الجمعة، 5 أغسطس 2011

وجوب الوحدة بين المسلمين ونبذ التفرقة عند ابن تيمية.

المبحث السادس:
وجوب الوحدة بين المسلمين ونبذ التفرقة.
إن من أعظم غايات الشريعة إجتماع الكلمة وألفة القلوب بين المسلمين؛لأنه بإجتماع الكلمة وألفة القلوب تتحقق مصالح الدين والدنيا ويتحقق التناصر والتعاون والتعاضد،فإن الله تعالى قال : ( وإعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)( ) ،وقال تعالى : ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)( ) ،وفي آية أخرى ( وأنا ربكم فاتقون)( ) ،وقال تعالى: ( إن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)،وقال "صلى الله عليه وسلم ": ( مثل المؤمنون في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضواً تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)( ) ،وقال "صلى الله عليه وسلم": ( أنا أمركم بخمس الله أمرني بهن بالجماعة بالسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الأسلام من عتقة الى أن يرجع)( ).
وقد شرع لنا ديننا الحنيف كل ما يقوي عوامل الألفة والأتحاد ويزيل عوامل البغضاء والكراهة والاختلاف فنهى عن الهجران لأنه سبب الكراهة والبغضاء والبعد والحقد والتناحر والتدابر والتنازع والتفرق،قال "صلى الله عليه وسلم" ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)( ) ، ولما كان الاختلاف مفسداًللدين والدنيا فقد إعتبرها الاسلام إنفصالاً عنه وكفراً،قال تعالى: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء)."( ) "
إن الفرقة شُطط كبير وجرم عظيم يبدد القوى ويمزق المجتمع عاقبته وخيمة في الدنيا وخسارة في الأخرة ومآله شر مال ويجر الى أسوأ الأحوال، وحذر المسلمين من الخلاف في الدين والتفرق في فهمه شيعاً متناحرة وأحزاباً متلاعنة كما فعل الأولون،قال تعالى: ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا وإختلفوا من بعد ما جاءهم البينات أولائك لهم عذاب عظيم)( ) ،( فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون)( ).
وإن الشقاق يضعف الأمم ويوهن المجتمعات القوية ويميت الأمم ولذلك جعل الله أول عظة للمسلمين بعد إنتصارهم في معركة بدر أن يوحدوا صفوفهم ويلموا شملهم ويجمعوا أمرهم،وذلك عندما تطلعت بعض النفوس لحظها من الغنائم، قال تعالى (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين)( ) ،أفهمهم الله أن الأتحاد في العمل لله هو طريق النصر الأكبر وإتجاه الهدف وتوحيد الكلمة كما أن الفرقة والتنازع طريق الهزيمة والخسران،فقال تعالى: ( واطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)( ) ،فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه وحين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفعال والأفكار،فاذا إستسلموا لله ورسوله إنتفى أهم سبب للنزاع ومن أعظم ما نهى عنه الأسلام الخوض بالباطل في الأحداث والفتن لأنها سبب مهم لتفرق وحدة المسلمين،قال"صلى الله عليه وسلم": ( إياكم والفتن فإن اللسان فيها كوقع السيف)( ) ، وقال"صلى الله عليه وسلم": ( لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)، أو قال( تختلف وجوهكم)( ) ؟،وقال عبدالله بن مسعود" رضي الله عنه" (الخلاف كله شر)( ) ،وقال الحسن بن علي: ( يا أيها الناس إن الذي تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة)( ) ،هذه المعاني الجميلة واجبة في كل وقت على المسلم ولكنها متأكدة الوجوب في أوقات الشدائد والأزمات والفتن حفاظاً على حوزة المسلمين وحراسة للملة والدين لأن إجتماع الكلمة قوة المسلمين وإختلاف الكلمة ضعف لهم.
وخير سبيل للخلاص من الخلاف هو الأحتكام الى كتاب الله وسنة الرسول"صلى الله عليه وسلم"، قال تعالى: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما بينهم ثم لا يجدو في أنفسهم جرماً مما قضيت ويسلموا تسليما)( ) ،( فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر ذلك خير وأحسن تأويلا)( ) ،وكذلك من سبل الأبتعاد عن الخلاف هو الأبتعاد عن البدع،روى البيهقي في سننه عن أبي بكر الصديق"رضي الله عنه" في أحد خطبه قال:-
( أنه لايحل أن يكون للمسلمين أميران فإنه مهما يكن ذلك يختلف أمرهم وأحكامُهُم وتتفرق جماعتهم ويتنازعوا فيما بينهم هنالك تترك السنة وتظهر البدعة وتعظم الفتنة وليس لأحد على ذلك صلاح)( ) ،وعن جابر قال:- قال" صلى الله عليه وسلم" ( شر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة)( ).
وبهذا أجمع العلماء على أن الجماعة والالفة أصل من أصول الدين يضحى في سبيله بالفروع، قال ابن تيمة رحمه الله: (الاعتصام بالجماعة والالفة أصل من اصول الدين والفرع المتنازع من الفروع الخفية فكيف يقدم في الاصل بحفظ)( ) ،وإن الوحدة من أوجب الأولويات في هذه المرحلة الراهنة التي تمر بها أمتنا من التفرق والتشرذم و ان الفرقة والخلاف كانت السبب الرئيسي في حل عقدة الاسلام المتماسكة وقد كانت سبباً في تفرقة الحركات الاسلامية على وجه الخصوص،فبالوحدة يعز الاسلام والمسلمون،وإذا كانت الوحدة بين المسلمين مطلباً شرعياً وواجب فلا شك أنها بين الذين يتصدون للدعوة والجهاد أشد مطلباً وأوجب.
فينبغي تأليف القلوب بين الحركات الاسلامية وتعاونها على البر والتقوى والابتعاد عن التعصب للاشخاص والاحزاب.
نماذج من اقوال ابن تيمية في حرصه على وحدة المسلمين وجمع كلمتهم
ومن الميز والخصائص المهمة في ابن تيمية تغليبه للمصلحة العامة المتمثلة في وحدة الصف الإسلامي ، وجمع الكلمة، ورأب الصدع، ونبذ الاختلاف، وهذه الميزة مبثوثة في أقواله ومشهود لها من أفعاله وسيرته، و كان -رحمه الله- حريصاً على تقارب المسلمين، ليس بالعبارات الخاوية، ولا بالمؤتمرات الشكلية، بل بمنهج عملي أصيل، كان له دور كبير في توحيد الصف الإسلامي في وجه المخاطر التي تحدق بهم.
فقد أرسل ابن تيمية رسالة إلى إخوانه وأصحابه بدمشق، يحثهم فيها على الوحدة الإسلامية، ويدعوهم إلى اجتماع الكلمة، وإصلاح ذات البين. ومما قاله فيها:
(وتعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين تأليف القلوب واجتماع الكلمة وصلاح ذات البين، فان الله تعالى يقول: فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ويقول: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويقول: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف وتنهى عن الفرقة والاختلاف، وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة)( ).
وقال ابن تيمية مبيناً تجربته الشخصية والعملية: (والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة ومنافرة، وأنا كنت من أعظم الناس تأليفاً لقلوب المسلمين وطلباً لاتفاق كلمتهم واتباعاً لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله و أزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة، وبينت لهم أن الأشعرى كان من أَجَلِّ المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد -رحمه الله- ونحوه المنتصرين لطريقه كما يذكر الأشعري ذلك في كتبه.. وفرح المسلمون باتفاق الكلمة وأظهرتُ ما ذكره ابن عساكر في مناقبه، أنه لم تزل الحنابلة والأشاعرة متفقين إلى زمن القشيرى، فإنه لما جرت تلك الفتنة ببغداد تفرقت الكلمة)( ).
وبيَّن لأصحابه وتلاميذه منهجه الذي يسير عليه تجاه المسلمين، والذي لا يحيد عنه، هو تقديم مصلحة المسلمين، وإحسان الظن بهم، حيث قال: (وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها –أي فتنة خصومه- وفي غيرها، وإقامة كل خير)( ).
وفي ذمه للتفرقة يقول ابن تيمية : " التفرق و الاختلاف المخالف للاجتماع و الائتلاف حتى يصير بعضهم يبغض بعضا و يعاديه و يحب بعضا و يواليه على غير ذات الله و حتى يفضي الأمر يبعضهم إلى الطعن و اللعن و الهمز و اللمز و يبعضهم إلى الاقتتال بالأيدي و السلاح و يبعضهم إلى المهاجرة و المقاطعة حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض ، و هذا كله من أعظم الأمور التي حرمها الله و رسوله "
الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع "( ).
(( وهذا الأصل العظيم وهو الاعتصام بحبل الله جميعا وأن لا يتفرق هو من أعظم أصول الإسلام ومما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم ومما عظمت به وصية النبي في مواطن عامة وخاصة مثل قوله عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة وقوله فإن الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد وقوله من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ........ وقوله من جاءكم وامركم على رجل واحد منكم يريد أن يفرق جماعتكم فإضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان وقوله يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطأوا فلكم وعليهم وقوله ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة منها واحدة ناجية وإثنتان وسبعون فى الناروقيل ومن الفرقة الناجية قال هى الجماعة يد الله على الجماعة ))( ) .
قال ابن تيميه : " جعل الله عباده المؤمنين بعضهم أولياء بعض, وجعلهم إخوة , وجعلهم متناصرين متراحمين متعاطفين وأمرهم سبحانه بالإئتلاف و نهاهم عن الإفتراق والاختلاف, فكيف يجوز مع هذه لأمة محمد أن تفترق وتختلف حتى يوالي الرجل طائفة ويعادى طائفة أخرى بالظن والهوى بلا برهان من الله تعالى ( )" . فإن الاختلاف في الرأي لا يمكن أن يكون مؤدياً إلى فتنة ، أو مورثاً لفرقة إلا إذا صاحبة بغي أو هوى كما قال تعالى:﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ﴾( قال: ﴿ ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾( ).
قال ابن تيمية: " وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار ، وهو بغضٌ مأمور به ، فإن كان البغض الذي أمر الله به قد نهى صاحبه أن يظلم من أبغضه ، فكيف في بغض مسلم بتأويل وشبهة أو بهوى نفس فهو أحق أن لا يظلم( ) "


وقد أشار ابن تيمية (رحمه الله) الى أن الطوائف المنتسبة للإسلام الذين يوجبون الإسلام ويحرمون ما وراءه هم باتفاق المسلمين خير من الفلاسفة الذين يسوغون التدين بأي دين كان ولذلك يقول: (فمن جعل الفيلسوف الذي يبيح دين المشركين واليهود والنصارى خير من الثنتين والسبعين فرقة فليس بمسلم )( ) .

ومن اقواله بوجوب طاعة ولي الامر حفاضا على وحدة المسلمين
قال ابن تيميه ( ولان الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة وكذلك سائر ما أوجبه الله تعالى من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة ولهذا روي : إن السلطان ظل الله في الأرض .ويقال: ستون سنة من أمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان )( ). وقال : ( لاإسلام إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمارة ولا إمارة إلا بطاعة) لذلك يقول عمر بن الخطاب ( إن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها)( ) .

- وذكرمن صفات أهل التفرق والاختلاف:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : «من والى موافقه وعادى خالفه وفرق بين جماعة المسلمين وكفر وفسق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات ؛ واستحل قتال مخالفه دون موافقه فهؤلاء من أهل التفرق والاختلافات»( )
- لا قومية و لا عصبية في الإسلام:
قال ابن تيمية -رحمه الله-: «وكلُّ ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن: من نسب أو بلد، أو جنس أو مذهب، أو طريقة: فهو من عزاء الجاهلية، بل لما اختصم رجلان من المهاجرين والأنصار فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَبِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ» وغضب لذلك غضبًا شديدًا»( )
وفي اللحظات الأخيرة من حياته –رحمه الله- مرض أياماً في محبسه الأخير في القلعة، فعلم بمرضه أحد وجهاء الدولة وهو شمس الدين الوزير، فجاءه يستأذنه في الدخول عليه لعيادته، فأذن الشيخ له في ذلك، فلما جلس عنده أخذ الوزير يعتذر له عن نفسه، ويلتمس منه أن يحلّه مما عساه أن يكون قد وقع منه في حق الشيخ من تقصير أو غيره.
فأجابه ابن تيمية بقوله: إني قد أحللتُك وجميع من عاداني وهو لا يعلم أني على الحق.
وقال له أيضاً: إني قد أحللت السلطان الناصر ابن قلاوون من حبسه إياي لكونه فعل ذلك مقلداً غيره معذوراً، ولم يفعله لحظّ نفسه، بل لما بلغهُ مما ظنه حقاً من مُبلِّغه، والله يعلم أنه بخلافه. ثم قال: قد أحللتُ كلَّ واحدٍ مما كان بيني وبينه( ).
ولم يبق ابن تيمية طويلاً بعد ذلك، حيث وافته الـمنَّية وهو في السجن، مظلوماً من قبل أعدائه، وهو صابر محتسب أجره عند الله، مات وليس في قلبه ذرة كراهية تجاه أي مسلم، مات بعد أن سامح الجميع، مات وهو راضٍ عن نفسه التي طالما تخلت عن حظوظها الذاتية في سبيل الأمة المسلمة.

ليست هناك تعليقات: