجات !
وقد صحت الأحاديث وتواترت بالشفاعة العظمى عن عدد كبير من الصحابة، كأبى هريرة وحذيفة بن اليمان، وأبى بكر وسلمان الفارسى، وأنس بن مالك وأبى بن كعب، وبريدة وعبد الله بن مسعود، وكعب بن مالك وأبى الدرداء، وغيرهم... وهى المقام المحمود التى ورد الإشارة به فى القرآن إجمالا : "ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا" الإسراء الآية/79 0
أما الشفاعة للمذنبين من المؤمنين، فهى الأخرى ثابتة بالكتاب والسنة، وهم أصحاب الكبائر، ولأهل السنة حججهم البينة فى الرد على شبهات الخوارج والمعتزلة، من جهة العقل والنقل0 فالعقل يجيز للسيد العفو عن عبده، إن شاء فضلا وتكرما منه، كما لا يجيز التسوية بين من لم يعترف بالسلطان، ومن أساء مجرد إساءة من رعيته، وهو له مطيع، أما النقل فالآيات القرآنية والأحاديث النبوية المثبتة للشفاعة كثيرة، بضوابطها وقيودها، ولكن المعتزلة ردوا الأحاديث الصحيحة الثبوت الصريحة الدلالة، وأولوا الآيات بأن المراد بالشفاعة : زيادة المثوبات ورفع الدرجات للمطيعين والتائبين0 وهو تكلف مخالف للمتبادر فهمه من النصوص0 فالله هو المالك المتصرف فى كل شئ يوم القيامة، وهو الذى يأذن بالشفاعة لمن يشاء، ويمنعها ممن يشاء، قال تعالى : "... قل لله الشفاعة جميعا، له ملك السموات والأرض، ثم إليه ترجعون" الزمر الآية/43، 44 ، وقال تعالى : "ما من شفيع إلا من بعد إذنه" يونس الآية/3، أما المشفوع لهم فهم أهل التوحيد، أما من لا تنفعهم الشفاعة فهم المشركون، حيث يقولون يوم القيامة : "فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا" الأعراف الآية/53 0
ومن ينكر الشفاعة للعصاة ينكرها لأنها تنافى العدل الإلهى، من وجهة نظره، وهو إنكار مرفوض وتفكير قاصر؛ لأنه يحكم العقل فى قضية الإيمان والغيب، وعلماء العقيدة جعلوا قضية الإلهيات من العقليات، والإيمانيات من السمعيات، أى عن طريق الوحى، فأنت لا تؤمن حتى تنظر بعقلك، وتتأمل فى الحجج والأدلة والبراهين، ثم بعد إيمانك عليك التسليم بما أنزل من الله على لسان الوحى، وليس لك أن تناقش قضايا الغيب، كما أن العقل قد يعجز عن إدراك الحكمة من الشفاعة، رغم ظهورها وكونها فضلا ورحمة ولطفا من الله، ولذلك نجد الملائكة تسلم بالأمر، وإن عجزت عن إدراك الحكمة منه : " قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" البقرة الآية/32 0
والحقيقة أن موقف أهل السنة من الشفاعة قوى جداً، فقد قال r: "أخرت دعوى شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى" متفق عليه، ويقول عز من قائل: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا" سورة النساء الآية/41، فالرسول هو الشهيد وهو الشفيع، وهو يشهد بما يبقى للشفاعة موضعها0
ويذكر الأشعرى إجماع أهل السنة على شفاعة المصطفى فى أهل الكبائر من أمته، وأنه يخرج من النار أقواما من النار بعدما صاروا حمما، فيطرحون فى نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة فى حميل السيل، وهو موقف يحمل روح التفاؤل والأمل، فقوم أدركتهم الشفاعة قبل دخول النار، وآخرون يخرجون منها بالشفاعة، حتى لا يبقى فيها موحد يشهد بالتوحيد0وربما أثر موقف المعتزلة من قضية التحسين والتقبيح العقليين فى الشفاعة، فإثابة من يستحق العقوبة قبيح عقلا، والشفاعة فى الكبيرة لا تجوز عندهم، والشفاعة لمن وجبت النار عليه قدح فى الشفيع، لرجائه العفو، وإثابة مستحق العقاب قبيح من طريق العقل0
أما النقل فقد استدل المعتزلة بقوله تعالى : "واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا" البقرة الآية/48، وقوله تعالى : "ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع" غافر الآية/18، فذهبوا إلى أن الله ينفى أن يكون للظالمين شفيع البتة، فكيف يشفع فيهم النبى r؟... ولو جاز ذلك لكان سفها، فى زعمهم، لأن العقوبة تستحق على طريق الدوام بالنص، فكيف يخرج الفاسق من النار بشفاعة النبى r؟!
ولقد ردت المعتزلة حديث رسول الله r، بادعاء أنه خبر آحاد لا يفيد القطع من حيث الثبوت، وهى دعوى غير صحيحة، فقد رواه أكثر أهل السنة من المحدثين، عن جمع غفير من الصحابة، ثم إذا كانت الشفاعة على تأويلهم الغريب للمطيعين والتائبين، ليزيدهم الله من فضله ومثوبته، فذلك يسمى إعانة وليس شفاعة، والشفاعة طلب التجاوز والعفو، وفى صرفها عن هذا المعنى تحريف للتعريف، وتعسف لا فائدة فيه0
كما أن الزيادة مقررة بلا شفاعة، فلا وجه للشفاعة إذن، وإذا كان الثواب هو على سبيل الاستحقاق والعوض وجوباً، فمن الذى قال بأنه يجب فى أعلى الدرجات؟! وما الذى يقابل الزيادة من العمل، لتكون استحقاقا لا منة، والثابت عند المعتزلة أن المنة تنغص النعمة، والجنة دار نعيم لا تنغيص فيها؟!
لقد نظر المعتزلة للشفاعة من جهة العدل، وأوجبوا على الله الوعد والوعيد، ولم ينظروا إليها من جهة الفضل، رغم أن صاحب العدل هو صاحب الفضل، واستولت على فكرهم مفاهيم لا يليق إطلاقها على الله عز وجل، كالوجوب والاستحقاق والعوض، ومن ذا الذى يفرض ويوجب ويلزم الإرادة والقدرة والذات والمشيئة الإلهية؟!.. وحملت آراؤهم غير قليل من التشاؤم واليأس من روح الله، وهو أخلاقيا مرفوض، وتشدد وتطرف منبوذ، على عكس أهل السنة حمل فكرهم روحا تشع تفاؤلا وتسامحا، وصدق من قال : المنكرون للشفاعة يحرمون الشفاعة!0

المـصــــــادر

أولا : القرآن الكريم0
ثانيا : كتب السنـة0
ثالثا : مصادر أخرى0
- الإرشاد، للجوينى، ص 330 0
- الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، للبيهقى، ص 88 0
- الانتصار، للخياط، ص 104 0
- التبصير فى الدين، للاسفرائينى، ص 26 0
- التمهيد لقواعد التوحيد، لأبى المعين النسفى، ص 356 و 374 0
- التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، للملطى، ص 139 0
- رسالة أهل الثغر، للأشعرى، ص 288 0
- شرح الأصول الخمسة، للقاضى عبد الجبار المعتزلى، ص 689، و691 وما بعدها، و701 وما بعدها0
- شرح العقائد النسفية، للتفتازانى، 1 /169 0
- عقيدة السلف وأصحاب الحديث، للصابونى، 1/127 0
- الفرق بين الفرق، للبغدادى، ص 348 0
- الفصل فى الملل والأهواء والنحل، 4/111 وما بعدها0
- لطائف الإشارات، للقشيرى، 1/236، و410، 3/82، 440 0
- اللمع، للقشيرى، ص 32 0
- مقالات الإسلاميين، للأشعرى، 2/147، 148 0
- الملل والنحل، للشهرستانى، 1/55، و154 0
- نهاية الإقدام، للشهرستانى، ص 470 0
د/ إمام حنفى سيد عبد الله
iimaamm_001@yahoo.com
0171942755

ليست هناك تعليقات: