الجمعة، 5 أغسطس 2011

موقف ابن تيمية من التكفير:


المبحث الخامس :
موقفه من التكفير:
من يدرس منهج ابن تيمية -بإنصاف وموضوعية وحياد- في مسائل التكفير، يجد أن الرجل في قمة التقوى والتحرز وحسن الظن، وتغليب العذر بالجهل أو الاجتهاد، ونصوصه ناطقة ومصرحة بذلك فما يُشاع عن ابن تيمية غير صحيح، وهو من الأغاليط الكثيرة المنتشرة والتي يقف وراءها ضعف التصور أو سوء الفهم ومنهجه في ذالك هو الوسطية والاعتدال ، فالرجل – شأنه شأن علماء أهل السنة والجماعة – معتدل في حكمه ، وسط في مذهبه ، فلا هو بالتكفيري المتسرع في الحكم على النَّاس ، كالخوارج ومن مشى على نهجهم ، ولا هو بالذي يسكت عن التكفير حتى في أوضح المسائل ، ، بحيث يعطل حكم الله تعالى في هذه المسألة أو تلك ، ويجرىء النّاس على المعاصي والفجور كالمرجئة
.
ومن هنا كانت رؤيته في مسألة التكفير ، رؤية واضحة صحيحة ، لأنَّها تقوم على مقومات الأدلة الصحيحة .
وأما استشهاد التكفيرون به فليس بد ليل على أن الرجل كان تكفيري، وذلك لأمور، منها:
أولاً: أن التكفيريين يستشهدون بالقرآن والسنة، فهل يقول عاقل أن القرآن والسنة منابع تطرف وتكفير؟ أو أن هذا يعني أنهم وجدوا فيهما ما يوافق أهواءهم، معاذ الله. ثم إن التكفيريين يستشهدون –أيضًا- بالإمام الشافعي والإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل، والقرطبي وكثير من الأئمة غير هؤلاء، فهل الخطأ يكمن في هؤلاء الأئمة أم في قصور تصورات التكفيريين؟
ثانيًا: أن المرجئة –أيضًا- يستشهدون ويحتجون بكلام ابن تيمية، وهؤلاء هم نقيض التكفيريين، فهل كان ابن تيمية من المرجئة؟
كلا، فلم يكن الرجل –رحمه الله- لا من هؤلاء ولا من هؤلاء، بل كان منهجه وسط بين إفراط وتفريط، أي منهج أهل السنة والجماعة. وسنستعرض بعض من اقواله تبين صدق ماقلناه
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ((هذا مع أني دائماً ومن جالسني يعلم ذلك مني، أني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا عُلم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية، التي من خالفها كان كافراً تارة وفاسقاً اخرى وعاصياً أخرى وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العلمية))( ) .
وقال رحمه الله:
(( وأما تكفير شخص علم إيمانه بمجرد الغلط في ذلك فعظيم، فقد ثبت في الصحيح عن ثابت بن الضحاك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «.. ولعن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمناً بكفر فهو كقتله»، وثبت في الصحيح أن: «من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء به أحدهما))( ).
وقال رحمه الله:
((أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأياً ويكفرون من خالفهم فيه، وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا يكفرون من خالفهم، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق))( ) .
وقال رحمه الله:
(( ولا يلزم إذا كان القول كفراً أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل، فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في حقه، وذلك له شروط وموانع))( ).
وقال : (( اعلم إن مسائل التكفير و التفسيق هي من مسائل الأسماء والأحكام التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة وتتعلق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمة وغير ذلك في الدار الدنيا فان الله سبحانه اوجب الجنة للمؤمنين وحرم الجنة على الكافرين وهذا من الأحكام الكلية في كل وقت ومكان ...))( ).
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى :
أنما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضا حق لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار وهى مسألة الوعيد فان نصوص القرآن في الوعيد مطلقة كقوله إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية وكذلك سائر ما ورد من فعل كذا فله كذا فإن هذه مطلقة عامة وهى بمنزلة قول من قال من السلف من قال كذا فهو كذا ثم الشخص المعين يلتغى حكم الوعيد فيه بتوبة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة والتكفير هو من الوعيد فانه وان كان القول تكذيبا لما قاله الرسول لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئا وكنت دائما أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم فوالله لإن قدر الله على ليعذبنى عذابا ما عذبه أحدا من العالمين ففعلوا به ذلك فقال الله له ما حملك على ما فعلت قال خشيتك فغفر له فهذا رجل شك فى قدرة الله وفى إعادته إذا ذرى بل اعتقد أنه لا يعاد وهذا كفر باتفاق المسلمين لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول أولى بالمغفرة من مثل هذا ...( ) .
و قال رحمه الله :
والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض لا تحل إلا بإذن الله ورسوله ...( ) .
تأمل كلام شيخ الإسلام كيف يقرر مسألة كفر الجهمية قال رحمه الله:
المشهور من مذهب الإمام أحمد وعامة أئمة السنة تكفير الجهمية وهم المعطلة لصفات الرحمن فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاءت به الرسل من الكتاب وحقيقة قولهم جحود الصانع ففيه جحود الرب وجحود ما أخبر به عن نفسه على لسان رسله ولهذا قال عبدالله بن المبارك إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية وقال غير واحد من الأئمة أنهم اكفر من اليهود والنصارى يعنون من هذه الجهة ولهذا كفروا من يقول إن القرآن مخلوق وان الله لا يرى في الآخرة وان الله ليس على العرش وان الله ليس له علم ولا قدرة ولا رحمة ولا غضب ونحو ذلك من صفاته .. اه
ثم تأمل ماذا يقول عند تطبيق التكفير على المعين قال رحمه الله :
أحمد لم يكفر أعيان الجهمية ولا كل من قال إنه جهمي كفره ولا كل من وافق الجهمية فىبعض بدعهم بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة لم يكفرهم أحمد وأمثاله بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم ويدعو لهم ويرى الإئتمام بهم فى الصلوات خلفهم والحج والغزو معهم والمنع من الخروج عليهم ما يراه لأمثالهم من الأئمة وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم وإن لم يعلموا هم أنه كفر وكان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان فيجمع بين طاعة الله ورسوله فى إظهار السنة والدين وإنكار بدع الجهمية الملحدين وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة وإن كانوا جهالا مبتدعين وظلمة فاسقين ...( ) .
فكيف لو شاهد رحمه الله من سفك دماء المسلمين و من كفر الحكام قاطبة و لم يراعي حق رعية أو راعي و أحل قتل جنود المسلمين , و بل بعضهم يكرر قول العلماء بشروط و موانع التكفير و عند التطبيق لا يطبق الشروط و لم يرفع الموانع فحسبنا الله و نعم الوكيل.
قال رحمه الله تعالى بعد أن ذكر تفاصيل تكفير المعين قال :
وإذا عرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدكم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل وان كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر وهكذا الكلام في تكفير جميع المعينين مع إن بعض هذه البدعة أشد من بعض وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وان اخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة ....( ) .
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
قالوا من قال كذا فهو كافر اعتقد المستمع إن هذا اللفظ شامل لكل من قاله ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين وان تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه فإن الإمام أحمد مثلا قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن ونفى الصفات وامتحنوه وسائر علماء وقته وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس والقتل والعزل عن الولايات وقطع الأرزاق ورد الشهادة وترك تخليصهم من أيدي العدو بحيث كان كثير من أولى الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم يكفرون كل من لم يكن جهميا موافقا لهم على نفي الصفات مثل القول بخلق القرآن ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر فلا يولونه ولاية ولا يفتكونه من عدو ولا يعطونه شيئا من بيت المال ولا يقبلون له شهادة ولا فتيا ولا رواية ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة والافتكاك من الأسر وغير ذلك فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان ومن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان ومن كان داعيا إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه وحبسوه ومعلوم إن هذا من أغلظ التجهم فإن الدعاء إلى المقالة أعظم منقولها وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون القرآن مخلوق وان الله لا يرى في الآخرة ...( ) .
نقل شيخ الإسلام بعض الأخطاء التي وقع فيها بعض العلماء ثم قال بعد ذلك رحمه :
وهذا خطأ معلوم بالإجماع والنقل المتواتر ومع هذا فلما لم يكن قد تواتر النقل عندهم بذلك لم يكفروا وان كان يكفر بذلك من قامت عليه الحجة بالنقل المتواتر ...( ) .
قال رحمه الله :
معلوم أن الخوارج هم مبتدعة مارقون كما ثبت بالنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة ذمهم والطعن عليهم وهم إنما تأولوا آيات من القرآن على ما اعتقدوه وجعلوا من خالف ذلك كافرا لاعتقادهم أنه خالف القرآن فمن ابتدع أقوالا ليس لها أصل في القرآن وجعل من خالفها كافرا كان قوله شرا من قول الخوارج ...( ) .
و قال رحمه الله تعالى:
ثبت في الصحيح أن من قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما وإذا كان تكفير المعين على سبيل الشتم كقتله فكيف يكون تكفيره على سبيل الاعتقاد فإن ذلك أعظم من قتله ..( ).
وقال رحمه الله :
فان تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمة المسلمين لما يعتقدون أنهم اخطئوا فيه من الدين وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأالمحض بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله وليس كل من يترك بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق بل ولا يأثم .( ).



و قال رحمه الله تعالى :
قال الشافعي لأن أتكلم في علم يقال لي فيه أخطأت أحب إلي من أن أتكلم في علم يقال لي فيه كفرت فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون ..( ).
وأمَّا موانع التكفير عند شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ، فهي باختصار :
-1 الجهل : وفي ذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى :
(( إنَّ المقالة تكون كفراً : كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحليل الزنا والخمر والميسر ونكاح ذوات المحارم ، ثُمَّ القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب ، وكذا لا يكفر به جاحده كمن هو حديث عهد بالإسلام ، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام ، فهذا لا يُحكم بكفره بجحد شيئ مما أنزل على الرسول إذا لم يعلم أنَّه أنزل على الرسول – صلى الله عليه وسلم ))( ) .
2- الخطأ : يقول شيخ الإسلام رحمه الله: " ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطناً وظاهراً ، لكن فيه جهلٌ وظلم حتى أخطأ ما أخطأ من السنة ، فهذا ليس بكافر ولا منافق ، ثُمَّ قد يكون منه عدوان وظلم يكون فاسقاً أو عاصياً ، وقد يكون مخطئاً متأولاً مغفور له له خطؤه( ).
-3 التأويل : يقول شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله تعالى التأويل ، إذ أنَّ الأفهام تختلف من شخص إلى آخر ، لذا ليس كل من تكلم بكلمة الكفر يكفر ، فربما تأوَّل – مع حرصه على طلب الحق - فأخطأ ، وفي ذلك فلا يكفر بهذا .
4 - الإكراه يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : " وإذا أكره على كلمة الكفر جاز له التكلم بها مع طمأنينة قلبه بالإيمان ( )".وقال رحمه الله في مجموع الفتاوى:" ولو أكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان ( )". ويقول : " ومنهم من يتكلم بالكفر مكرهاً مع طمأنينة قلبه ، وهذا مؤمن باطناً وظاهراً ، فإنَّه وإن أظهر الكفر لبعض النَّاس لما أكره عليه ، أو كتم عنه إيمانه ، فهو يتكلم بالإيمان في خلواته ومع من يأمنه ، ويعمل بما يمكنه ، وما عجز عنه فقد سقط عنه ( )". :

ليست هناك تعليقات: