الأربعاء، 25 مايو 2011

مقومات الرؤية الإسلامية كإطار مرجعي لعمل الإدارة التربوية الساعية للجودة الشاملة


مقدمــة.
- أولاً : نظرة الإسلام إلى "الألوهية".
- ثانياً : نظرة الإسلام إلي الكون.
- ثالثاً : نظرة الإسلام إلى الإنسان.
- رابعاً : نظرة الإسلام إلى "المعرفة والعلم".
- خامساً : نظرة الإسلام إلي الأخلاق .
- سادساً : نظرة الإسلام إلى المجتمع.
- خلاصـة.







الفصل الرابع

مقومات الرؤية الإسلامية كإطار مرجعي لعمل الإدارة التربوية الساعية

للجودة الشاملة

مقدمــة :
اتضح من الفصل السابق أن فلسفة إدارة الجودة الشاملة الغربية تُجسد معالم الثقافة التي نشأت فيها،حيث تأتي منسجمة مع التصورات الكبرى التي تقوم عليها تلك الثقافة،أي متوافقة مع المُناخ المجتمعي العام الذي تعمل فيه،ولذلك تؤتي ثمارها المرجوة في الأداء العملي من ناحية وفي تدعيم وترسيخ الثقافة نفسها من ناحية أخرى وعندما يأتي تطبيق فلسفةTQMفي غير مجتمعاتها وثقافتها،فإن الأمر لابد وأن يؤخذ بدرجة من الحذر والتريث ذلك لاختلاف الأطر الثقافية،وإذا كانت تلك المجتمعات التي يراد تطبيقTQMفيها هي المجتمعات العربية والإسلامية فإن الحذر يكون أكبر،ذلك لتميز المجتمعات الإسلامية بخصائص نوعية وأطر قيمية تختلف لحد كبير مع الثقافة الغربية.
إن العمل الإداري التربوي في المجتمع الإسلامي،لابد وأن يكون ذا مواصفات خاصة، تقوم على عقيدة الإسلام أساساً،وعلى العقلية الإسلامية الحرة بناءً،بحيث تصبح تلك الإدارة التربوية،إدارة إسلامية لمجتمع إسلامي لإعادة بناء الحياة إسلامياً،لتحقيق غايات ومقاصد الإسلام في النفس والمجتمع والكون كله.
وعندما يتفق الاعتقاد مع السلوك يأتي السلوك على شاكلته الصحيحة، ذلك لأن السلوك الإداري كغيره من أنواع السلوك صادر عن اعتقاد،"والفرق بين اعتقاد وأخر حدوث سلوكين مختلفين"([1])،أي أنّ السلوك الإداري الإسلامي له خصائصه المميزة عن غيره من أنواع السلوك الإداري.يقول"عماد الدين خليل" لقد بُنيت هذه العقيدة-الإسلامية–على حشد من القيم التصورية...تلتئم وتتداخل وتتكامل لكي تُشكل نسقاً عقيدياً،ما بلغت عشر معشاره أية عقيدة أخرى في العالم وضعية كانت أم دينية...وكما أن هذا النسق المحكم يمثل تطابقاً باهراً مع معطيات الفطرة البشرية في أصولها النقية الحرة...فإنه يمثل في الوقت نفسه تطابقاً مذهلاً مع معطيات العقل المحضة وتطلعاته وآفاقه. ([2])
ويؤكد "أحمد المهدي" أنَّ نجاح نظام التعليم يرتهن باتساقه مع ثقافة الأمة وهويتها الذاتية التي هي الهوية العربية الإسلامية…هذه الثقافة العربية الإسلامية قادرة على استيعاب كل جديد واقتباس كل مفيد،واستمرار الأخذ والعطاء الإبداعي من العالم وإليه،دون انغلاق أو تقليد غير رشيد.([3])
وبهذا فإن توضيح أسس إدارة الجودة الشاملة–الرؤية الإسلامية،لا يأتي إلا بعد توضيح مقومات وخصائص هذه الرؤية، وذلك لأن التصور هو الأصل الذي ينشأ عنه السلوك فينحرف بانحرافه أو يستقيم، وذلك أيضاً لأن كل الأنظمة الحياتية بما فيها الأنظمة التربوية الإسلامية ، إنما هي فروع تصدر عن ذلك التصور الكلي، ولا تفهم بدونه فهما صحيحاً عميقاً ومن ثم يأتي هذا الفصل ليحدد معالم بعض مقومات التصور الإسلامي التي تستند إليها الرؤية الإسلامية في العمل الإداري، وما تفرضه من متطلبات في البناء الإداري الإسلامي.
أولاً : نظرة الإسلام إلى "الألوهية" :
"أله" الهمزة واللام والهاء أصل واحد،وهو التعبُّد.فالإله الله تعالى،وسمِّى بذلك لأنه معبود،ويقال تألَّه الرجل:إذا تعبّد([4])،ويقال فلان يتألهُ:يتَعَبدُّ،وهو عابدُ مُتألِّهُ،والألوهية هي العبادة. ([5])
وقضية "الألوهية"هي محور ارتكاز الحياة البشرية كلها،لا يقوم لها بناء،ولا تستقيم لها حياة إلا إذا استقامت هذه القضية في نفوس الناس. ورسخت في ضمائرهم وصارت هي الأساس الذي يقوم عليه كل البناء…لذلك لم يكن مصادفة ولا اعتباطاً،أن أنفق القرآن ثلاث عشرة سنة كاملة في تقرير قضية واحدة أصيلة هي قضية الألوهية..وقضية الاعتقاد.([6])
وفي ذلك يقول "صاحب الظلال":أن القرآن المكي لم يتجاوز هذه القضية الأساسية إلى شيء مما تقوم عليها من التعريفات المتعلقة بنظام الحياة، إلا بعد أن علم الله –علام الغيوب– أنها استوقفت ما تستحقه من البيان،وأنها استقرت استقراراً مكيناً ثابتاً في قلوب العصبة المختارة من بني الإنسان ، وذلك لأن الإسلام يقوم كله على قاعدة الألوهية الواحدة..كل تنظيماته وكل تشريعاته تنبثق من هذا الأصل الكبير.([7])
والمنهج القرآني يزحم الشعور الإنساني بحقيقة الألوهية ويأخذ على النفس أقطارها جميعاً بهذه الحقيقة وهو يتحدث عن ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته وآثار قدرته وإبداعه فتتمثل في الضمير البشري تلك الحقيقة،حقيقة الذات الخالقة لكل شيء.([8])
والله تعالى يشهد لنفسه بالألوهية،وكذلك يشهد له الملائكة وأولوا العلم بالألوهية،قال الله تعالى:]شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[(آل عمران:18)،ويقرر الله تعالى هذه الحقيقة لنبيه موسىu))،قال تعالى:]ِإنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي[(طـه:14)،ولنبينا محمد(r)،قال تعالى:]فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ[(محمد:19)،ويخبر الله عن نفسه بذلك فيقول:]هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ*هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ[(الحشر:22-23)،ويخبرها رسله عليهم الصلاة والسلام لأقوامهم،ويدعونهم إلى الاعتراف بها،وإلى عبادته تعالى وحده دون سواه،من ذلك:قول نوح لقومه:]يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ[(الأعراف:59) ومثل نوح،هود وصالح وشعيب ما منهم أحد إلا قال:]يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ[،وقول موسى لبني إسرائيل:]قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ[(الأعراف:140)،وقول يونس في بطن الحوت:]لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [(الأنبياء:87).([9])
والدعوة إلى الاعتقاد بوجود الله وألوهيته لم يكن مصدرها فقط الكتب المنزلة التي جاء بها الرُسل.حيث لابد أن يأتي الاعتقاد من مصادر "محايدة"،فكيف يعتقد الناس بالرسل قبل الاعتقاد بوجود الله،وفي هذا يقول "محمد عبده":"لقد اتفق المسلمون-إلا قليلاً ممن لا يعتد برأيه فيهم – على أن الاعتقاد بالله مقدم على الاعتقاد بالنبوءات،وأنه لا يمكن الإيمان بالرسل إلا بعد الإيمان بالله…فلا يعقل أن تؤمن بكتاب أنزله الله إلا إذا صدقت قبل ذلك بوجود الله وبأنه يجوز أن ينزل كتاباً ويرسل رسولاً".([10])
لذلك كانت الفطرة البشرية مطبوعة على الإيمان،وكان العقل جواباً لرحاب الكون،وما فيه من تدبير ونظام،ولخلق الإنسان وما فيه من إعجاز وإتقان باحثاً عن اليد الفاعلة المدبرة الخالقة لهذا النظام.
والفطرة البشرية بها حاجة ذاتية إلى التدين وإلى الاعتقاد بإله،بل إنها حين تصح وتستقيم تجد في أعماقها اتجاهاً إلى إله واحد،وإحساساً قوياً بوجود هذا الإله الواحد([11])،والإنسان- حق لا يقبل المراء- يجب أن يؤمن ولا يستقر في وسط هذه العوالم بغير إيمان([12])،والعقل مزود بأدوات البحث والتنقيب،ومجهز بوسائل الإدراك والتمييز والاختيار.
لذلك كانت الدعوة إلى الاعتقاد بوجود الله وألوهيته، لم يعول فيها إلا على تنبيه العقل البشري وتوجيهه إلى النظر في الكون واستعمال القياس الصحيح،والرجوع إلى ما حواه الكون والترتيب وتعاقد الأسباب والمسببات ليصل بذلك إلى أن الكون له صانع واجب الوجود،عالم حكيم قادر،وأن ذلك الصانع واحد، لوحدة النظام في الأكوان.([13])
إن المنهج القرآني يتحدث عن وجود الله سبحانه وتعالى وقدرته وآثار هذه القدرة في صفحات الكون والحياة عامة،باعتبارها معرض لدلالة الصنعة على الصانع،حيث يخاطب القرآن الوجدان البشري بعظمة الصنعة الإلهية وجمالها وكمالها وتناسقها في هذا الوجود المشهود، قال الله تعالى:]أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ *وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ*تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ*وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ*وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ*رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ[(قّ:6-11).
وعلى هذا النحو يعرض المنهج القرآني حقيقة الألوهية متجلية في الحياة الإنسانية وأطوارها ووقائعها وكل أحداثها،قال الله تعالى: ]وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ*ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ*ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ*ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ[(المؤمنون:12-16)،واختلاف ألسنة الناس وألوانهم،وما بينهم من التفاوت في العقول والفهوم والسعادة والشقاوة،وما في تركيبهم من الحكم في وضع كل عضو من أعضائهم في المحل الذي هو محتاج إليه فيه"([14]) ،قال الله تعالى:]وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [(الذريات:21).
وبالنظر في الكون والإنسان استطاع العقل البشري بما فيه من فطرة وحاجة تدفعه إلى التدين أن يصل إلى الاعتقاد بوجود إله،فمثلاً وصل قدماء المصريين إلى التوحيد،ولكن الناس منذ القدم تختلط رؤيتهم لصفات الله وأفعاله وكيفيات أفعاله وكيفيات تعلق مشيئته بالحوادث بالأباطيل والخرافات.([15])
لذلك كان التركيز في المنهج القرآني ليس مُنصباً على إثبات الوجود الإلهي،ولكنه منصب على وصف هذا الوجود بصفته الحقيقية وتعريفه بحقيقته للناس،وتصحيح ما علق به في تصوراتهم من انحرافات وتشويهات وأوهام وأضاليل. ([16])
إن المنهج القرآني يركز ابتداءً على التوحيد،وأن الله ذات واحدة متفردة لا نظير لها ولا شبيه،قال الله تعالى:]قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ*اللَّهُ الصَّمَدُ*لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ[ (الإخلاص)،فذات الله ذات واحدة لا تتبعض ولا تندمج معها ذوات أخرى ولا تلتبس بها في صورة من صور الاندماج والتلبس،قال الله تعالى:]لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ[(الأنبياء:22).([17])
وكما أن الله هو"الإله"وحده،فهو وحده"الحي"الذي لا يدركه فناء ولا نوم،قال الله تعالى:]وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ[(الفرقان: 58)،وهو"العالم"وحده وإليه وحده العلم المطلق،قال الله تعالى:]عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً[(الجـن:26) وهو وحده القادر القاهر فوق عباده، الفعال لما يريد المطلق المشيئة بلا حدود ولا قيود،قال تعالى:]قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[(آل عمران: 47)،وهو وحده الرازق الكافل المتفرد بالرزق والكفالة،قال الله تعالى:]قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّه[(سـبأ: 24)([18]).
وما دام الله متفرداً بالألوهية وبالقوامة، فإن هناك عدة مقتضيات –مستلزمات– للإقرار العملي بهذه الحقيقة، تحقيقاً يترجم مظاهر الاعتقاد الصحيح بها إلى واقع حياتي شامل،ومنها:
· الاعتقاد الراسخ بأن الله واحد متفرد في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله لا شريك له في شيء من ذلك([19])،وأن يُثبتوا–المؤمنون–لله ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات،وينفوا عنه ما نفاه عن نفسه من مماثلة المخلوقات، فيخلصوا من التعطيل والتمثيل، ويكونوا في إثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل.([20])
· الإقرار بالعبودية لله وحده دون شريك، وألا يتخذ الناس بعضهم بعضاً من دون الله أرباباً لا نبياً ولا رسولاً، فكلهم عبيد لله([21])،قال الله تعالى:]قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ[(آل عمران:64)،وأن يُعبد الله بما أمر وشرع لا بغير ذلك من الأهواء والبدع، وذلك جماع الدين كما يقول "ابن تيمية":جماع الدين أصلان:أن لا يُعبد إلا الله،وأن لا يُعبد إلا بما شرع،لا يُعبد بالبدع. ([22])
· أن تشمل العبادة لله كل شاردة وواردة في حياة الإنسان وكل حركة وساكنه،قال الله تعالى ]قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[(الأنعام:162)،وأن يكون كل عمل يعمله الإنسان خالصاً فيه الوجهة والنية لله تعالى،قال تعالى:]الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً[(الملك: 2)،حيث سئل "الفضيل بن عياض"عن "أحسن العمل" فقال:أخلصه وأصوبه،فأما أخلصه:هو أن يكون لله وحده دون شريك،وأصوبه:أن يكون موافقاً لشرع الله وسنّة رسوله،وأن افتقاد أحد الشرطين دليل على عدم قبول الله العمل.([23])
· أن تحقيق العبودية لله وحده لا تكون كما أرادها الله إلا أن ترتفع راية:"لا إله إلا الله" كما كان يدركها العربي العارف بمدلولات لغته:لا حاكمية إلا لله،ولا شريعة إلا من الله،ولا سلطان لأحد على أحد، لأن السلطان كله لله([24])،فالله وحده خالق الكون وحاكمه الأعلى،وأن السلطة العليا المطلقة له وحده،وأن طاعة الله طاعة مطلقة تعد حقيقة أساسية لا يحق للإنسان أن يتخذ أسلوباً للعمل سواها([25])،وذلك لأن هذا الدين ليس عقيدة فقط،ولكنه عقيدة وشريعة–نظام– وليس دينا فحسب ولكنه دين ودولة.([26])
· أن يبحث الإنسان عن وجود الله في نفسه وفي آفاق الكون،حتى يتأله الله عن يقين صادق لا عن تقليد ومحاكاة،وفي ذلك يقول "محمد الغزالي" هناك من يؤمن بالله عن تقليد،ما أعمل فكراً ولا أدار بصراً–ما قيمة هذا الإيمان ؟ البعض رفضه،ولم يمنحه قيمة والبعض قبله على إغماض ولم يُعدَّ صاحبه كافراً.([27])
ويترتب على استقرار حقيقة الألوهية في أغوار النفس البشرية، والقيام بمقتضياتها وخصائصها الفاعلة في النفس والمجتمع العديد من الآثار أبرزها :
· أن رؤية حقيقة "الألوهية" في صورتها الكاملة الجميلة المريحة التي يجلوها المنهج القرآني ينشئ في القلب طمأنينة وأنساً وثقة بالله،كما ينشئ وضوحاً في الاتجاه واستقامة في المنهج،وتنقذ النفس من الحيرة بين شتى الآلهة والأرباب([28])،فيحقق ذلك للمسلم الشعور بالأمن والاستقرار،فالأمن هو جوهر الإيمان وأحد معانيه.([29])
· أن توحيد الألوهية يحرر الإنسان من كل خوف أو قلق،ويمنع عنه العبودية أو الانقياد والخضوع المذل لأحد من أهل الأرض ، وما ينشئه هذا التحرر من العزة والكرامة والرفعة([30])،ومن الطلاقة في التفكير والتعبير،والعمل والسعي الدءوب في الأرض،ومنه تأتي مرحلة الإبداع والبناء الحضاري.([31])
· أن الإنسان الذي يمتلئ حسه وضميره وقلبه وعقله وكينونته كلها بحقيقة الألوهية يصبح قوة فاعلة في هذا الكون،ويصبح ذا دور إيجابي في تحقيق غاية وجوده الإنساني،إن الإيمان بحقيقة الألوهية يجيء دائماً بمثابة"معامل حضاري" يمتد أفقياً لكي يصب إرادة الجماعة المؤمنة على معطيات الزمن والتراب،ويوجهها في مسالكها الصحيحة ويجعلها تنسجم في علاقاتها وارتباطاتها مع حركة الكون والطبيعة ونواميسها،فيزيدها عطاء" وقوة وإيجابية وتناسقاً،كما يمتد عمودياً في أعماق الإنسان ليبعث فيه الإحساس الدائم بالمسئولية ويقظة الضمير،ويدفعه إلى سياق زمني لا مثيل له لاستغلال الفرصة التي أتيحت له كي يفجر طاقاته،ويعبر عن قدراته التي منحه الله إياها على طريق "القيم" التي يؤمن بها والأهداف التي يسعى لبلوغها.([32])
· أن حقيقة "الألوهية" في هذه الصورة الناصعة المستقيمة الدقيقة لذات أثر قوى في تقويم العقل البشري وإنقاذه من ركام الأوهام والخرافات التي راكمتها شتى الوثنيات وإنقاذه كذلك من شتى التخبطات التي ضلت فيها الفلسفات...إن القرآن وهو يصحح صورة الألوهية في عقول البشر،كان يصحح في الوقت ذاته منهج التفكير العقلي بجملته،ويعلم الإنسان كيف يفكر تفكيراً صحيحاً، فيعتمد على عقله فيما هو من شئون هذا العقل ويستصحب دليل الوحي فيما وراء ذلك ليهتدي العقل بهذا الدليل القطعي،ولا يعتمد على الظن في قضية كبرى كهذه القضية.لذلك فالإسلام يصون الطاقة العقلية أن تتبدد وراء الغيبيات التي لا سبيل للعقل البشري أن يحكم فيها.([33])
· أن توحيد الألوهية يؤدي إلى تحقيق الوحدة والتماسك على مستوى الجماعة والمجتمع لأن توحيد الألوهية هو التزام في الوقت ذاته بتوحيد الوجهة ، فالمجتمع الذي يدين بالطاعة والعبودية لوجهة واحدة خالصة لا مجال فيه لتنازع الأهواء والرغبات،بل يصبح مجاله التآزر والوحدة في الكلمة والعمل . ويؤدي ذلك التوحيد أيضاً إلى إسقاط كل الانتماءات عن كاهل الإنسان غير انتمائه إلى ربه ودينه ، ويصبح ولاؤه ليس إلى أشخاص أو مؤسسات أو أحزاب ولكن انتماءه لله ودينه وما يتطلبه ذلك الانتماء من تبعات.([34])
· أن توحيد الألوهية يؤدي إلى تحقيق التكامل والشمول في تناول الظواهر البشرية والطبيعية،لأنها كلها صادرة عن إله واحد،فطبقاً لمفهوم التوحيد الذي يعني في أحد معانيه الوحدة والدمج،فلا سطوة للماديات على الروحانيات،أو للغيب على الواقع،أو للنظري على العملي،أو للديني على الدنيوي أو بالعكس،ذلك لأن الخالق المدبر للأمر كله واحد.([35])ويستتبع ذلك إلغاء الحواجز بين العلم والإيمان وبين العلم والعمل،والحواجز التي تفصل بين العلوم على اختلاف مشاربها ويؤدي إلى الترابط بين العلوم والمعارف استناداً إلى وحدة الواقع والمعرفة،ووحدة العالم ووحدة الطبيعة،والتي تدل جميعها على وحدانية الله.([36])
· أن توحيد الألوهية يعني وجود معيار مستقل عن البشر يؤمنون بصدقه وصلاحيته غير خاضع للزمان أو المكان مستقلاً عن الواقع بكل أبعاده سواءً البشرية أو الطبيعة،ذلك أن الحق في ظل حقيقة التوحيد واحد لا يتغير ولا يخضع للمصلحة،وإنما تحدده الشريعة الحاكمة النابعة من حقيقة التوحيد، أما في ظل غياب المعيار الإلهي تخضع الأمور للنسبية المطلقة،حين يرى كل إنسان أو كل مجتمع الحق قياساً على مصلحته.([37])
· أن القيم الأخلاقية في الإسلام تستمد من هذه الحقيقة الكبرى –الألوهية– إلزامها وإيجابيتها وفاعليتها:إلزامها لضمير الفرد اعتقاداً ولسلوكه عملاً–كما يحبه الله ويرضاه– كما تستمد ثباتها وعدم خضوعها لأية تصورات أو مقولات غير ربانية..ولهذا وذاك قيمته الإيجابية الكبرى في فاعليتها في واقع الحياة.([38])
ومن ثم كان هذا الإيمان–بالألوهية والربوبية–"مدرسة خُلقية وتربية نفسية تُملى على صاحبها الفضائل الخلقية وتملى عليه قوة الإرادة وسلامة النفس عند تطبيق تلك الفضائل ومحاسبة النفس والإنصاف منها إن قصّرت فيها.ولذلك كان الإيمان أقوى وازع عرفه تاريخ الأخلاق وعلم النفس عن الزلات الخلقية والسقطات البشرية.([39])
واستقرار حقيقة الألوهية في ضمائر أبناء الشعوب الإسلامية وفي فجاج عقولهم لهو المحك الذي يقاس عليه مدى قدرتهم على انتشال أمتهم من الوهن الحضاري القائم وإعادة سريان الروح في شريان حضارتهم وفي مجال العمل في إدارة وتسيير مؤسسات التعليم فإن استقرار حقيقة الألوهية في نفس الإدارة والمعلمين والطلاب، يدفعهم إلى :
- إخلاص العمل لله تعالى،وما ينشئه هذا الإخلاص من قوة دافعة تحث على الإنجاز المبدع والعمل المتقن .
- دوام مراقبة الله في السر والعلانية،وتعميق دور الرقابة الذاتية في أداء الأعمال والقيام بالمسئوليات.
- تحمل المسئولية الفردية والجماعية عن أداء العمل وما يتطلبه ذلك من التعاون والمشاركة مع الآخرين وأداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تساهم في تصحيح ومنع الأخطاء.
- مقايسة ومعايرة كل سلوك يصدر عنهم على ضوء الشريعة الإسلامية، بحيث تصبح الحاكمية المطلقة لله، وفي الوقت ذاته بناء معايير لكل عمل أو أداء تقيس مستوى جودته بحيث لا تُعارض ثوابت الشريعة.
- ممارسة حرية الرأي والنصح والتوجيه، وتعميق أسس الشورى في العمل التعليمي دون رهبة من سلطان أو خوف من طغيان.
- إطلاق العنان للعقل البشري للبحث والتنقيب والإبداع، ذلك في منطقة عمله، والاسترشاد بالوحي كدليل قطعي فيما وراء ذلك حتى تصان الطاقة العقلية من التبدد.
- إزالة الحواجز بين العلم والإيمان والعمل،وبين العلوم المختلفة،وتعميق النظرة إلى وحدة المعرفة،والعمل على تحقيق التكامل والاندماج بين العلوم والمعارف المختلفة، وبين أدوار الوحدات الإدارية المتنوعة.
- المحافظة على البناء الأخلاقي للمجتمع التعليمي،وتفعيل أخلاقيات الدين التي تتفاعل مع بعضها وتتشابك لتحقق أخلاقية العمل والإدارة التعليمية.
- توحيد الانتماءات والولاءات المتباينة في انتماء وولاء واحد يكون لله وحده وما يستتبعه ذلك من تبعات الوحدة والتماسك،والسعي الدءوب لتحقيق صالح المجتمع التعليمي الذي يحقق مقصود الدين.
ثانياً : نظرة الإسلام إلي الكون :
الكون وما فيه من آيات الله الناطقة برهان من البراهين الساطعة التي تقول بأن هذا الكون له مدبر يدبر أمره،وإليه يرجع الأمر كله وهو علي كل شيء قدير.([40])
وهذا الكون–كما يقرر المنهج القرآني–كون مخلوق حادث،وليس بالقديم الأزلي،كما أنه لم ينشأ من ذات نفسه..لقد خلقه الله تعالي خلقاً،وأنشأه إنشاءً بعد أن لم يكن،سواءً في ذلك مادة بنائه الأساسية أو الصورة التي ظهرت فيها.ولم يشارك الله تعالي أحد في خلق هذا الكون ولا في خلق شيء منه.سواء في ذلك مادته أو صورته،إن الله هو الذي أعطي كل شيء خلقه وأعطي كل شيء صورته،وأعطي كل شيء وظيفته([41])،قال الله تعالي:]اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ[(الزمر:62)،وقال:]مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً[(الكهف:51).
وكما أن الكون مخلوق حادث،فهو أيضاً كون هالك فانٍ، فهو مخلوق لأجل مسمي،فإذا انتهي أجله هلك وذهب..هذا هو مصيره الأخير الذي ينص عليه قول الله تعالي:] كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه[(القصص:88)،وقوله:]مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً[(الروم:8). ([42])
والكون بين حدوثه وفنائه تشهد جميع مظاهره ومحتوياته تغير وحركة دائمة مستمرة حسب السنن والغاية المرسومة له من خالقه . فالعالم في صيرورة دائمة ، وليس هو بالعالم السكوني الجامد.فتيار التغير دافق سيال،خصوصاً فيما يتصل بالأوضاع الاجتماعية للإنسان([43])
والكون في التصور الإسلامي وحدة من غيب-غير محسوس-وشهود-محسوس-والكون المغيب هو الذي يسمي"عالم الغيب"،وهو عالم لا يدخل في حدود الكون المادي الذي يمكن أن تُدرك مكوناته بالحواس،ومن أمثلة هذا العالم:الروح،والملائكة،والملأ الأعلى.والكون المادي المحسوس يسمي"عالم الشهادة ".وهو عالم تشهده الحواس وتدركه العقول فتتجاوب مع ظواهره وتحاول اكتشاف([44])أسراره ومعالمه التي خفيت عنها بقدر رقيها واكتمال نضجها،ومن أمثلة هذا العالم:السماوات،والأرض،والجبال،والشمس،والقمر،والبح ار،والدواب والإنسان .
والعالم بهذا نوعان:عالم المادة،الواقع المادي المحسوس الذي يمكن إخضاعه حاضراً أو مستقبلاً للملاحظة والتجربة الحسية،وعالم الروح الذي هو عالم الخير والجمال والمثل العليا الذي يلوذ به الإنسان من وطأة الواقع المادي ليجد فيه أمنه النفسي وراحته النفسية وسعادته الحقيقية وغذاءه الروحي...والحياة الكاملة في الإسلام لا تتحقق إلا بالمادة والروح معاً.([45])
إن الحواس تتعامل مع الكون المادي-عالم الشهادة-تعاملاً كاملاً يشمل السمع والبصر وما يؤديان إليه من ملاحظة وقياس واستنباط وتجربة وتعلم واختراع واستغلال،والأفئدة التي تتعامل مع عالم الغيب،فتؤمن بالله وتتلقى عنه وتعمل بمقتضى وحيه...بلا تعارض ولا تنازع ولا شتات.([46])
أما العقل فتختلف وظيفته عند تعامله مع عالمي الغيب والشهادة،ففي حين لا يُترك للعقل أن يسبح فيما ليس للإنسان به علم من أحوال عالم الغيب،نظراً لعدم الفائدة المرجوة من الخوض في هذا العالم،قال الله تعالي:]وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً[(الإسراء:36)،تُترك للعقل الحرية الكاملة في أن يبحث في العالم المادي المشهود،ينقب عن أسراره ويبحث في أطواره سعياً لكشف المجهول منه،بهدف استثمار خيراته لتحقيق مهام الاستخلاف وعمارة الأرض([47])،قال الله تعالي:]قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ[(يونس: 101).
والكون بكل ما فيه من عناصر وأجزاء يسير في حركة حسب سنن ونواميس معينة دقيقة وحسب علاقات منتظمة تدل علي وحدة التدبير والنظام،وتجعل ملاحظها ومُدركها يشعر أنه أمام تناسق مطلق وجمال معجز وتدبير محير،لا يملك معه إلا التسليم بوحدة المدبر([48])،قال الله تعالي:]مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ[(الملك:3) وقال:]صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء[(النمل:88)،أي صنع الله الذي أحسن وأحكم كل شيء صنعاً.([49])
والكون لا يخضع في حركاته وظواهره لحتمية آلية،ولكنه يخضع لمشيئة الله وقدرة.. والظواهر الكونية - ولو أنها ناشئة من طبيعة تركيب هذا الكون–إلا أنها هي الأخرى مدبرة،ومسيرة مسخرة تتحقق بقدر الله تعالي وتتوجه وفق مشيئته([50])،قال الله تعالي:]لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ[(يّـس:40) والتناسق والتوافق في الكون لا يقفان عند حدود الدقة والانتظام والضبط،ولكن التناسق والتوافق فيه يتجهان إلى الكمال والجمال والحسن والزينة...إن عنصر الجمال مقصود قصداً في بناء الكون،وفي ظواهره وفي الحياة المبثوثة فيه،وإيقاظ حاسة الجمال في البشر مقصود كذلك قصداً في المنهج القرآني...ومن أجل هذا تتكفل عقيدة الإنسان الصحيحة الرفيعة في الإسلام،أن توقظ مشاعره إلى الجمال في الكون وفي الحياة المبثوثة فيه وإلى بدائع صنع الله في الكون والحياة([51])،قال تعالى:]بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض[(البقرة:117).
ولأن الوجود وحده متكاملة الأجزاء،متناسقة الخلقة والنظام والاتجاه،بحكم صدوره المباشر عن الإرادة الواحدة المطلقة الكاملة،كان مهيأ وصالحاً ومساعداً لوجود الحياة بصفة عامة ولوجود الإنسان بخاصة فليس الكون عدواً للحياة ولا عدواً للإنسان،وليست الطبيعة خصماً للإنسان يصارعه ويغالبه،إنما هي من خلق الله،وهي صديق لا تختلف اتجاهاته عن اتجاهات الحياة والإنسان،([52])قال الله تعالى:]وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَار*وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ[(إبراهيم:32-33) ،وقال تعالى:]هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ[(الملك:15) .
إن من شأن كل هذه الحقائق أن توحي إلى قلب المؤمن بالاطمئنان إلى هذا الكون الذي يعيش فيه وبالسلام معه ومع الأحياء...إن السلام الروحي ضروري للإنسان.وأولى مراحل السلام الروحي وأكبرها هي السلام مع الكون الذي يعيش فيه، والتعامل معه ومع كل شيء فيه بروح الصداقة والود وليس بروح التصادم والصراع "انتصاراً على الطبيعة"وقهراً لها وللسيطرة عليها كما في المدنيات الحديثة.([53])
ومن شأن هذه الحقائق أيضا أن تنبه المؤمن إلى ضرورة استثمار كل ما في الطبيعة، وأن يسعى في الأرض ويجد ويكد فيها مستخدماً كافة إمكانياته من أجل أن ينتفع بكل ما أودعه الله في هذا الكون من كنوز وخيرات،على الوجه الأمثل دون إسراف في استغلال تلك الخيرات ودون جور أو تعدي يُفسد جمال الطبيعة وصلاحها حتى يحقق بذلك مقام الخلافة في الأرض لتعميرها وتنميتها وترقيتها،قال الله تعالى:]وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ[(الأنعام:141) وقال تعالى:]وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ[(البقرة:190).([54])
ومن شأن هذه الحقائق أن تجعل لفلسفة التمدن والعمران الإسلامي خصوصيتها بما تقوم عليه من توازن بين الجانب الروحي والجانب المادي،حيث لا صلاح للدين إلا بالدنيا،ومن ثم فصلاح الدنيا مطلب شرعي وضروري لصلاح أمور الدين،وهل يمكن أن يستقيم دين قوم لا يعملون ولا ينتجون ويعيشون في ضيق وفقر وحاجة.([55])
ومن شأنها أن تعود العقل على دقة النظر وانضباط الأحكام،إن الإسلام يدفع الإنسان دفعاً ويأمره أمراً أن يتفكر في خلق السماوات والأرض وأن يقتحم مجاهل الفضاء،كما يقتحم أغوار الأرض وأعماق المحيطات بحثاً عن الحقيقة([56])،لذلك كان المسلمون هم الذين وضعوا أساس المنهج التجريبي..متأثرين فيه بطبيعة الإسلام وبالأوامر القرآنية المتلاحقة بالتفكر والتأمل والتدبر في السماء والأرض وفي النفس،وبترجمة الفكر النظري إلى واقع عملي بدلاً من التحليق في آفاق الخيال.([57])
ومن شانها أخيراً أن توقظ في النفس البشرية حاسة الجمال وتدفعها إلى إقامة التناسق والنظام والدقة في كل فعاليات حياتها،حيث تتجسد قيم الجودة والإتقان في سلوكيات الناس وواقع حياتهم.
وتنعكس رؤية الإسلام وتصوراته حول حقائق الكون على رجل الإدارة المسلم،وذلك من خلال :
- ما توحيه هذه الحقائق للقلب البشري من تقوى الله الصانع والتوجه إليه في كل أمر ومراقبته.
- ما تتركه من "أمن نفسي" لديه،حيث يحيا في بيئة صديقة للإنسان لا تصارعه ولا يسعى لقهرها.
- ما تعود عليه العقل من دقة النظر والتأمل والبحث والتنقيب والمزيد من الإبداع والابتكار.
- ما تدفع به الإنسان نحو استغلال الإمكانيات على الوجه الأمثل دون هدر أو إسراف أو تقتير .
- ما تعوده عليه من حب الجمال وتنمية حاسة النظام والتناسق والرغبة في الإتقان والجودة في أداء عمله .
- ما تدفع به الإنسان نحو استغلال البيئة الاستغلال الأمثل وربط أنشطة التعليم باحتياجات البيئة وسوق العمل .
- ما تلفت نظره إليه من أن التربية السليمة إنما تتحقق عن طريق تفاعل الفرد مع الكائنات والأشياء المحيطة ومع البيئة العامة التي يعيش فيها،حيث لا تتأثر تربية البشر وأخلاقهم فقط بعوامل البيئة الاجتماعية بل تتأثر أيضاً بعوامل البيئة الطبيعية المادية.([58])
ثالثاً : نظرة الإسلام إلى الإنسان :
الإنسان هو محور العمل التربوي وصفته، ذلك لأن التربية عملية إنسانية تقوم على الإنسان،سعياً به للحياة الفاعلة في المجتمع الإنساني،ومن ثمّ فإن تحديد طبيعة وماهية الإنسان – سواءً كفرد أو في جماعة – يعد عصب أي نظرية أو عمل تربوي.
وعلى قدر مسايرة أنشطة التربية وآلياتها للطبيعة الإنسانية تكون قدرتها على تحقيق أهدافها([59])،لذلك فالإطار التربوي الإسلامي يجب أن يبدأ من تحديد صورة الإنسان كما يريدها القرآن الكريم والسنّة النبوية أساساً، لأنه يتوقف على تحديدها بدقة، تحديد النمط التربوي الذي يتم في ضوئه تربية هذا الإنسان وتحقيق النوعية التربوية التي تحقق مستوى الإنسان في القرآن والسنّة.([60])
الإنسان في تصور الإسلام هو ذلك الكائن المزدوج الطبيعة:المكون من قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله، ممتزجتين مترابطتين غير منفصلتين([61])،قال الله تعالى:]إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ*فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ[(صّ:71-72) .
لذلك فالإنسان فيه جانب الجسد وحاجاته المادية وما يتعلق به من الشهوات والسوءات والعورات التي تنزع بالإنسان إلى الطبيعة الطينية ، جنباً إلى جنب مع الإدراك والضمير والتسامي الذي يتعلق بالروح وبهذين الجانبين تتعلق حياة الإنسان دائماً بالصراع فيما بين تطلعات الجسد المادي الطيني وشهواته وحاجاته ، وتطلعات الروح وأشواقها من القيم والمبادئ.([62])
ومن ثمّ لا يكون الإنسان قبضة طين خالصة فيهبط كالجماد أو الحيوان ، ولا نفخة روح خالصة فيؤلّه أو يتأله ، إنما هو مزاج من الطين ونفخة الروح([63]) ، ولذلك فمن أعطى الجزء الطيني فيه غذاءه وريه مما أنبتت الأرض ، ولم يعط الجانب الروحي غذاءه من الإيمان ومعرفة الله ، فقد بخس الفطرة الإنسانية حقها وجهل قدرها، وحرمها ما به حياتها.([64])
والإنسان هو أكرم مخلوقات الله على الأرض، بل هو كائن من كائنات الملأ الأعلى،لا تعلو قيمة فوق قيمته–حتى الملائكة–قال الله تعالى:]وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً[(الإسراء:70).وذلك لأن إنسانيته لم تتكون ولم تتشكل إلا بعد أن نفخ الله فيه من روحه،وكذلك بحكم المعجزة الإلهية الكبرى فيه وهي عقله،الذي وعى الأسماء كلها كما علمه ربه([65])،قال الله تعالى:]وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[ (البقرة:31)،وقال تعالى:]خَلَقَ الْإنْسَانَ*عَلَّمَهُ الْبَيَانَ[(الرحمن:3-4)،وذلك إعداد له وتهيئة حتى يتولى خلافة الله في الأرض ليعمرها ويرقيها وفق منهج الله.
إن الإسلام منذ ظهوره قد مجد الإنسان ورفع شأنه،بإعلان أن الإنسان هو خليفة الله في أرضه قال تعالى:]إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً[(البقرة:30)،فمكان الإنسان في القرآن الكريم هو أشرف مكان له في ميزان العقيدة وفي ميزان الخليقة التي توزن بها طبائع الكائن بين عامة الكائنات([66]).
وخلافة هذا الكائن–الإنسان–في الأرض مشروطة ومقيدة بعهد الله وميثاقه:أن يستقيم هذا الكائن على هداه ومنهجه وشريعته،وأن يُخلص العبودية له،وألا يدعي شيئاً من خصائص الألوهية،وأن يجعل سعيه كله لله الذي استخلفه في هذا الملك العريض،وأن يُحكّم منهج الله في ذاته وفي حياته.([67])
إن الإنسان لم يخلق لمجرد أن يأكل ويشرب ويتكاثر ويلهو،وإنما خُلق الإنسان لغاية أسمى وهي عبادة الله تعالى،قال الله تعالى:]وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[(الذاريات:56)، فالإنسان لم يُخلق لنفسه وإنما خُلق لله تعالى..لمعرفته وعبادته وأداء أمانته في الأرض.([68])
وحتى يحقق الإنسان غائية خلقه على نحو ما أراد الله له،زوده الله بالإمكانات والخصائص التي تؤهله لذلك،يقول "سيد قطب" خصائص الإنسان وطاقاته واستعداداته كلها ملحوظ فيها وظيفته..وظيفة الخلافة في الأرض..ومقدرة بقدرها ومحدودة بمقتضياتها.([69])
إن الإنسان يولد مزوداً بالعقل والإدراك اللذين ميَّزه الله بهما ، ومن ضرورات العقل والإدراك وجود ملكة التفكير والتدبر والبحث والنظر،وتوليد الأفكار،وتصميم إبداعات العمران وإتقان الصنعة في حياته،واتخاذ دليل له في دروب الحياة،مما يعينه على فهم معنى الحياة وتحمل أعبائها ومسئولياتها.([70])
ولقد ترك الله تعالى للعقل حرية التجول في آفاق هذا الكون العريض ما شاء صاعداً إلى الأفلاك وهابطاً إلى الأرض،قال الله تعالى:]قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ[(يونس:101)،وترك له التأمل في مكنونات النفس،قال تعالى:]وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ*وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ[(الذاريات:20-21)،وذلك حتى تستقر في نفسه حقيقة الألوهية والعبودية لله.وترك الله تعالى للعقل فرصة أن يبتكر ويخترع في وسائل الحياة وأمور الدنيا ما شاء،ما دام ملتزماً حدود الحق والعدل،قال الله تعالى:]وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا[(القصص:77)،وفي هذا قول النبي(r)في قصة تأبير النحلأنتم أعلم بأمر دنياكم)([71])
وكذلك ترك الله تعالى للعقل أن يستفيد من تجارب الآخرين،وينتفع بتراث السابقين،قال تعالى:]فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[(النحل:43)،وقال الرسول(r)الكلمة الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها).([72])
وبالإضافة إلى العقل والإدراك، وهب الله تعالى الإنسان الفطرة السليمة غير الملوثة بخطيئة أو المثقلة بذنب،قال الله تعالى:]فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ[(الروم:30)،وقال الرسول(r)ما من مولود إلا يولد على الفطرة)([73])،والفطرة هي معرفة الله وتوحيده.([74])وجعل الله فطرة الإنسان أكثر استعداداً للاستجابة لهاتف الإيمان فالإيمان حاجة فطرية،كما أنه حاجة عقلية لا يملك الإنسان أن يستغني عنها،وهي مركوزة في كينونته وهو مفطور عليها.([75])
وحتى يحقق الإنسان غاية خلقه وهبه الله تعالى أيضاً أدوات الإدراك والتدبر،قال الله تعالى:]وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[(النحل:78)،وفضلاً على إمكاناته الذاتية التي وهبها الله له،فقد سخر له الكون كله، قال تعالى:]وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْه[(الجاثـية:13)،وجعل الله له الأرض ذلولا يمشي في مناكبها ويأكل من رزقه الذي سخره الله له،قال تعالى:]هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ[(الملك:15)،وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة،قال تعالى:]أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَة[(لقمان:20)،كل ذلك حتى يكون الإنسان أهلاً للخلافة،وقادراً على عمارة الأرض والقيام بمقتضيات التكليف.
وحتى يحقق الإنسان أمانة التكليف،وهبه الله تعالى أيضاً إرادة وقدرة، ذلك لأن حرية الإرادة ليست في الواقع إلا عنصراً جوهرياً من كلّ لا يتجزأ،وهو الحرية الممنوحة للإنسان بمقتضى اطلاعه بحمل الأمانة...فكيف يتصور أن يتحمل الإنسان الرشيد تبعة التكليف إذا فقد الاختيار الذي هو شرطه.([76])
ولكن إرادة الإنسان تسير في فلك إرادة الله المطلقة في توازن دقيق، فالحرية المطلقة لدى الإنسان لا وجود لها،قال الله تعالي:]وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ[(الإنسان:30)،كما أن حريته لا يمكن أن تُلغي،لأن إطلاقها تحويل الإله إلي مجرد فكرة ساكنة عاجزة،وفي إلغائها إلغاء لاهتمامات الإنسان،إذن فليس الإنسان مجبراً علي طول الخط،ولا حرا علي طول الخط وإنما تجمع أفعاله بين إرادة حرة وجبر في توازن فلا إلغاء لوجود الإنسان ولا إيقاف لقدرة الله([77])،قال الله تعالي:]إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم[(الرعد:11).
إن الإسلام يُثبت للمشيئة الإلهية الطلاقة،ويثبت لها الفاعلية التي لا فاعلية سواها ولا معها،قال الله تعالي:]قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[ (التوبة:51).وفي الوقت ذاته يثبت للمشيئة الإنسانية الإيجابية،ويجعل للإنسان الدور الأول في الأرض وخلافتها،وهو دور ضخم يعطي للإنسان مركزاً ممتازاً في نظام الكون كله،ويمنحه مجالاً هائلاً للعمل والفاعلية والتأثير ولكن في توازن تام مع الاعتقاد بطلاقة المشيئة الإلهية.([78])
وهذه الإرادة الممنوحة للإنسان،تلقي عليه تبعة اختياره وتُحمِلَه مسئولية عملة،فالإرادة الحرة تلازمها المسئولية،والمسئولية تمثل الوجه الآخر لمنطلق الخلافة ومفهومها في تكوين العقلية الإسلامية([79])،حيث أن الإنسان ليس مخلوقاً عبثاً،وليس متروكاً سدي،إنما هو مسئول في الدنيا والآخرة عن أفعاله قال الله تعالي:]أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ[(المؤمنون:115)،وقال تعالي:]أَيَحْسَبُ الْإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً[(القيامة:36)
ولقد قرر الإسلام بوضوح وحسم المسئولية الفردية،مسئولية الإنسان عن نفسه،فلا يجوز في منطلق العدل الإلهي أن تحمل نفس وزر أخري،فكل نفس مسئولة عن عملها وحدها([80])،قال الله تعالي:]وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[(الأنعام: 164) وعندما يقرر الإسلام المسئولية الفردية ، لا يجعل الفرد مسئولا أمام الدين أو المجتمع فحسب ، بل يجعله مسئولاً أمام نفسه أيضاً ، فالإسلام يقرر مسئولية النفس عن ذاتها ، ذلك فالفرد المسلم يقف من نفسه موقف الرقيب ، يهديها إن ضلت،ويمنحها حقوقها المشروعة ويحاسبها إن أخطأت ويتحمل تبعة إهماله لها.([81])
وهنا يهتم الإسلام ببناء الضمير الخلقي الواعي المتفاهم مع النفس،والذي يُذّكرها باستمرار بأهداف الحياة العليا ، ويهتم ببناء هذا الضمير منذ الطفولة ، ويدع له تهذيب النفس والارتفاع بمشاعرها على أساس الغيرية ، وعلى أساس أن يقيم الإنسان من نفسه رقيباً على أعماله يزجره عن إيذاء غيره أو الاعتداء على حقوق الآخرين، ولو كان لا يحبهم،([82])قال الله تعالى:]وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[(المائدة:8).
وبالإضافة إلى المسئولية الفردية،قرر الإسلام المسئولية الاجتماعية، مسئولية الفرد عن جماعته التي ينتمي إليها وعن مجتمعه الذي يعيش فيه،قال(r)ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).([83])
وذلك لأن الإسلام عندما يُقر ويؤكد الكيان المستقل للفرد،يقرر أن المجتمع يستمد وجوده من كيان الفرد.والفرد يحقق ذاته من خلال التعامل مع المجتمع([84]).ويقرر أن نوازع التجمع مركوزة في فطرة الإنسان كنوازع الفردية سواء بسواء،ونوازع التجمع تبدي نفسها في شتى المستويات وفي شتى الأنواع([85])،قال الله تعالى:]يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[(الحجرات:13)
ومن ثمّ فالنظام الصالح في الإسلام هو الذي يوازن بين دوافع الفرد ومصالحه، وبين ضفتيه المكونتين له،كفرد مستقل، وعضو في جماعة.([86])والإسلام بهذا يسعى إلى إيجاد "أمة وسطاً" لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة ولا تطلقه كذلك فرداً أثراً جشعاً لا هم له إلا ذاته..إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء ، وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه . ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو ، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة المجتمع والجماعة،وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادماً للجماعة،والجماعة كافلة للفرد في تناسق واتساق.([87])
والإنسان في الإسلام مكلف تكليفاً شخصياً بتغيير المنكر، سواء وقع عليه هو أم وقع على أي مسلم في أقصى الأرض طالما استطاع إلى ذلك سبيلاً،قال رسول الله(r)من رأى منكم منكراً فليغيره بيده،فمن لم يستطع فبلسانه،فمن لم يستطع فبقلبه،وذلك أضعف الإيمان)([88]) وبالإضافة إلى المسئولية الفردية عن تغيير المنكر تأتي المسئولية الجماعية،مسئولية الجماعة عن إقامة الحق ورفع الظلم، ومسئوليتها عن إقامة المجتمع النظيف الذي يقيم المعروف ويمنع المنكر،قال الله تعالى:]وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[(آل عمران:104)،وقال الرسول(r)والله لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر،ولتأخذن على يد الظالم،ولتأطرنه على الحق أطراً،ولتقصرنه على الحق قصراً،أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض).([89])
والإسلام عندما يقرر تكاليفه على المسلم،فإنه يراعي فيها أن تكون كلها من الفطرة ولتصحيح الفطرة،لا تتجاوز الطاقة ولا تتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه،ولا تهمل طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء،ولا تنسى حاجة واحدة من حاجات تكوينه الجسماني والروحي لا تلبيها في يسر وسماحة وفي رخاء.([90])
وعندما يقرر الإسلام تكاليفه،فإنه يراعي أيضاً التفاوت الفطري بين الناس،فليس كل الناس على درجة واحدة من الطاقات والاستعدادات،فالناس مختلفون في طاقاتهم الفردية واستعداداتهم الجسمانية والفكرية والنفسية،لذلك قال الله تعالى:]لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا[(البقرة: 28).
إن اختلاف الاستعدادات بين فرد وفرد من هذا الجنس–البشري–سنّة من سنن الخالق لتنويع الخلق –مع وحدة الأصل والنشأة – لتقابل هذه الاستعدادات المختلفة وظائف الخلافة المختلفة المتنوعة.وما كان الله ليجعل الناس جميعاً نسخاً مكررة…على حين أن الوظائف اللازمة للخلافة في الأرض وتنمية الحياة وتطويرها منوعة متباينة متعددة…أما وقد مضت مشيئة الله بتنويع الوظائف فقد مضت كذلك بتنويع الاستعدادات. ليكون الاختلاف فيها وسيلة للتكامل([91])،قال الله تعالى:]وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ[(هود:118).
والإنسان في الإسلام بمقتضى الإرادة الممنوحة له ليختار بها ، وبمقتضى قدرته على الارتفاع والسمو بحاجاته ،قدرته على الهبوط بها ، بمقتضى ذلك يُترك في الأرض ليعمل ، ثم يجازي على عمله يوم الجزاء ثواباً كان أو عقاباً،قال الله تعالى:]وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[(الشمس:7-10).([92])

ليست هناك تعليقات: