الأربعاء، 4 مايو 2011

تيارات الفكر الإسلامي المعاصر .. قضايا الإصلاح والتجديد

20/05/2001
بيروت ـ عبد الرحمن الحاج إبراهيم
بعد اصطدامه «بالحداثة» القريبة العهد بعنف الاستعمار، وعنف المستغربين من أبنائه، وأخيراً ـ الآن ـ عنف العولمة والنظام العالمي الجديد، توزع الفكر الإسلامي تيارات شتى، تباينت بين متمسكة بالتراث الإسلامي، رافضة التفاعل مع تحديات الحداثة الغربية، وبين متأثرة بالحداثة إلى درجة التماهي، وطيلة قرن كامل لا تزال تتطور هذه التيارات ، وأحياناً كثيرة تراوح مكانها، وعلى أعتاب القرن الجديد ، حيث وجدت نفسها أمام «العولمة» و«النظام العالمي الجديد» فإنها مضطرة لمراجعة حساباتها، واستعداداتها للتعامل مع التحديات الجديدة.

في بيروت انعقد مؤخراً مؤتمر «تيارات الفكر الإسلامي المعاصر: قضايا الإصلاح والتجديد» في المعهد العالي للدراسات الإسلامية، جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية بالاشتراك مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي (IIIT)، الولايات المتحدة ـ فيرجينيا، ممثلاً (برئيس المركز اللبناني للدراسات والأبحاث الأستاذ توفيق العوجي).
افتتح بكلمة المؤتمر الدكتور هشام نشابة، والدكتور عبد الحميد أبو سليمان والدكتور فتحي ملكاوي.

في ورقته قدم الأستاذ عمر مسقاوي (لبنان) دراسة عن «التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر» ويؤكد منذ البداية اختلاف المصطلحين: التجديد، والتحديث (Modernisation)، حيث ينتمي التجديد إلى حقل الثقافة والعلوم الإسلامية، فيما ينتمي التحديث إلى السياق التاريخي والفكري الأوروبي، (بدءاً من القرن السابع عشر للميلاد). لكن المشكلة أن التطورات التي عبرت عن خصوصية التاريخ الأوروبي الديني والصناعي داهمت الواقع الإسلامي، مع أول اتصال بين أوروبا والفكر الإسلامي عبر رحلة رفاعة الطهطاوي، ومن هنا فانتهاج مصطلحات ومنطلقات مستمدة من تاريخ أوروبا في إطار البنية الثقافية التي ترسخت تاريخياً في العالم الإسلامي وهو ما يعتبره مسقاوي الخطأ الأول الذي يعتبر هبوطاً خاطئاً على مدرج العصر الحديث في بداية الاتصال مع الغرب عبر رفاعة الطهطاوي.

يختلف رفاعة الطهطاوي عن سائر «المجددين» قبله في الحضارة الإسلامية، كأبي الحسن البصري، والغزالي، وابن تيمية وابن القيم والشاطبي، وأخيراً محمد بن عبد الوهاب، الذين شكلوا - على الاختلاف ما بينهم - محطات مختلفة لمسيرة واحدة هي حركة البنية الثقافية الإسلامية في إطار مرجعياتها الثابتة المتمحورة حول النص الإلهي (القرآن الكريم).

لم يفاجئ الطهطاوي بما حمل من مناهج الثقافة الأوروبية علماءَ الأزهر، بل فاجأ مجتمعاً كاملاً يستجيب لدورهم في نعمة الاستقرار النفسي، الذي هو حاجز بين المجتمع العثماني كنمط تاريخي، وبين العالم الحديث الذي تولته قيادة جديدة في مفهوم «الحداثة» حيث بدأ هذا المصطلح يطرح وجوده في الثقافة العربية.

ويؤكد الأستاذ مسقاوي أن البداية التي كانت مع الطهطاوي فيما يتعلق «بدخول الحداثة» إلى الفكر العربي الإسلامي حكمت المسار الذي مضى فيه الفكر الإسلامي على طول مسيرته اللاحقة حتى اليوم.

ونتيجةً لدخول التعليم الحديث، نشأت ـ في مصر مثلاً ـ ثنائيتا التعليم الأزهري من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى التعليم المستمد من المناهج الأوروبية كما لاحظ سلامة موسى في كتابه «التثقيف الذاتي»، وكان ذلك شرخاً في بناء الشخصية الثقافية في مواجهة عالم مقتحم. لقد أصبحت الحركة الثقافية في العالم الإسلامي المستمدَّة من الحداثة أو من التراث الإسلامي معرضاً تعرض فيه عقد النقص تجاه الحضارة الأوروبية.

ويذهب الباحث إلى أن سائر التطورات يمكن التأريخ لها مع مدرسة الشيخ محمد عبده في نهايات القرن التاسع عشر، التي وضعت النموذج العربي مقياساً لتطور الفكر الإسلامي. وتفرع عن هذه المدرسة اتجاهان أحدهما سلفي يتمثل في رشيد رضا، والآخر علماني يتمثل في قاسم أمين.
وقد تعطَّل «التجديد» الإسلامي ـ المشار إليه في الحديث النبوي الشريف ـ على محورين:

الأول: ويمثله علماء الازهر الذين استشعروا مخاطر الاجتياح الاستعماري وتأثيره على تلاميذ المستشرقين، وقد زاد ذلك استمساكهم بالتراث، والمذاهب المتعارف عليها حتى رموا كل منحرفٍ عنها بالكفر.

الثاني: محور «التنويريين» الجدد، تلاميذ جامعات أوروبا الذين واجهوا تطور العلم في أوروبا (القرن التاسع عشر) الذي انتقل من النظر التأملي الفلسفي إلى المفهوم
الإنتاجي.

وهكذا بدؤوا انسحاباً من مناخ التراث إلى تفكيكه دون القدرة على تطويره، أو إعادة بنائه، فجاء جهدهم مغلفاً بإنتاج المستشرقين بين اتهام الحضارة الإسلامية من ناحية، وبين الإشادة بها من ناحية ثانية، إشادةً امتناع عن سبر الواقع القائم، واكتفاء بها عن الاقتباس من مستجدات العصر الحديث.
فلا حراس التراث فهموا العالم الحديث، ولا تلاميذ الجامعات الاوروبية وأضرابهم فهموا عمق التراث وتاريخيته، وأصبح سوء الفهم هذا أمارة تخلف مستمر، فقد ولّد انقساماً حاداً بين الطرفين، جعل تبادل الأفكار وتحاورها عسيراً. وأصبح الفقيه الذي عجز عن احتواء الأفكار الجديدة وضبطها ضمن معايير الثقافة الإسلامية ـ يعمد إلى سلاح التكفير والتأثيم، وهو ـ حسب تعبير الباحث ـ أمارة انهيار.
وفي الشرق الإسلامي الهندي كان محمد إقبال يطرح تجديد الفكر الإسلامي من زاوية جديدة هي خصوصية النظرة الكونية التي تتجاوز قيود ومعايير الأفلاطونية والأرسطية التي قيّدت الفلسفة الإسلامية والفلسفة الأوروبية التي تأثرت بدورها بابن رشد. حيث كان يدعو إلى مواجهة العصر الحديث، وقد تحلل التراث من قيود الزمن، انطلاقاً من النظرة القرآنية للكون والحياة السابقة على التجربة الإنسانية برمتها.
لماذا امتلأت مكتبة القرن العشرين بالدراسات دون أن تجيب على سؤال النهضة المشارِكة والقادرة على صنع المستقبل؟
يلخص الباحث الجواب بقوله: «لأن الخطاب الإسلامي التحديثي كان صدى لامتداد أوروبا أكثر مما هو صدى لحيوية تطوّره [الداخلي]. فعملية التجديد في الفكر الإسلامي يجب أن تكون ذاتية، تنطلق من ضرورات التراث وليس من معوقاته. وهذا ما يتيح لنا الاقتباس من الحضارة الغربية بالقدر الذي يتسق فيه «الاقتباس» مع بنية الفكر الإسلامي على مستوى المرجعيّات، ولو كان هذا الاقتباس «انتقائياً».

إن تطورات الفكر الإسلامي ـ التي ينظر إليها الباحث بمنتهى السلبية ـ تبدو نابعةً من مقاربة الحدث، لا التقرب إليه، في صالونات الأرستقراطية الثقافية التي تبحث لها عن مكان في زحام يتجاوزها.


«رؤية العالم» في الفكر الإسلامي المعاصر

- «العلاقة بين السلطة المدنية والسلطة الدينية» من منظور «التاريخ المقارن»: تحت هذا العنوان قدم الدكتور وجيه كوثراني (الباحث والمفكر اللبناني) ورقته، التي تناولت القضية من خلال كتابات المستشرق «برنارد لويس» وخصوصاً كتابه «اللغة السياسية للإسلام» ومحمد عمارة في تحقيقه ودراسته لكتاب «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرازق. ويستنتج الكوثراني أن عمارة يستنتج من نفسه الأرضية التاريخية أو من نفس «الأدلة» التي اعتمدها لويس أن العلمانية غريبة عن الإسلام والمسلمين، بل تتناقض مع الإسلام وقواعده، في حين يستنتج لويس أن الإسلام لا يعرف العلمانية، والعلمانية مفهوم لامعنى له في السياق الإسلامي.
ويزعم الكاتب أن الواقع والتاريخ ومعطياته ودراساته الكثيرة لا تقرّ هذا الكلام الذي أضحى ـ برأيه ـ «أسطورة» بفعل التكرار والدعوة، وأن الخطابات العربية الرافضة للعلمانية تجعل من «الخصوصية التاريخية» سداً حاجباً للتاريخ، حيث يجري تشويه تبسيطي للتاريخ الأوروبي المسيحي الذي آلت صراعاته نحو العلمنة، كما يجري بالمقابل نظر انتقائي، وآحادي للتاريخ الإسلامي يتم من خلاله قطع هذا التاريخ عن مضامينه الاجتماعية وعن سياقاته العالمية، وصولاً إلى تعريف العلمانية كإيديولوجيا «معادية للدين» أو «ملحدة» أو في الأحوال المتلطفة «تغزيبيّة»!.
وفي كل الأحوال فإن رؤية الكوثراني هذه لا تتفق إطلاقاً مع ما يذهب إليه المفكرون الإسلاميون على اختلاف توجهاتهم ولا ينسجم مع «النصوص النبوية الشريفة». أي لا تتفق مع مرجعيات الواقع ولو فرضنا أنه حدث هذا الانفصال بين الديني والسياسي صحيح واقعاً، ولكنه يبقى غير ممكن قبوله نظرياً (فقهياً).

والواقع العملي ـ حسب الكوثراني ـ أنه عندما «يستقوي أهل الدولة بالدين، يستقوي الخارجون عليه به؟».
- «الحتميات المؤتلفة والإمكانيات الأخرى»:
المفكر اللبناني رضوان السيد اختار أربعة مشاهد ومواجهات ثقافية عربية جرت ثلاثة منها في مصر على مدى القرن العشرين، لبلورة الأطروحة التي ذهب إليها حول الطبيعة العقائدية لهذا الفكر، فكر الذاتية والهوية، وعلاقة وعي الهوية «برؤية العالم» كمفهوم فلسفي، والإمكانيات الأخرى التي تفتّح عليها المشهد في تسعينيات القرن العشرين.
يذكر الأنثربولوجي المعروف مايكل كيرني Michael Kearny أنه لم يعد من الممكن دراسة التصورات حول الثقافات في تكويناتها، والعلاقات فيما بينها، إلاّ بالاستناد في ذلك ـ وخاصة في المسائل العلائقية ـ إلى بحوث وفرضيات «رؤية العالم» أو رؤاه. وكان هذا المصطلح: «رؤية العالم» “Weltamschauumg” قد ظهر للمرة الأولى في كتابات الفيلسوف والمؤرخ الاجتماعي الألماني وليم دلتاي “Wilhelm Dilthey” ثم شاع في أوساط الأنثروبولوجيين والمؤرخين منذ القرن التاسع عشر، بحيث صار اليوم إحدى المقولات الكليّة التي تدخل في مضمون الثقافة. وقد صنّف السوسيولوجي الألماني الكبير ماكس فيبر Max Weber (1864-1920م) تلك المقولة في مستويين: يتعلق المستوى الأول بما أطلق عليه دلتاي اسم «الصورة الكونية» التي تؤلف الكتلة الأساسية المعتقدات والمسلمات الافتراضية عن العالم الحقيقي والواقعي، والتي يمكن في ضوئها الوصول إلى إجابات شافية عن التساؤلات حول مغزى الكون والوجود، أو ما يُعرف بروح الحضارة. ويتعلق المستوى الثاني بالسياق التصوري الواعي والإرادي، الذي تضع فيه الذات الجمعيةُ نفسها ضمن تقسيمات العالَم الواقعية أو المركبَّة من النواحي الثقافية في الأصل؛ لكن أيضاً من النواحي الأخلاقية والاجتماعية والسياسية.
يركز السيد على أن ما هو بصدد بحثه المستوى الثاني المتعلق بالتركيبات الراهنة للعالم، والتي ألجأتنا للعودة إلى «الصورة الكونية» أو إلى المستوى الأول أو الأساسي. إذاً استناداً إلى وعي هؤلاء الذين مثلّوا المشهد الثقافي الإسلامي (يقصد: محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني ورشيد رضا، وجماعة إسلامية المعرفة)، لأحداث العالم وتركيباته، وترتيباته، ومواقع المسلمين فيه، حدّدوا إشكالية المسلمين بأنها التخلف في سائر المجالات، كما حدّدوا الحل، وهو التقدم.

على أن المفكرين الإسلاميين بدأوا يتخلَّون عن هذه الفكرة، أو عن هذا التحديد للإشكالية منذ الثلاثينيات من القرن العشرين، وليس بالوسع القول إن هذا التخلي سببه عجز المسلمين عن التقدم؛ بل الأمر أعقد من ذلك، فالتقدم عند النهضوي الإسلامي يستندُ في مفهومه إلى مقاييس غربية. وبتلك المقاييس يمكن القول إن المسلمين كانوا يتقدمون. لكن مرّةً أخرى؛ فإنه بالمقاييس الغربية أيضاً، ما كان ذلك كافياً ولا شافياً، بدليل عدم القدرة على الوصول إلى حلٍ لإشكالية المسلمين مع الغرب من ضمن التركيبات العالمية التي كانت سائدةً آنذاك، والتي تركت أثراً عميقاً في وعي المسلمين، وبالتالي في تكييفاتهم للأوضاع القائمة في العالم الإسلامي. وقد بلغت تلك التأثيرات إحدى ذراها في ضياع فلسطين من جهة، وعدم نجاح التجربة الباكستانية من جهة ثانية.
لقد كان بالوسع ـ طبعاً ـ ذكر أمثلة للنجاح: ظهور الدولة الأندنوسية التي توحدّ جذرها طوال التاريخ. وتوحدت في الخمسينيات، كما كان بالوسع ذكر الدول الإسلامية الكثيرة التي ظهرت واستقلّت، وكان بالوسع أيضاً ذكر حركة عدم الانحياز التي وضعت المسلمين في قلب حركة عالمية كبرى.. ولكن الوعي اتخذ مسارب أخرى أوصلت «رؤية العالم» لدى المفكرين الإسلاميين إلى حدود المستوى الأول، حدود الصورة الكونية: مغزى الوجود والكون. فظهرت تصورات الاستخلاف والتكليف والحاكمية، والتي وضعت الوعي الإسلامي في سياق العقائدية، سياق الهوية والخصوصية. فما عادت مسألة التقدم كافيةً لمعالجة الإشكال، وصار مطلوباً «تحقيق الذات» للنضال المباشر، وبإعادة بناء التصور، وبتحديد خصائص ذلك التصور، سبيلاً لنضال من أجل إنجازه على أرض الواقع. فعدمُ الارتياح إلى الترتيبات والتركيبات السائدة في العالم على كل المستويات، أنتج وعياً مزدوجاً: الانزياح باتجاه التاريخ من جهة، وعدم الاطمئنان في الوقت نفسه إلى الطهورية الكاملة لذاك التاريخ، ذلك أنه في الوقت الذي كان فيه المفكرون الإسلاميون يُرجعون استكشافات النهضويين للتاريخ الإسلامي، كانوا في الوقت نفسه يبتعدون عن أفكارهم ومسلّماتهم باعتبارها ذات مرجعية غربية. ومن هنا كان لجوؤهم بإلحاح تأصيلي إلى النص نفسه. وبذلك اكتمل خطاب الحتميات لدى الإسلاميين في الوقت الذي كان يكتمل فيه ذلك الخطاب لدى القوميين و الاشتراكيين في تناغم غير واع مع السائد عالمياً في الحرب الباردة. وهكذا فالبنية الأساسية لوعي العقائديات والحتميّات لدى سائر التيارات الفكرية والسياسية العربية (دون استثناء) كانت واحدة.

لكن المشهد بدأ يتغيّر ويختلط في مطلع التسعينيات؛ انهار الاتحاد السوفيتي، ونشبت حرب الخليج الثانية، وازدادت علائق المسلمين بالعالم سوءاً، بحيث ظهرت مقولة هنتنغتون حول صراع الحضارات، وحول التخوم الدموية للإسلام، ثم توالى ظهور المشروعات الاستراتيجية ذات الأبعاد الثقافية حول الحضارات، والنظام العالمي الجديد، وثقافة السلام، والتعددية الثقافية والسياسية.. والعولمة، وقد اعتبر الإسلاميون والقوميون والبقية الباقية من اليسار ذلك كلُّه لغير صالحهم؛ وخاصةٍ تلك الهيمنة الأمريكية الطاغية في الاستراتيجيا والأمن والقيم السياسية والثقافية. لكنهم بعكس ما فعلوه حتى الثمانينيات، أقبلوا على مناقشة الأمور كلّها، وإعادة النظر في المسلّمات، وطرح الأسئلة على أنفسهم وعلى العالَم. لقد انفجرت الحتميات في أحضان كل التيارات، وبدؤوا يغادرون ساحَ المعارك الأيديولوجية، وانفتحت البيئات الفكرية والثقافية والأدبية على آفاقٍ شاسعةٍ من التغيير، تشكّل مخاضاً حافلاً بشتى الاحتمالات والإمكانيات. وشأن المخاض العربي والإسلامي في ذلك شأن كل مخاض تختلط فيه وجوه خطرات وخطوات التقدم والتراجع والتردد والتشبث والقلق. لكن فيما عدا تلك القلة المطمئنة من الراديكاليين (الثوريين)؛ فإن الظاهر هو الإقبال الشديد على التغيير والتجديد، فقد أقبل الإسلاميون منذ السبعينيات على إصدار الدساتير والإعلانات الإسلامية لنظام الدولة ولحقوق الإنسان ولحقوق المرأة والطفل. وصارت تلك الإعلانات في التسعينيات شأناً عربياً وإسلامياً عاماً. وهي تعتبر مراجعةً نقدية لوعي القطيعة السابق، وهي تطلع صارخ للمشاركة في قيم العالم والعصر.

إن ما نشهده منذ عقد إنما هو مخاض، فهو لا يملك ملامح محددة أو نهائية، وإن مسألة الانكماش على الهوية والخصوصية ما عادت متحققة، وإن كانت هناك ظواهر تدل على مطلب «الطهورية»، وربما كانت ترتيبات النظام العالمي الجديد، والعولمة قد تحول دون الانفتاح الإيجابي، على عالمٍ تهيمن فيه وعليه قوىً غاشمةً.

أخيراً يستشهد الكاتب بابن تيمية في كتابه «الرد على المنطقيين»، مناقضاً بذلك أرسطو، بقوله: إن الحاضر والموجود والعيني هو الجزيء وليس الكلي. فليس صحيحاً ما قاله أرسطو من أن الماهية سابقةٌ على الوجود، وليس صحيحاً ـ استطراداً ـ أن تعريف الشيء فرعٌ عن تصوره، وليس دقيقاً أنني أفكر فأكون ثم تكون أنت، بل إنني والآخر متحاذيان، ومتحايثان، يُنتج أحدنا صنوه، في الوقت نفسه. وتكون المفارقة عندما يتجه الآخر للتحقق بدونك، فلا تكون.
وقد لا تكفي ظواهر التغيير التي تحدثنا عنها للوصول إلى تبدل في «رؤية العالم» أي في عالم الثقافة، قد حدث. لكن الحتميات قد سقطت، ونحن نخرج من الأزمة، ونتجه للبحث عن إمكانياتٍ أخرى للتحقق والتحقيق.

- مستقبل الخطاب الإسلامي:

بدت قضايا «الإصلاح» و«التجديد» بمثابة القضايا الرئيسية في الفكر الإسلامي عبر رحلته الطويلة، ذلك أن الإسلام جعل ذلك من كلياته التي لا تتبدل ولا تتغيّر، أي من سنة الله تعالى في الأرض، جاء هذا الكلام في الورقة التي قدّمها الدكتور عز الدين عمر موسى (السودان) الأستاذ في جامعة الملك سعود، الرياض. الذي يقول إن ذلك جاء في صحيح السنة النبوية. في قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها». وهكذا تميّز المجتمع المسلم بظهورٍ دائم لحركات إصلاحية تجديدية متتابعة زماناً ومتعددة مكاناً في الزمن الواحد... وناشدةً تغييراً شاملاً.

وفي هذا السياق يجب التمييز بين أمرين، الأول هو التمييز بين الثابت والمتغير في الفكر الإسلامي، فالثابت هو الوحي، وإن اختلف الزمان والمكان والسكان، والمتغير هو تطبيق الوحي وتفهمه من البشر. والثاني: أن الفكر التجديدي في جوهره فكر مستقبلي، يسعى إلى تجاوز الواقع المعيش ، مستشرفاً بناء مجتمع جديد على هدى فهم جديد للثابت. ولهذا يصعب الحديث عن مستقبل الخطاب الإسلامي من غير النظر في تجليات الفكر التجديدي الحديث والمعاصر، وتبين مواطن نجاحاته وإخفاقاته لأخذ المفيد منها، واعتماده في رؤية مستقبلية تقوم على الثابت في الإسلام.وهذا مشروع ضخم لم يتم إنجازه بعد، وكل ما حدث هو فتح نوافذ عليه.
يرى الدكتور عز الدين أن الرأي السائد، ولعقود طويلة غير صحيح، والذي يتمثل في أن الفكر التجديدي الحديث بدأ استجابة لتحدي الغرب العسكري ثم تفوقه الحضاري... وعادة ما يحدد الدارسون المحدثون ذلك باتفاق كوتشك كيناجي (Kachak Kaynarja) مع العثمانيين، وحملة نابليون على مصر، وخير الدين باشا في تونس... ولا ريب أن هذا نمط تجديدي مبكر سعى المصلحون فيه لاكتساب آليات المنعة وأدوات التقدم المادي من أشياء الغرب ذاته.. ولكن ليس هو الأسبق ولا الأوحد.. فحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي سعت لتجديد العقيدة، فكراً وممارسةً، ومحاولة أسلمة الدولة مع الشيخ عثمان دان فودى وأضرابه، وتغيير المجتمع بتزكية النفس مع السنوسية والبكائيين ورصفائهم، والعمل على التجديد بإحياء العلم الإسلامي في اليمن والهند.

في كل الأحوال فإن الأنماط التجديدية المتعددة هذه أفرزت عدداً من الإيجابيات، أولها التوكيد على الهوية الإسلامية المتميّزة للأمة، والمتجسّدة في صيرورتها التاريخية عبر الحقب. لكن ، ونتج عن ذلك تمسك بالتراث شديد، وتعصب له عظيم، وحرص عليه كبير، فبُعث التراث مجدداً. وثانيتها الإقبال على فتوحات الحضارة الحديثة باستيراد أشيائها، واقتنائها واستخدامها واستنبات بعض مؤسساتها، وشيء من نظمها.. وثالثتها التعبئة الشعبية الناجحة التي أنجزت التحرير السياسي، وأسهمت في بناء دولة الاستقلال باستثناء فلسطين.ومع ذلك ولدت سلبيات نتيجة لتغاير منطق التجديد بين كل تلك الحركات، فبينما كانت نتيجة بعض هذه الحركات تقديس التراث الذي هو المتغيّر في الإسلام مما أدى إلى إعاقة حركة التجديد مرّة ثانية، كانت بعض الحركات التجديدية قد أدت إلى استيراد أشياء الحضارة الحديثة ـ دون انتقاء أو إعادة استنبات ـ تتسرب معه قيم المنتج لها، وتصوراته ومفاهيمه.. وأدى ذلك إلى التصادم بين الأصيل والموروث، والدخيل والوافد.

إن منطق اليوم في عالم مطلع القرن الجديد ، غيره عن عالم القرن الميلادي المنصرم، فتحديات الأمس تتلقاك اليوم أوسع انتشاراً، وأعظم تأثيراً، وأشد فتكاً، ذلك، لأن الثورة الصناعية الثالثة المتمثلة في تقانة الاتصال، أفضت إلى ثورة معلوماتية هائلة مخيفة، واتصالات متعددة متنوعة ضاغطة رهيبة.. ولم يعد العالم قريةً واحدةً فحسب، بل حجرةً واحدة! وأصبحت الحضارة الغربية الغالبة طاغية بقيمها وأشيائها، وأصبحت حصون هويات الآخرين مفتحة النوافذ، بل مشرعة الأبواب، حتى عند ما يعرف بالعولمة ـ بعد انهيار النموذج الاشتراكي المتجسد في تفكك الدولة السوفياتية ـ فما هي إلاّ تحول كمي وكيفي في تدويل العالم تحت سيادة الحضارة الغربية في مرحلتها الأمريكية.

إن المسألة الفكرية هي القضية المركزية في مستقبل الخطاب الإسلامي، وهي قضية لا تجدي معها الشعارات ولا الخطاب العاطفي ولا الخطاب التهييجي ، بل تحتاج إلى دراسات علمية متخصصة ورصينة ويتبعها تخطيط شامل دقيق.
المطلوب من هذا الفكر تخطي الماضي «المتغيِّر» (في الإسلام)، وفكُّ الاشتباك بين الثابت والمتغيّر.
إن هناك تياراً رائداً في الفكر، استطاع فك الاشتباك المذكور باقتدار، مستصحباً الأول (الثابت) ومسترشداً بالثاني (المتغير).. بدأ في المدرسة الفقهية السورية؛ خافتاً في المبتدأ (محمد المبارك، ومصطفى السباعي، والدواليبي) ثم بارزاً مع ختام القرن الميلادي الماضي (د. مصطفى أحمد الزرقا) ولكنه أيضاً وضح في المدرسة الفقهية المصرية مع الشيخ محمد الغزالي في أواخر حياته، والدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور محمد سليم العوا (في اجتهاداته في الفقه السياسي). ثم أخيراً التجربة الإسلامية السودانية.
السؤال الذي يسميه عز الدين موسى السؤال الصعب هو: كيف يتم التغيير بلا تربية فردية في عالم لم يعد الطفل ولا الفرد حكراً على الأسرة أو المجتمع؟..

في ورقته عن مستقبل الخطاب الإسلامي، يتناول الباحث السوري محمد جمال باروت «مستقبل الفكر السياسي الإسلامي على أعتاب الألفية الثالثة» تحدث باروت عن العلاقة الإشكالية بين «الدين» و«الدولة» التي تبلورت في صيغة «الدولة الإسلامية» منذ أواخر العشرينيات في القرن الماضي، وعلى أساس هذه الصيغة ثارت قضية العلاقة بين الدين والدولة في الفضاء الفقهي السياسي الإسلامي، بعدما كانت إشكالية متبلورة في الفضاء الثقافي الغربي. إن هذه المرحلة الجديدة من تاريخ الفقه الحركي المعاصر، تدخل لحظة تحول مصيرية في العالم، فثمة تحديات جديدة تفرض نفسها، تتعلق في تطوير فهمها للشورى وإلزاميتها، وللعمل السري والعلني، والسلمي والجهادي المسلح، وعلاقتها مع الآخر.

الدكتور أحمد الموصلي (لبناني) في بحثه عن «مستقبل الخطاب الإسلامي في ظل الديمقراطية والعولمة والصراع العربي ـ الإسرائيلي، وشرعية الدولة في مقابل مشروعية (الثورة)» يبدأ حديثه بالتوقع بأن يؤدي الدين في النظام العالمي الجديد دوراً أساسياً في السياسات الدولية والإقليمية، سواء تمظهر هذا الدين في حركات إسلامية شعبية، أو ظهر كعنصر ديناميكي من عناصر الحضارات العالمية. لذى نرى اليوم أن توليفات التمدن والعلمنة والعقلانية تترنح أمام العولمة وما وراء الحداثة والروحانية. ويشهد فجر القرن الحادي والعشرين سيطرة الرأسمالية المتمركزة والتكنولوجيا المخترقة للحدود، ويشكّل كلاهما تهديداً متنامياً لمفهوم الدولة القومية ولايديولوجيتها السياسية القومية. إذ إن الروحية الرأسمالية والتكنولوجيا مناقضة لروحية الدولة القومية وحقائقها، إلاّ أن المطالب الشعبية سواء منها المحلية أو العالمية لا تزال تدور حول التمكين السياسي والاجتماعي والاقتصادي وحول مسائل المشروعية والشرعية وإعادة النظر في دور الدولة وماهيتها. ومن هنا يمكن النظر إلى ظاهرة الأصولية الإسلامية على أنها نموذج تلك الحركات الشعبية ذات التطلعات الدينية أو الحضارية والمشكلة في أخلاقيات التكنولوجيا والرأسمالية والداعية إلى التمكين الشعبي وإلى شرعية مغايرة لشرعية الدولة القومية. إن مستقبل الخطاب الإسلامي يرتبط بشكل وثيق بخطاب الحركات السياسي حول الديمقراطية (الشورى) التعددية.
يوظف الإسلاميون عموماً مبدأ «التوحيد» العقدي، على أنه من الناحية العملية مبدأ تمكين الأمة أو استخلافها في الأرض، أو بعبارة أخرى حكم الأمة (بالشرع). يوظف هذا المبدأ إذاً من أجل منع السيطرة على الأمة من قبل سلطات جائرة ومن أجل تأطير مفهومي (الاستقلال والسيادة) للأمة، فالخطاب القرآني هو خطاب مؤسس لولاية الأمة على نفسها، وحكمها على أمورها، والولاية هذه لا تكون مشروعة إلاّ من خلال اختيار الأمة وانتخابها لحكامها. وهكذا فإن تجليات مبدأ «التوحيد» السياسية تنظّم السلطات بين الأمة وحكامها، في مواجهة الحاكمية الفردية للسلطة المسيطرة على مقدرات الأمة وشعوبها.

من ناحية أخرى فإن البحث عن الحداثة يقوم به الإسلاميون تحت عباءة البحث عن الأصالة، إذ توظف الأصالة من أجل استحضار النظريات الغربية الحديثة وإحلالها محل التقاليد الإسلامية المعرفية. إذاً فالبحث عن الحداثة والأصالة هو أيضاً أداة تمكين، دون الخضوع للحداثة الغربية التي ترتبط في فكر الإسلاميين مع الاستعمار والإمبريالية، ومن أجل تأصيل المفاهيم الجديدة في إطار إسلامي دون الخضوع للتفسيرات التقليدية الإسلامية. فالحداثة «المؤسلمة» ـ حسب تعبير الموصلي ـ تسمح للإسلاميين بتبني التكنولوجيا والعلوم والمؤسسات الغربية التي تعزز قوة المسلمين. أمّا الأصالة «التحديثية» فهي تسمح للإسلاميين بالنأي عما يعتبرونه قوى محلية وعالمية ظالمة، أو غير شرعية أو متسلطة. وهكذا فإن الهوية الأصولية الإسلامية تستمد من نص راسخ (قرآني) يوظف الاستعلاء الأخلاقي والمعنوي ومن حداثة مؤسلمة تزودهم بوسائل استكمال جمع القوة المادية، ومن أصالة تحديثية تميّز الأمة الإسلامية عن باقي الأمم. إلاّ أن مثل هذه الهوية تنبع من عملية ربط القراءات أو الخطابات الدينية بسياقاتها التاريخية، وبالتالي رفض قطيعة دلالتها لجميع أجيال المسلمين.

إن دور الدين في السياسات العالمية في كل حال يظهر جلياً في الصراع العربي الإسرائيلي والثورة الإسلامية في إيران، وهذا لا يدع مجالاً للشك في أن للحركات الإسلامية دوراً حاسماً في التاريخ العالمي المقبل.
مهما كان من شأن هذا المؤتمر/ الندوة فيما قدمه من موضوعات تغطي بشكل سريع حركة التيارات الإسلامية المعاصرة بشكل كلي، ولكن يبقى أن أسئلة المستقبل للخطاب الإسلامي تستحق بمفردها مؤتمرات وحلقات نقاشية وندوات كبرى إذا ما رمنا - البحث بحق – في وجودنا المستقبلي في العالم الجديد.

ليست هناك تعليقات: