الأربعاء، 16 نوفمبر 2011

عودة الوعي بقيمة تصاوير المخطوطات العربية الإسلامية

أسعد عرابي /فنان تشكيلي وباحث في الفن العربي الإسلامي من أصل لبناني مقيم في باريس منذ العام 6791. تراجعت النظرة الاستشراقية حول مفهوم الصورة في الفن العربي الإسلامي مع إطلالة القرن العشرين, وهي النظرة التي كانت لقرون تجد في المناظر الروحية والألوان الموسيقية الرهيفة تجديفاً فنياً يخالف ذوق مبادئ البرتي في عصر النهضة الايطالي، بخاصة إن بعض فناني المعاصرة الرواد من أمثال هنري ماتيس اخذوا ينهلون من نواظمه البصريةـ الصوتية، وذلك اثر تواتر معارض «المنمنمات» ورسوم المخطوطات بين لندن وباريس. ويقول هنري ماتيسفي في مذكراته عن هذه المعارض أنها كانت بمثابة عودة الوعي اللوني بالنسبة إليه وان «الفن الإسلامي هو الوحيد الذي يقتصر في قوة التعبير على اللون واللون وحده». وهكذا نشأت «الوحشية» وتيارات «ما بعد الانطباعية» (مثل الأنبياء وأطياف التعبيرية اللونية في ألمانيا والنمسا وبلجيكا). والواقع إن فضولية هذه الدهشة تعود إلى القرن السابع من العهد المغولي ـ وذلك اثر الاكتشاف الاستعماري الهولندي لثقافة آسيا الوسطى. وهكذا أصبح التصوير التشخيصي العربي الإسلامي في مركز تيارات المعاصرة والحداثة، مثله مثل الرولو الطاوي (الصيني) والاستامب الياباني ورسوم المخطوطات الهندوسية والإشارات «الشامانية». وصل هذا التأثير إلى بول كلي وبابلو بيكاسو وسواهما، ولا زلنا نحن ورثته الشرعيين في غفلة عن مصداقيته، نضع رأسنا في رمال احابيس الحلال والحرام، ولا نستقي من ذاكرته التلفيقية سوى التعاويذ والحروف والطربوش والبابوج والدلاية والمشاهد الاطلالية الفولكلورية، التي تستدر النحيب المفتعل على الخواء والتصحر الثقافي الصوري. لا شك في أن الهجمة الاستعمارية والصهيونية على التراث التصويري محقت القسم الأعظم من مخطوطاته المصورة، وزورت تاريخها. لنتخيل حجم الإخفاء من غياب أربعة قرون منها، ابتداء من منتصف القرن الثامن (بداية وصول الورق السمرقندي) وحتى أواخر القرن الثاني عشر، حتى لنكاد لا نعرف من هؤلاء سوى العباسي البغدادي محمود بن سعيد الواسطي، الذي تخصص في رسوم مقامات الحريري والمخطوطة بأكثر من مئة لوحة محفوظة في المكتبة الوطنية في باريس، منجزة العام 1237 أو 1238م. أي قبل إهلاك هولاكو لمكتبات بغداد بعشرين عاماً، عندما اغرق دجلة بلون مدادها قبل نقله ألفاً منها إلى عاصمته سمرقند. لم يبق من ذكر هؤلاء إلا النزر اليسير ما بين مصر والشام على غرار المصري والجزري وابن دانيال. من المثير للأسف الغياب المطلق لرسوم هذه المخطوطات في المتاحف العربية ما خلا القليل منها في دار الكتب المصرية ومؤخراً في مقتنيات المتحف الإسلامي في الكويت وذلك رغم الإشارات المتواترة لهذه الصناعة وصنّاعها في الفترات الفاطمية المملوكية والأيوبية من خلال معاجم السير والتواريخ. تصوير المخطوطات في آسيا الوسطى علينا إن ننتظر قروناً عدة بعد زلزلة مكتبات بغداد حتى نشهد نهوض صناعة المخطوطات ورسومها في آسيا الوسطى المسلمة، إي ما يشمل اليوم خرائط إيران وجزءاً من العراق وأفغانستان وباكستان وأجزاء من أذربيجان وتركستان وصولاً حتى أناضول العثمانيين ما بين قونية واسطنبول. وعلى رغم إن المصائب التترية ـ المغولية التي ابتليت بها محترفات هذه المناطق (بخاصة هيرات وتبريز) لا تقل تدميراً عن نظائرها في بغداد ودمشق فإن الهجمة الثقافية الاستعمارية كانت اخف وطأة مما عانته ذاكرة رسوم المشرق العربي، وهو ما يؤكده الازدهار النسبي في شيوع نماذجها في المتاحف والطباعات الزاهية. وإذا كان اسم الواسطي يمثل الاستثناء البغدادي الذي تسرب من مساحة التظليل والتقييم فإن شهرة بهزاد اليوم عالمياً لا تقارن به، على رغم إن الأول اسبق من الثاني بأكثر من قرنين. فقد خُصص لأعمال بزهاد الغزيرة ولمدرسة هيرات ما لم يخصص من الدراسات والكتب والمطبوعات لسواهما. وإذا كان بزهاد يستحق هذه الشهرة فإن العديد من الباحثين والجماليين يعتبرونه من دون مغالاة من أعظم المصورين في تاريخ الإنسانية، على رغم إنهم لم يكشفوا بالقدر الكافي إسراره المهنية، باعتباره القُطب النقيب الأول والعارف المعلم الذي خرّج أسماء لامعة من مريديه وتلامذته من أمثال شيخ زاده وعلي مظفر, نقل عديد منهم عقائده الروحية في الرسم والتلوين إلى المحترفات المغولية ثم العثمانية، وعرفنا بفضله اسم أستاذه ميراك ومنافسه المتأخر سلطان محمد. سلطان التصوير: بزهاد تقع بين دفتي تاريخ ميلاد بزهاد في هيرات العام 1465 ووفاته العام 1535م في تبريز ابرز الإحداث التشكيلية (نشوء المحترفات المحلية) المرتبطة بالإحداث السياسية، والارتباط عضوي في هذا المقام لان العائلات الحاكمة هي التي ترعى فن الكتاب وتتسابق على تأسيس دور العلم ودائرة الحكمة (نموذجها الذي أسسه المأمون للترجمة) والمكتبات العامة. يقع تاريخه ضمن العهدين التيموري والصفوي، ولكنه عمل تحت حماية الكثير من السلالات السنية والشيعية من تركمان ويزبك إلى ايرانيين فرس، إلى مغول وتيمورلنكيين. لكن اسمه ارتبط بمؤسس الدولة الصفوية الشيعية (الدولة الوطنية الايرانية الأولى) إسماعيل شاه (وكان سابقاً بعهده التيموري حسين بقراو وزيره المتنور مير علي شيخ نواوي)، فبعد التماع نجمه في هيرات وتأسيسه لمدرستها وتيارها الغني المعروف، يطلبه إسماعيل شاه في العام 1510م إلى تبريز وبمرسوم تاريخي كتبه بعد فترة العام 1522م محفوظ في متحف طوب قابو يصبح فيه بزهاد مسؤولا عن المحترف الملكي للمكتبة السلطانية بشتى صناعتها من موضبي صناعة صفحات الرسم بالألوان، هي التي لا يقدر على غلاء صباغاتها إي فنان خاصة مادة اللازورد والذهب. بزهاد النخبوي أسس كمال الدين بزهاد لفن تشخيصي تعبيري نخبوي (ثقافي)، موازياً لنصوص كبار الشعراء الملحميين الذين يكتبون بالفارسية من مثال سعدي وحافظ وجامي والعطار والرومي، كان متأثراً مثلهم بالعرفانية الصوفية والطريقة النقشبندية، وإذا صوّر الداعية ماني ذلك المصور الذي عاش في القرن الثالث وكان يعتمد قوته في الرسم والتلوين في نشر دعوته فإن بزهاد لم يكن يحب مقارنته به بسبب تربيته الصوفية، لذلك فهو بعيد عما يدعيه المستشرقون من استبطانه للثنوية الزرادشتية أو المزدكية المنوية، بخاصة انه كان على صراع مرير ومخفي مع التقاليد البوذية «الطاوية» المحمولة مع «روليهات» الصين من قبل المغول الخانيين والتيموريين (أبناء تيمورلنك) وذلك لسبب القرابة القبائلية بين هؤلاء وحكام الصين سواء الذين حكموا بكين في البداية قبل عائلة إيوان أو الذين انقلبوا عليهم وهم عائلة مينغ، والاسمان يعبران عن أسلوبين صينيين متمايزين في تصوير الطبيعة، وضمن منظور تقصب «الشامان» لهيئة الصخور والمياه باعتباره اصل الكون، واعتبار الفراغ نفسا قدسيا من الواجب عدم إرهاقه بأثقال اللون والرسم والتفاصيل. وبسبب قوة شخصيته فقد كان لا يُذعن لسلطة الخطاطين في إخراج صفحات الرسم، بل انه زعزع تقاليدهم لصالح تفوق الرسم، وعزل الكتابة في مستطيلات متواضعة المساحة مزروعة داخل الفراغ. كما اخترع صيغة الصورة العارية عن الكتابة كالتي تفترش صفحتين متقابلتين، أو أنها تُرسم خارج المخطوطة ثم تلصق في مكانها. لعل أهم تطور ابتدعه بزهاد هو استبدال الفراغ «الطاوي» الصيني الأحادي اللون بالفراغ التنزيهي الذي يعتمد على توزيع شطرنجي للون، محاولاً عبر احواله الشطية والوجودية الاتحاد بالموسيقى الصوفية ورفع الحدود بين عقيرة اللون وصوته البصري. تبدو ألوانه بالغة الإشعاع (مثل ألوان السيراميك المزجج) مبعثرة في بؤر متباعدة ومعزولة، تعوم في فراغ فلكي معراجي هادئ اللون، بما يسمح بترصيع التركواز (الفيروز) أو العقيق أو اللازوردي أو الذهبي، وإثارة الحوار الرهيف بين الألوان المتكاملة والمسطحة دون ظل أو منظور أو حجم، يزداد عدد الأشخاص مقارنة برسوم الواسطي، ويزداد الفراغ بالتالي رحابة وعمارة هندسية داخلية، لدرجة تبدو فيه السطوح الزخرفية وجدر العمائر البلاطية وكأنها ملصقات تجريدية. ترسّخ منظور عين الطائر (السيمورغ أو العنقاء) الذي ندعوه «بعين وحدة الوجود» والاقتصار الزهدي على بعدين، أقول ترسّخ المعنى التنزيهي في حين يعتمد المشهد الصيني الوصفي على المعنى التشبيهي، تزداد العناصر إطلاقا بهجرتها من باطن الصفحة إلى الهامش، إي من المكان الفرضي المهندس إلى المكان المطلق، بما يشبه دور المحراب كبرزخ متوسط بين عالم الملكوت والناسوت واللاهوت. عرف بزهاد بشجرته الرمزية الخريفية التي يزرعها في شتى التصاوير (ذات الأوراق الشاحبة أو الجمرية القانية)، كما عُرف بأفضلية الطوبوغرافية الهندسية البلاطية الحضرية بحيث تبدو الشخوص وكأنها عرائس معلقة بها. وهنا نعثر على حيوية العلاقة بين الشكل المكوّر لثوب الفتاة وتعارضه مع الخطوط المتعامدة للباب، كما إن حدة ميلان بعض الخطوط الأساسية (مثل المشربية أو السجادة) يمنح للفراغ حيوية شطحية. ويتعامل بزهاد مع العالم المرسوم على أساس انه ورقة أو جدار مسطّح أو مرآة، ويضاعف بالتالي من إبعاد رموزه الباطنية، فلوحة «يوسف وزليخة» المعروضة في المكتبة الوطنية في القاهرة والتي تمثل زليخة وهي تمسك بتلابيب يوسف اقرب إلى القزمين العائمين في فراغ متاهي مهندس بالأبواب السبعة المغلقة مع أدراجها المائلة. لا يمكننا بالنتيجة إن نعوّل على توقيع بزهاد المتواضع ذي العبارة الشهيرة «عمل العبد بزهاد»، لأنها كثيراً ما تكون امهاراً رسمياً لمحترفه، بخاصة في تبريز. فقد وهن نظره وفقدت أنامله ثباتها مع تقدمه في العمر واقتصر على مراقبة الرسم والتلوين والإشراف عليه، ناهيك إن عدداً من الصناع المتأخرين كانوا يزورون توقيعه طلباً للالتحاق بأسطورة شهرته. لكن التمييز يبدو سهلاً بقدر ما هو يسير تميز واستقلال شخصية رسوم بزهاد، بخاصة مقارنة بأعمال المصورين الذين استمروا في استسهال استثمار العناصر المنقولة عن التقنية الصينية (بخاصة الروليهات الموجودة في تبريز وسواها)، ومن هؤلاء سلطان محمد وأكثر من ذلك المتأخرين من أمثال محمد سياح قلم ومحمدي. ويقول البعض إن اصل هذا الأخير صيني. يحاول المستشرقون إثارة الفرقة بين اتجاهات محترفات الفن الإسلامي على أساس قومي، وذلك بالإلحاح على تسمية كل ما هو رسوم كتب «بالمنمنمة الفارسية»، فإذا كان لكل إقليم محترفاته وخصائصه الثقافية فإن البعد الروحي التصوفي يجمع الجميع في حالات وجدية ورمزية واحدة، حتى ليبدو أن عزلها نوع من تقسيم ما لا يقبل القسمة سواء أكانت الخطوط المرفقة بالنسخي العباسي ام بالنص تعليق الفارسي. المصدر: موقع النور . http://www.annoormagazine.com/mag/ar/167/thakafa/thakafa_02.asp

ليست هناك تعليقات: