الثلاثاء، 13 أبريل 2010

مبادئ التربية السياسية في الفكر الإسلامي....د. عادل عامر

مبادئ التربية السياسية في الفكر الإسلامي :

--------------------------------------------------------------------------------

مبادئ التربية السياسية في الفكر الإسلامي :

تنبع التربية السياسية في الإسلام، من العقيدة الإسلامية، ومن مبادئ الإسلام وأصوله، ومن أحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها. فليست التربية السياسية في المنظور الإسلامي، خارجةً عن سياق المنهج الإسلامي وعن روح الإسلام، وعن فلسفته العامة التي هي جوهرُ رسالته وجماع تعاليمه، وإنما هي جزءٌ أصيلٌ لا يتجزأ من المنظومة الشاملة المترابطة المتكاملة، التي تشكّل القيمَ والمقوّماتِ الأساسَ للتعاليم الإسلامية الهادية إلى أقوم السبل في الحياة، على المستويين الفردي والجماعي.
وشمولية الإسلام ورحابتُه اللتان تجعلان منه منهجاً متكاملاً للحياة، تقضيان بأن تكون التربية السياسية أحد العناصر المكوّنة لمفهوم التربية على وجه العموم، في دلالاته العميقة وفي مجالاته المتعددة، بحيث لا يجوز، بل لا يمكن إطلاقاً، الفصل، في المنظور الإسلامي، بين التربية السياسية، وبين التربية الأخلاقية، بين تربية الفرد، وبين تربية المجتمع، لوحدة المنهج الإسلامي، ولشمولية الرؤية الإسلامية إلى الإنسان وإلى المجتمع، وإلى الكون بصورةٍ أعمق وأشمل.
وقد ترتَّب على هذا المبدأ، مبدأ التكامل والترابط بين عناصر منظومة القيم التربوية في الإسلام، أن قام مفهومُ السياسة في الفكر الإسلامي، على المبادئ الإسلامية الخالدة، والتي يمكن أن نذكر في هذا المقام، ما يتصل منها بالنظرية السياسية، بوجه عام :
أولاً : إن الإسلام عقيدة وشريعة، دين ودنيا، إيمان وعمل، أخلاق وسلوك. وقد وضع الإسلام القواعد الكلّية التي تشمل جميع مجالات الحياة، ولا تقتصر على مجال واحد. ولهذا فإن الإسلام لا يقبل مقولة : (ما لله لله وما لقيصر لقيصر)، لأن ذلك يتعارض مع منهاج الإسلام ومقاصد شريعته، فكلّ ما في هذا الكون لله ؛ الإنسان لله، والحياة لله، والكونُ جميعُه لله.
ثانياً : لم يترك الإسلام الدنيا سدى والمجتمع بلا ضوابط تحكم مساره وبلا قواعد تثبّت كيانه، فلقد أحكم الإسلام تنظيم العلاقات الاجتماعية على مستوى الأسرة الواحدة، وعلى مستوى الجماعة المحدودة، وعلى مستوى المجتمع الواسع. وفي هذا المناخ أقام الرسول محمد صلى الله عليه وسلم القواعد للمجتمع الإسلامي الأول، فأنشأ الدولة الإسلامية الرائدة، التي شرَّع لها القرآن الكريم الأحكام العامة، وفصَّل الرسول صلى الله عليه وسلم نُظُمَها من هدى الوحي أولاً، ثم من خبرة الحياة ومن حكمة المجتمع الإسلامي عند نشأته الأولى، وكان يجمع سلطات سياسية وإدارية ومالية وقضائية، فهو مؤسس الدولة، وقائدها، فضلاً عن نبوته ورسالته التي بلغها عن ربّه. وكانت تجربة الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة، مثالاً اقتدى به المسلمون عبر العصور المتتالية.
ثالثاً : إذا كان الإسلام قد أتى بمنهج متكامل للحياة، فإنه لم يأت بالقواعد المفصلة لسياسة الدولة ونظامها الاجتماعي والاقتصادي والإداري، وإنما جاء الإسلام بالمبادئ العامة وبالأحكام الشرعية وبالتوجيهات الهادية إلى الصلاح والسعادة في الدنيا والآخرة. فالإسلام كفل للإنسان حريتَه في التفكير والتنظير والتخطيط، وفي تسيير شؤون حياته العامة، وفي تدبير أمور المجتمع والدولة، على هدي تلك الأحكام والمبادئ والتوجيهات. وكان في ذلك التيسيرُ على الإنسان، والتكريمُ له، وتوجيهُه نحو الاجتهاد والإبداع والتجديد والتطوير، بمقتضى ظروفه، وبحسب إمكاناته وموارده، وعلى ضوء ملابسات الحياة التي يحياها والمحيط الذي يعيش فيه.
لقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم ، أن يكوّن أمةً واحدةً في دولة موحدة، وأصبحت الأسس التي وضعها لهذه الدولة، من القواعد الدستورية لنظام الحكم بعده، حيث قام خلفاؤه، صلى الله عليه وسلم ، بوضع نظم سياسية متممة ومكمّلة لنظم الرسول في حكم الأمة الإسلامية.وبتراكم الخبرة الميدانية المستندة إلى مبادئ الشريعة الإسلامية، نشأت النظرية السياسية الإسلامية.
رابعاً : انطبع المنهج الإسلامي للحياة بالمرونة التي تنسجم مع الفطرة الإنسانية ؛ فلا الإسلام فرض نظاماً جامداً لتدبير شؤون المجتمع، ولا هو أقام هيكلاً ثابتاً لا يتغيّر للدولة، ولا هو وضع حدوداً ضيّقة لا يجوز تجاوزُها عند إنشاء الأنظمة وإقامة الدول وتأسيس الحكومات، وإنما وضع الإسلام ما يمكن أن نصطلح عليه بــ (الإطار العام) للمجتمع، أو بــ (النظام العام) للدولة، اللذين يقومان على المبادئ الثابتة للشريعة الإسلامية المستمدّة أساساً من القرآن الكريم ومن السنة النبوية الصحيحة، وهي العدل، والشورى، والمساواة في الأحكام والحقوق والواجبات. وترك الإسلام للإرادة الإنسانية الحرة، الحقَّ في التصرف لتحقيق المصالح للفرد وللمجتمع، على حدّ سواء، في ضوء هذه المبادئ.
ولذلك فإن القواعد الدستورية لنظام الحكم في الإسلام، ليست جامدةً، شأن قواعد الحكم في الأنظمة الشمولية التي تغلق أبواب الاجتهاد أمام المواطن، وتحجر عليه التفكيرَ في صياغة حاضره وبناء مستقبله وتدبير أمور معاشه. وهذا يقتضي أن يكون الفكر السياسي الإسلامي، فكراً حيّاً، متحركاً، مسايراً للتطور، وإن كان في الإطار العام للمنهج الإسلامي.
تأسيساً على هذه المبادئ، فإن النظرية السياسية في الإسلام، قوامها تحقيقُ العدل في المجتمع الإسلامي، وهي مع ذلك مصطبغة بالصبغة الإنسانية، ومتسمة بالمرونة وبالتفتّح، وبالقدرة الذاتية على التجدّد ومسايرة تطوّر الحياة على هذه الأرض. ولقد اتفق العلماء والمفكرون المسلمون الذين اشتغلوا بتأصيل النظرية السياسية في الإسلام وتقعيدها وتفريعها والتأليف فيها، وهم كُثْرٌ، على أن يطلقوا على هذه النظرية مصطلح (السياسة الشرعية)، التي تحقق مصالح العباد والبلاد في المعاش والمعاد. وقالوا بأن السياسة الشرعية تدور حول المصلحة العامة حيث دارت. وذهب بعض الفقهاء المسلمين إلى تأصيل نظرية (المصالح المرسلة)، واعتبروها مصدراً من مصادر التشريع، على أساس أنه كلما ثبتت مصلحةُ الأمة وتحقَّقت في أمر من أمور الحياة، فثمة شرعُ اللَّه. فالمصلحة هي مناط الأمر في البدء والانتهاء. وهذا مفهومٌ إنسانيٌّ وواقعيٌّ ومتفتّحٌ للسياسة في المنظور الإسلامي.
ونجد التأصيلَ الإسلاميَّ للنظرية السياسية في مؤلفات كثيرة سَبَقَ بها مصنّفوها العرب والمسلمون، نهضةَ التأليف في هذا الحقل من العلوم الإنسانية التي عرفتها أوروبا. ونذكر من هذه المؤلفات (الإمامة والسياسة) لابن قتيبة، و(الأحكام السلطانية) للماوردي، و(الأحكام السلطانية) أيضاً لأبي يعلي الفراء ، و(السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعيّة) لابن تيمية، و(الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) لابن قيم الجوزية، و (سراج الملوك) للطرطوشي، و(التبر المسبوك في نصيحة الملوك) للغزالي، و(الفخري في الآداب السلطانية) لإبن الطقطقي، و(بدائع السلك في طبائع الملك) لابن الأزرق(3). أما ما كتبه ابن خلدون في المقدمة، عن السياسة، ففيه من الدقة العلمية والحكمة العقلية وعمق الرؤية، ما يرقى به إلى مصاف رواد الفكر السياسي والاجتماعي والعمراني في العالم كلِّه. وإذا كان الفكر السياسي الإسلامي قد عرف غزارة في التأليف، فإنه عرف أيضاً تعدّد المدارس وتنوّع الاتجاهات والاجتهادات، خاصة فيما يتصل بموضوع الخلافة واختيار رئيس الدولة، وما يتفرع عن هذا الموضوع من قضايا كَثُر فيها الكلام وتشعَّب الجدل. ولكننا ننظر إلى هذه الظاهرة التي طبعت التاريخ الإسلامي، من زاوية تختلف عن تلك التي ينظر منها إلى هذه القضية كثيرٌ من الباحثين، سواء من العرب أو من المستشرقين، فنرى أن الاختلاف في الرأي في مجال الفكر السياسي، الذي أدَّى إلى تعدّد المذاهب السياسية في إطار الفكر الإسلامي، هو مظهرُ صحةٍ وعافيةٍ في الكيان الإسلامي، لأنه مسلك يعبّر عن حيوية العقل المسلم، وعن حركية المجتمع الإسلامي، بأوضح صورة، وهو الأمر الذي ينفي عن المجتمع المسلم صفةَ الجمود والقعود عن التطوّر العقلي. ولعلّ من باب الإفاضة المطلوبة والمستحبة في تبيان مبادئ الحكم وقواعد السياسة التي قامت عليها الدولة الإسلامية الأولى على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، أن نستشهد في هذا المقام، بطائفة من أقوال علماء الاستشراق، ومنهم جماعة منصفة من العلماء الألمان، حول هذا الموضوع.
يقول الدكتور (فتزجرالد Dr. V. Fitzgerald)(4) :
> ليس الإسلام (ديناً) فحسب (Religion)، ولكنه (نظام سياسي أيضاً) (Political system). وعلى الرغم من أنه قد ظهر في أواخر القرن العشرين الميلادي بعض أفراد من المسلمين، ممن يصفون أنفسهم بأنهم (عصريون) يحاولون أن يفصلوا بين الناحيتين ــ فإن صرح التفكير الإسلامي كلِّه قد بُنِيَ على أساس أن الجانبين متلازمان، لا يمكن أن يُفصل أحدهما عن الآخر<. وقد تراجع أكثرهم عن آرائه فيما بعد.
ويقول الأستاذ (نللينو C.A. Nallino)(5) :
> لقد أسس (محمد) في وقت واحد : ديناً (Relgion) ودولة (State)، وكانت حدودهما متطابقة طوال حياته <.
ويقول الدكتور (شاخت Dr. Shacht)(6) :
> على أن الإسلام يعني أكثر من دين : إنه يمثّل أيضاً نظريات قانونية وسياسية ؛ وجملة القول إنه نظام كامل من الثقافة يشمل الدين والدولة معاً <.
ويقول الأستاذ (ستروثمان R.Strothmann)(7) :
> الإسلام ظاهرة دينية : إذ أن مؤسسه كان نبياً، وكان سياسياً حكيماً، أو(رجل دولة) <.
ويقول الأستاذ (ماكدو نالد D.B. Macdonald)(8) :
> هنا ــ أي في المدينة ــ تكوَّنت الدولة الإسلامية الأولى، ووضعت المبادئ الأساسية للقانون الإسلامي <.
ويقول السير (توماس أرنولد Sir, T, Arnold)(9) :
كان النبي، في الوقت نفسه، رئيساً للدين ورئيساً للدولة <.
ويقول الأستاذ (الياس جب E. Gibb)(10) :
> عندئذ صار واضحاً أن الإسلام لم يكن مجرد عقائد دينية فردية، وإنما استوجب إقامة مجتمع مستقل، له أسلوبه المعيَّن في الحكم، وله قوانينه وأنظمته الخاصة به <.(11).
وهذه شهادات من طائفة من كبار علماء الغرب، تؤكد جميعُها، على أن الإسلام دين ودولة. ولا يمكن أن تكون دولة بلا نظرية سياسية تطبق في واقع الحال، لها قواعدها الدستورية، ولها أيضاً تربيتُها السياسية التي ينشأ عليها المجتمع.

منقول
http://www.wata.cc/forums/showthread.php?t=47478

ليست هناك تعليقات: