الجمعة، 25 فبراير 2011

نظرة في حكم المظاهرات لدى المانعين


2011-02-24 06:11:50
بقلم : عاطف إبراهيم*

الحمد لله والصلاة والسلام على نبيه ومصطفاه... أما بعد،
فلا يخفى على أحد ما تمر به أمتنا المسلمة ، ودولنا العربية، من حراك سياسي شديد ، ومخاض عسير لمرحلة جديدة، تتطلع إليها كل المجتمعات المقهورة.
وتثور أسئلة كثيرة، حول تلك الأساليب المتبعة في تغيير الأنظمة الحاكمة، وكيفية التعامل مع الحكام، ووسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطرق التعبير عن الرأي.
الخلاف في حكم المظاهرات
ومن الوسائل التي ثار خلاف شديد حولها (المظاهرات) فقد اتسع الخلاف في حكمها فمن قائل بحرمتها، وكونها بدعة، وأنها من الإفساد في الأرض، وخروج على الحكام وفريق آخر يراها نوعاً من أنواع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعتبرها جهاداً في سبيل الله، ونصرة للمظلومين، وأخذاً على يد الظالمين، وطلباً للحقوق المشروعة، وسعياً للعدالة والمساواة.
الفرق بين المظاهرات السلمية والشغب
وينبغي لنا أن نفرق في البداية بين المظاهرات التي تخرج بصورة سلمية لمطالب معينة مشروعة، وبين أحداث الشغب، والعنف التي تخرج في بعض البلدان لبعض الأغراض الخاصة، وتَعْمَد إلى تدمير وسلب ونهب الممتلكات الخاصة والعامة، والقتل، وإثارة الفزع والترويع بين الآمنين.
فالذي لا شك فيه أن علماء الإسلام قاطبة يقولون بحرمة العنف والشغب والقتل والسلب والنهب وترويع الآمنين ، بل هذا من المعروف من الدين بالضرورة، ويتصادم مع المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية والتي تحفظ الدين والنفس والعقل والمال والعرض، وتحرم كل صور العدوان عليها.
فالأمر الذي نتكلم عنه الآن هو حكم المظاهرات في صورتها السلمية للمطالبة بحقوق مشروعة، من وجهة نظر المانعين.
عرض فتاوى تحريم المظاهرات ووجوب منعها
أولاً: يقول فضيلة الإمام العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله : { فالأسلوب الحسن من أعظم الوسائل لقبول الحق ، والأسلوب السيئ العنيف من أخطر الوسائل في رد الحق وعدم قبوله وإثارة القلاقل والظلم والعدوان والمضاربات . ويلحق بهذا الباب ما قد يفعله بعض الناس من المظاهرات التي قد تسبب شرا عظيما على الدعاة فالمسيرات في الشوارع والهتافات والمظاهرات ليست هي الطريق للإصلاح والدعوة ، فالطريق الصحيح بالزيارة والمكاتبة التي هي أحسن ، فتنصح الرئيس والأمير وشيخ القبيلة بهذا الطريق لا بالعنف والمظاهرة } وهذا رابط كلامه رحمه الله على موقعه الرسمي: http://www.binbaz.org.sa/mat/8348
ثانياً: ويقول العلامة الكبير محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: { المظاهرات أمر حادث، لم يكن معروفاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الخلفاء الراشدين، ولا عهد الصحابة رضي الله عنهم. ثم إن فيه من الفوضى والشغب ما يجعله أمرا ممنوعاً، حيث يحصل فيه تكسير الزجاج والأبواب وغيرها ويحصل فيه أيضاً اختلاط الرجال بالنساء، والشباب بالشيوخ، وما أشبه من المفاسد والمنكرات، وأما مسألة الضغط على الحكومة: فهي إن كانت مسلمة فيكفيها واعظاً كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا خير ما يعرض على المسلم، وان كانت كافرة فإنها لا تبالي بهؤلاء المتظاهرين وسوف تجاملهم ظاهراً، وهي ما هي عليه من الشر في الباطن، لذلك نرى إن المظاهرات أمر منكر. وأما قولهم إن هذه المظاهرات سلمية، فهي قد تكون سلمية في أول الأمر أو في أول مرة ثم تكون تخريبية، وانصح الشباب أن يتبعوا سبيل من سلف فان الله سبحانه وتعالى أثنى على المهاجرين والأنصار، وأثنى على الذين اتبعوهم باحسان } سلسلة لقاء الباب المفتوح رقم 179 و 202 على هذا الرابط:
http://www.ibnothaimeen.com/cgi-bin/art-noor/exec/search.cgi
ثالثاً: يقول سماحة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ المفتي العام للمملكة والرئيس العام لهيئة كبار العلماء عن المظاهرات: { ماهي إلا فوضوية ومن أناس لديهم فساد تصور وقلة إدراك للمصالح من المفاسد } ويقول: { إن المطالبة بالأشياء تأتي بالطرق المناسبة أما الفوضويات وهذه المظاهرات فهي من أخلاق غير المسلمين،المسلم ليس فوضويا ،المسلمون ليسوا فوضويين ،المسلمون أهل أدب واحترام وسمع وطاعة لولاة الأمر.........إذا كان لأحدهم طلب شيء يرى أن فيه مصلحته فالحمد لله أن المسؤولين أماكنهم ومكاتبهم مفتوحة لا يستنكرون على أن يستقبلوا أي أحد ،أما الفوضويات فهي غريبة عن مجتمعنا الصالح ولله الحمد ،ومجتمعنا لايعرف هذه الأشياء إنما هذه من فئة لا اعتبار لها ،إن مفهوم الإصلاح والدعوة وحث الأمة على الخير والاستقامة على الخير والسعي في مصالحها وفي إصلاحها بالسبل والطرق الشرعية أما الاصلاح الذي يرجو أولئك من خلال الفوضى والغوغاء الغريبة على واقع مجتمعنا والغريبة على بلدنا فهي أشياء نستنكرها ونشجبها وننصح إخواننا المسلمين أن يتفهموا أن هذه القضايا لاتحقق هدفا وإنما تنشر الفوضى } ويقول: { فإن ماسمعنا عنه من اعتزام البعض تنظيم مظاهرات واحتجاجات على ولاة الأمر في هذه البلاد حرسها الله أمر محرم والمشاركة فيه محرمة وكذا الترويج له،لأن هذا من شق عصا الطاعة وفيه تفريق لجماعة المسلمين وافتيات على إمامهم }. مجلة الدعوة العدد(1916).
فهذه فتاوى لكبار علماء المملكة العربية السعودية ـ وقريب منها فتوى الشيخ الألباني ـ وهم ممن لا تخفى مكانتهم العلمية الكبيرة في نظر كثير من المسلمين، وما لهم من تلاميذ وطلاب علم ينقلون عنهم ويقدمون فتاواهم في شتى بلاد المسلمين على فتاوى غيرهم من العلماء.
طبيعة العلاقة بين حكام المملكة والعلماء والشعب
وقبل أن أذكر توجيهي لهذه الفتاوى ينبغي لنا أن نتوقف قليلاً عند الواقع العملي في المملكة العربية السعودية. وهذا الواقع تكاد لا تجد له شبيهاً إلا في مناطق معدودة من عالمنا الإسلامي.
وذلك أن المملكة العربية السعودية قامت على نظام للعلم والعلماء فيه مكانة عظيمة جداً، بحيث يمكن لنا أن نقول إن كبار العلماء في هذا البلد من أولي الأمر، تطبق فتاواهم، ويُستمع لنصائحهم، ولهم مقام رفيع لدى الحكام، فهم أهل الشورى، وفيهم الثقة التامة، يقولون فيسمع قولهم، ويستطيعون في أي ظرف الوصول للسلطان، لا يُغلق دونهم باب. في تعاون عديم النظير بين العلماء والحكام...... هذا حال أهل العلم.
وأما الحكام ( الملك وأمراء المناطق ) فالوصول إليهم في الغالب ميسور، ورفع المظالم والمطالب إليهم له وقت معلوم أسبوعياً أو شهرياً يجلسون فيه فيستقبلون الناس فيسألون عن أحوالهم ويتفقدون حاجاتهم.
وفوق هذا وذاك لدى المملكة هيئة جليلة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنتشر في المدن والمناطق ولها صلاحيات ووسائل عديدة لتقوم بهذه الفريضة العظيمة.
وإذا كنا نقول إن المظاهرات هي وسيلة من وسائل التعبير عن الرأي، وطريقة من طرق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو هي وسيلة لطلب حقوق منقوصة، أو إقامة عدالة مفقودة؛ فلا شك أن النظام الذي تقوم عليه المملكة به من الآليات والوسائل والهيئات والمؤسسات التي تفي للقيام بكل هذه الغايات المرجوة من المظاهرات، مع تجنيب المجتمع لأي أثر من الآثار التي غالباً ما تصاحب المظاهرات ولو كانت صغيرةًً أو دقيقةًً.
ولهذا - والله أعلم - وجدنا علماء المملكة العربية السعودية – أغلبهم – يرون هذا الرأي المانع والمحذر من المظاهرات ، واعتبارها نوعاً من شق عصا الطاعة لولي الأمر الذي يمكن الوصول إليه وتقديم مطالب الناس ومظالمهم، من غير التورط في أي من سلبيات المظاهرات، والتي نراها كثيراً من حولنا، تبدأ سلمية ثم سرعان ما ينضم إليها دخلاء ، فتنقلب للسيئ والبذيء من الأقوال والأفعال ، مما يزعزع حالة الأمن والأمان والاستقرار الذي يظلل حياة هذا البلد المسلم.
ارتباط هذه الفتاوى بالمكان والأعراف
ويمكن لنا أن نعيد بعض مفردات الفتاوى السابقة للتأمل :
الأولى: قولهم (( والمظاهرات ليست هي الطريق للإصلاح والدعوة ، فالطريق الصحيح بالزيارة والمكاتبة التي هي أحسن ، فتنصح الرئيس والأمير وشيخ القبيلة بهذا الطريق لا بالعنف والمظاهرة )).
فانظر إلى بديل المظاهرات هنا، من زيارة ولي الأمر والكتابة إليه ومناصحته، إنه أمر معتاد بالمملكة، ميسور ليس دونه عوائق، فلماذا اللجوء للمظاهرات وما فيها من احتمال ولو ضئيل للخروج عن صورتها السلمية، وهو ما نجده صريحاً في الوقفة التالية.
الثانية: قولهم (( ثم إن فيه من الفوضى والشغب ما يجعله أمرا ممنوعاً، حيث يحصل فيه تكسير الزجاج والأبواب وغيرها ويحصل فيه أيضاً اختلاط الرجال بالنساء، .... وما أشبه من المفاسد والمنكرات، ...... نرى أن المظاهرات أمر منكر. وأما قولهم إن هذه المظاهرات سلمية، فهي قد تكون سلمية في أول الأمر أو في أول مرة ثم تكون تخريبية )) .
وهنا الكلام أوضح، والنظر في المآلات فيه أعلى صوتاً، فالمنع والإنكار لما يترتب على المظاهرات من المحرمات كإثارة الفوضى، والشغب، والتخريب، وقد يتعدى إلى إزهاق النفوس المعصومة، وانتهاك الحرمات، ونهب وسلب الأموال، وهي أمور تزلزل سلامة واستقرار المجتمع، وتهدد أمن المواطنين.
الثالثة: قولهم ((فالحمد لله أن المسئولين أماكنهم ومكاتبهم مفتوحة لا يستنكرون على أن يستقبلوا أي أحد ،أما الفوضويات فهي غريبة عن مجتمعنا الصالح ولله الحمد ،ومجتمعنا لا يعرف هذه الأشياء ........ والإصلاح الذي يرجوا أولئك من خلال الفوضى والغوغاء الغريبة على واقع مجتمعنا والغريبة على بلدنا فهي أشياء نستنكرها ونشجبها)).
وهنا كذلك بيان لوجه المنع والإنكار، وهو ما يتخوف منه العلماء من مظاهر الفوضى التي تصاحب المظاهرات غالبا، كما نجد في هذه الفتوى النص على مخالفة المظاهرات لما درج عليه المجتمع في المملكة من "أعراف" تيسر الوصول للمسئولين لمخاطبتهم ورفع المطالب والمظالم إليهم. مما ينتفي معه أسباب الخروج للتظاهر.
ومن هنا أقول: إن هذه الفتوى البازية ( نسبة للشيخ ابن باز ) وأخواتها من الفتاوى إنما تتنزل على واقع المملكة العربية ومثيلاتها من البلدان والأعراف السائدة فيها، وعلى بيئتهم طبقاً لما يرونه ويقدرونه من حساب المصالح والمفاسد، وسد الذرائع، وغيرها مما يقدره المُفْتون في المسائل والنوازل، ويحكمون على أساسه، وهذا – فيما أراه – حكم صحيح سديد.
فروق جوهرية
وهذه الحال التي تتمتع بها المملكة وبعض الدول المعدودة في عالمنا العربي، يختلف بالكلية عن أحوال دول أخرى مثل تونس ومصر وليبيا، وما شابهها من الدول، التي عم الظلم والفساد أركان الدولة، وانسدت جميع الطرق للمطالبة بالحقوق والعدالة، وأصبح امتهان الكرامات، وانتهاك الحرمات، من الممارسات المعتادة لمؤسسات الدولة ووزاراتها، بشكل لا يمكن السكوت عليه، بل لا يمكن معه الحفاظ على مصالح الدنيا والدين، فحق للناس المطالبات، والضغط على حكوماتهم، فإن بقي فيهم خير أفاقوا واستجابوا، وسارعوا للإصلاح ووضع الأمور في نصابها، وإن كانت الأخرى فإيرادات الشعوب هي التي تحكم وتتغلب، والظالمون المستبدون ما لهم من ولي ولا نصير.
فلا يستقيم بأي حال تعميم هذه الفتاوى على جميع بلاد المسلمين، لاختلاف الظروف والقرائن، والتفاوت الكبير في تقدير المصالح والمفاسد من دولة لأخرى.
وأنتهي من هذا العرض إلى أن الفتوى في المظاهرات من الفتاوى التي تتغير بتغير البلدان والظروف المحيطة والأعراف السائدة، وطبيعة العلاقة بين أنظمة الحكم وشعوبها وعلمائها، يقدرها العلماء، ويحكمون لكل حالة بما يخصها بناءً على ما يرونه لتحصيل المنافع والمصالح للأمة، ودفع الشرور والأضرار عنها.
هل المظاهرات من البدع المنكرة؟
وقبل الختام لابد لي من وقفتين:
الأولى: قول بعض العلماء: المظاهرات من البدع
فأقول : إن هذا القول يجانب الصواب، وذلك أن البدع المحرمة هي ما كان في العبادات، حيث الأصل أنه لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، قال الإمام الشاطبي عن البدعة: (طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه) وأما المظاهرات فهي من أمور العادات، والمحْدَث منها لا يسمى بدعةً شرعاً وإن سمي بدعة لغة، فلا تُعدُّ المحدثات الجديدة بدعاً في الدين مثل وسائل المواصلات، ووسائل الاتصالات، ومكبرات الصوت، وطباعة الكتب، والمصحف وحفظه بوسائل الحفظ الحديثة كالأشرطة المسجلة والحاسوب ونحوها فهذه وسائل لها أحكام الغايات، فإذا كانت الغايات مشروعة كانت وسائلها المؤدية إليها مشروعة وليست من البدع في شيء.
ولما كانت المظاهرات وسيلة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصرة للمظلومين، وأخذاً على يد الظالمين، وطلباً للحقوق المشروعة، وسعياً للعدالة والمساواة، وهذه كلها من المتفق عليه والمشروع باتفاق لا خلاف معه، فالوسيلة إليه مشروعة مباحة، بل أحيانا تصل لدرجة الوجوب.
الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً
يتضح لكل متأمل للفتاوى السابقة ومثيلاتها والتي تحرم المظاهرات، أن هذا التحريم قائم على ما قد يحدث فيها من إثارة الفوضى، والتخريب، وغير ذلك من المفاسد، مع وجود وسائل أخرى لا يترتب عليها أي ضرر، وهو أمر مقبول، ووجهة نظر سديدة معتبرة، ولكنه في ذات الوقت يعني أن منظمي هذه المظاهرات إذا كانت أغراضهم مشروعة، وطريقتهم سلمية وغلب على ظنهم انتفاء هذه الآثار السلبية، فإن خروجهم للتظاهر أمر جائز مباح في أدنى درجاته، وذلك لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فمتى وجدت العلة وجد الحكم، متى كان الشغب والفوضى واقع فالمنع والتحريم حاصل، ومتى انتفت هذه المفاسد انتفى معها المنع والتحريم.
ومتى كانت هذه المظاهرات سلمية منظمة ذات مطالب مشروعة وعادلة فإنه من الواجب على ولي الأمر المسارعة للاستماع لرعيته، والنظر لهذه المظاهرات على كونها عونا له، لا مناهضة له؛ فهي من وسائل الدلالة على مواطن الخلل والفساد في الدولة التي يجب عليه تداركها بالإصلاح. والله أعلم.

* باحث في العلوم الشرعية

ليست هناك تعليقات: