الثلاثاء، 20 يوليو 2010

السلفية المصرية

السلفية المصرية

فراج إسماعيل | 12-07-2010 23:56

تستخدم مقولة ابن عساكر الدمشقي التي قالها في القرن السادس الهجري "لحوم العلماء عليهم رحمة الله مسمومة" في غير مناسبة لإرهاب كل من يناقش رأيا أو ينبه إلى خطأ يرتأيه وتحذيره من مصير مشئوم، وقد تحولت هذه المقولة التي ترددها طائفة من الإسلاميين إلى سيف حاد يستخدمه أيضا العلمانيون والليبراليون للتحذير من قيام دولة إسلامية لأنها ستكون عنذئذ معصومة من الخطأ والرد والنقد باعتبار القائمين عليها لحومهم مسمومة!

أدري أن ابن عساكر قصد بها علماء الأمة الكبار الذين ماتوا، وأن من أخذوها عنه في زمننا الحالي الأغبر حذفوا منها عن عمد الإضافة القائلة "عليهم رحمة الله" ليمنعوا العقل السليم من تدبرها على معناها الحقيقي، مع أنه لو كان يعني بها العلماء الذين على قيد الحياة ما زاد من الأمر شيئا ولا انتقص، فهي ليست وحيا يوحى، ولسنا مطالبين بأن نعمل بها ونصدقها إذا تعارضت مع الإسلام.

والحقيقة أن هذه الطائفة من الأمة التي زادت في مصر بعد الهجرة إلى دول النفط والعودة لتأسيس "سلفية مصرية" متشددة لا تستند بأي حال على أصول أو فروع السلف الصالح التي تنتسب إليها السلفية الصحيحة المتوارية برحيل آخر علمائها الأفذاذ الكبار، وحاد بها بعض طلبة العلم عن طريقها وقاموا بتهجينها لتناسب واقع حالهم الدنيوي المتسق تماما مع أهداف السلطة.

ما دام وجودهم يرتكز على الفروع ومناقشة أحكام الحيض والنفاس والمصافحة ولعاب الكلب والابتعاد عن جوهر الإسلام كدولة ومجتمع وحاجيات وضرورات ومشاكل مزمنة ووقتية يجب حلها، فلا يوجد مانع لمنحهم القنوات الفضائية التي يشغلون بها الناس عن حياتهم، وليؤصلوا فينا مقولة "لحوم العلماء مسمومة" حتى ينسجم المعنى مع الذي يدعو إليه أعداء التيار الإسلامي بوضع الدين وكلام الله ورسوله والسلف الصالح في المكان الذي يربأ عن التحزب والسياسة، وبذلك فلا يصح أن تقوم دولة تحكم بالتشريع الإسلامي.

أي فضائية دينية مصرية تناقش حاليا قضية الحكم، الانتخابات والتوريث والديمقراطية والحريات العامة والخاصة وتجاوزات رجال الشرطة والتعذيب؟!

الإجابة لا يوجد.. فهذه الفضائيات تأسست بعقد مكتوب بين القائمين عليها وبين الأمن، وليس هذا اتهاما فكل العاملين في مجال الإعلام في مصر يعلمون أن موافقة الأمن ضرورية جدا للصحف والقنوات الخاصة وللأئمة الجدد. يستطيع الأمن أن يتدخل في "فيمتوثانية" ليقطع إرسال فضائية لا تنفذ ذلك العقد المكتوب، وأذكر أن قناة "اقرأ" في أول عهدها بالقاهرة أجرت حوارا على الهواء مباشرة مع الشيخ عمر عبدالكافي قبل هجرته، وقُطع الإرسال بعد دقائق قليلة وفق ما سمعت من مذيع الحلقة الأستاذ محمد بركات الذي جاء يسألني سبب سماحهم لي بحوار الشيخ عبدالكافي في مجلة "المجلة" وبعنوان غلاف زاعق يقول " منعوني من السفر والحج والعمرة لأنني اخترقت صفوتهم".. فحكيت له أنني تلقيت إتصالا في وقت متأخر من الليل عاتبا لأنني أعرف أن عبدالكافي ممنوع من الكلام ومع ذلك حاورته دون أن استئذنهم، فرددت بكلمات قليلة: أنا صحفي استخدم حريتي ولا استأذن إلا رئيس تحريري، فرد مداعبا: أنا كده حاشتكيك للصعايدة!

وسألني هذا المسئول يومها: كيف تم توزيع هذا العدد في مصر بعد منعه ثلاثة أيام، فأجبته بأنني تحدثت مع السيد صفوت الشريف – وكان وزيرا للإعلام – فأمر بفسحه. هنا عقب المسئول: سألونا قبل أن يفسحوه فوافقنا لهم.

ربما أكون قد كتبت هذه القصة من قبل وها أنا استعيدها فقط للتدليل على أننا "كلنا في الهم سواء" لكن البعض منا يستطيع التحايل عليه بالابتعاد عن تنويم الأمة النائمة أصلا وعن تنويم شبابها الذين تصدمك ردودهم وتعقيباتهم، فالواحد منهم مستعد أن يضرب على خده الأيسر فيعطي الأيمن، ويركل في بطنه فيستدير بقفاه، لكنه ليس مستعدا أن ترد شيخا يسيطر على مسامعه طوال الليل والنهار بأن قضيته في الحياة هي نجاسة لعاب الكلب، وليس ظلم الحكام وفساد المفسدين والتعذيب في المعتقلات ومراكز الشرطة. شيخ يختلف تماما عن تلك النوعية التي عرفناها في أشخاص العز بن عبدالسلام والغزالي وعمر عبدالكافي ويوسف القرضاوي وغيرهم من العلماء الأفذاذ.

الواقع أننا أمام "سلفية مصرية" ليست هي السلفية الحقيقية ولا إرث السلف الصالح.. تعلم الشعب ليل نهار كيف يكون خانعا مستجيبا لما يملى عليه، وتعطي المجال للحكم غير الرشيد للتمدد والتكوم على كرسيه، كل ذلك مقابل فتات القنوات الفضائية والإعلانات الهاتفية التي لو طبقوا عليها منهجهم المتعمق في المسائل الصغيرة لاستنتجوا أنها مقامرة محرمة!

ما تفعله جماعات المجتمع المدني العلمانية الليبرالية من دفاع عن المعذبين في السجون والمعتقلات ومراكز الشرطة أفضل مليون مرة من ذلك التنويم الذي يمارسه فينا بعض شيوخ الفضائيات ويغط في نومه العميق بعض شبابنا. أيهم أقرب للإسلام وشرعه الحنيف أن تفرج عن مظلوم وتكشف فاسدا وترفع قضية شاب مثل خالد السعيد قُتل غيلة وغدرا، أم تخرج لنا كل يوم في قناتك الفضائية لتكرر كلامك في العبادات البسيطة وتخلق منها جدلا غير مفيد للعامة كما يحصل حاليا في رضاع الكبير وحكم الغناء والضرب على الدف والباروكة وكشف المرأة شعرها في حضرة النساء فقط وقبلة الصائم لزوجته.

"السلفية المصرية" أنجبت شبابا رافضا للحوار والجدل العلمي، معطيا ظهره للعلم والتقدم والحريات، زعيقه العالي يستخدم فقط في شتم المختلفين مع ما رضعه منها.

أمس عاتب الأستاذ جمال سلطان في مقاله الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب لأن صدره الواسع يضيق عند الحديث عن السلفيين وهو تيار إسلامي أصيل، والواقع ليس هكذا.. فالشيخ الطيب يضيق بطائفة لا علاقة لها بالسلفية الصحيحة، وإنما جاءت إلى مصر من الخليج وجرى تهجينها في بيوت السلطة لتمنع صرخة الألم المفضية إلى مواجهة الظلم والاستعباد والطغاة والفاسدين المفسدين، ولتجعل الشعب يعيش أبد دهره خانعا لأن أجره في الآخرة على طاعته لولي الأمر في دنياه، جنة تجري من تحتها الأنهار تعوضه عذابه وتعذيبه والتنكيل به وسحله على النحو الذي جرى لخالد السعيد.

farrag63@gmail.com

ليست هناك تعليقات: