الثلاثاء، 13 نوفمبر 2012

الفلسفة العربية الإسلامية دفاعاً عن التراث.. دفاعاً عن الهوية الثقافية القومية(1)


العدد 1389 - التاريخ: الخميس 15 مايو 2008 | الموضوع: ادب و ثقافة رقم الصفحة 6

الفلسفة العربية الإسلامية دفاعاً عن التراث.. دفاعاً عن الهوية الثقافية القومية(1)
تعالج هذه الورقة موضوع دور الفلسفة العربية من زاوية علاقتها بالتراث وبالهوية الثقافية القومية، استجابة للدعوة الكريمة التي قدمها المركز اليمني للدراسات التاريخية واستراتيجية المستقبل والذي ينظم ندوة الهوية الثقافية.
حيث ستبحث هذه الورقة النقاط التالية:
1- مقومات الهوية الثقافية من خلال علاقة الفلسفة بالارض والانسان وفائض الإنتاج.
2- كيفية ولادة الفلسفة من التراث، وكيف شرعت تؤثر عليه بعد ان وقفت على قدميها ليصبح التراث موضوعها، وكيف أخذت بعد ذلك تدافع عنه وعن الهوية الثقافية العربية، تارة بالكلمة وأخرى بالسلاح، ومايزال هذا شأنها حتى عصرنا الراهن، وذلك من خلال مشاريعها الفكرية المستقبلية.
3- ومن محورية التراث العربي الاسلامي الذي يعتبر اشكالية الفكر العربي المعاصر، تحاول الفلسفة بدورها تجديد هذا التراث الذي يعني تجديداً للهوية الثقافية القومية المأزومة وذلك من خلال طرح بعض الحلول المناسبة وفق رؤية مشروعنا المستقبلي.
د. سلطان علي سيف الزريقي
1- الفلسفة ومقومات الهوية الثقافية القومية:
إن الحديث عن الهوية الثقافية لأي شعب أو أمة يستدعي بداية التطرق الى المقومات، وقد فضل الباحث انطلاقاً من علاقة الفلسفة بالارض - بالمكان والزمان والانسان، أن يعقد مقارنة بين فلسفتين تربطهما علاقة تأثير وتأثر، مما يسمح بالقول: ان كل مجتمع، كل حياة بشرية، تستلزم مكاناً، وطناً، ارضاً، اقليماً، تتخذه مقاماً ومستقراً، ولكن قد يكون هذا الاستقرار ليس ابدياً، فهناك حركتان دائمتان من الوطن واليه، حركة مغادرة وارتحال، ثم اتخاذ ارض اخرى، وطناً جديداً يكون مقاماً ومستقراً، هجرة اليه، واغتراب منه بين هليه، وأهله الاصليين، او احتلاله وتغريب أهله، والوطن والارتحال والاستيطان تكون جسدية ونفسية وفكرية واجتماعية مادية ومعنوية، فإن تفكر: هو أن تمد صعيد محايثة تمتص الارض او بالاحرى تثبتها(). المثل على ذلك ما فعله الاغريق، فبالرغم من أن جزرهم اليونانية تصنف من ضمن المناطق العربية وبعض المناطق الاخرى المشابهة من حيث فائض الانتاج الاقل بجهد أكبر، وفي مقدمتها بلاد اليمن بالدرجة الاولى والمغرب العربي ومعظم هضبة الشام وما شابه ذلك، فقد استطاعوا أي الاغريق أن يصنعوا ثقافتهم الخاصة وحضارتهم التي تعتبر من أقدم الحضارات الانسانية، كما استطاعت البلدان المشابهة لها منها المشار اليها آنفاً أن تبني ثقافتها وحضارتها، مع وجود بعض الفوارق من حيث العلاقة مع السلطة السياسية المهيمنة، الاستبداد في الغرب والمساواة في الشرق(2).
فإذا كان الاغريق قد استطاعوا ان ينقلوا الوطن والحل والترحال والإقامة والاغتراب الى مستوى الفكر بحيث استبدلوا بالمقارنة والتسامي الشرقيين، المحايثة الارضية منقولة الى مستوى الفكر الخالص، فهجروا بذلك الفكر الشرقي الذي يعتمد على الصور والاساطير، فأحدثوا بذلك نقلة الى مستوى الفلسفة، فإن العرب وبعد اعتناقهم الدين الاسلامي، قد استطاعوا أن يهجروا الكثير من العادات والمعتقدات الموروثة من الجاهلية، ساعدهم على ذلك عالمية دينهم الاسلامي الذي لم يكن - موجهاً اليهم وحدهم بل الى البشرية جميعاً، زائداً العلاقات التجارية والثقافية التي كانت تربطهم بالبلدان الاخرى ليصبحوا بعد ذلك يمتلكون سلاحين دينياً وفلسفياً، نقلياً وعقلياً، كل ذلك شكل هويتهم الثقافية القومية.
وإذا كانت الفلسفة اليونانية قد وجدت في الاغريق جواً ومناخاً وأرضاً للنشوء والتطور فكونت بذلك مجمل مقومات هويتهم الثقافية والقومية، فإن الفلسفة العربية والاسلامية قد وجدت هي الاخرى لدى العرب مناخها المتكامل مادياً وروحياً، ويكفي أن نشير هنا الى الارض (المكان والانسان)، فإن العالم العربي يحتل رقعة من الارض تقدر مساحتها بحوالى 14 مليون كم2، وتعادل هذه المساحة 10.06 من مجمل مساحة الكرة الارضية، كما أنها أكبر من مساحة القارة الاوروبية بحوالى 4 ملايين كم2.
ومن أهمية مساحة هذه الارض العربية ذلك المكان الجغرافي المتنوع والذي يتوسط الكرة الارضية، وكذا من حيث المواصلات جواً وبحراً وبراً (3) ومن حيث فائض الانتاج المتنوع والمتداخل، وكذا من حيث تكوينه الاجتماعي والطبيعي، وبالاجمال فقد نتج عن هذه المواصفات الخاصة بالعرب أرضاً وإنساناً نشوء ثقافة وحضارة تميزت بالتنوع والتكامل، كان أهمها في بابل ومصر القديمة، وفي جنوب الجزيرة العربية اليمن بالتحديد، كان ذلك قبل الاسلام ثم تطور الوضع بعد ذلك.. فقد تبلورت الامور بعد الاسلام كوحدة قومية عربية لغة وتاريخاً وديناً وثقافة بدرجة من النضج والتكامل المادي والروحي الذي لا يتوافر لأية أمة في هذا الكون (4).
لقد عرف العرب بتوحدهم تاريخاً ولغة وثقافة ومصيراً مشتركاً كما انهم يشتركون في تراث له تاريخ طويل يمتد الى أكثر من سبعة آلاف سنة (5)، ومما لا شك فيه أنه كان للعرب والمسلمين تفكير خالص صدر عن ذاتهم قبل ان يوفقوا بين ما لديهم من تفكير وحضارات دينية وبين الفلسفة اليونانية (6) وبالجملة اذا كان الاغريق قد عرفوا حتى اليوم بتلك الثقافة الفلسفية التي شكلت حضارتهم الانسانية، فإن العرب وباعتراف الغالبية من فلاسفة هذا العالم ومفكريه، وكذا مؤرخين وسيسيولوجيين وسياسيين واقتصاديين كان لهم دورهم المشرف، فقد كانوا ذلك الجسر الذي انطلقت عبره الفلسفة والعلوم اليونانية، مع ما اضافوه من أفكار واجتهادات الى القارة الاوروبية، حيث تصبح كل تلك المقومات التي قامت عليها نهضتهم (7) ولكن ما مصير هذه النهضة؟
صحيح ان للعرب تاريخهم وحضارتهم، ولكن لا مقارنة اليوم، فالعرب وإن امتلكوا مشروعاً لتوحيد كيانهم الا ان الوجود العربي كهوية افقر واضعف من وجود الاوروبي فعلى حين نلاحظ مشروع الوحدة الاوروبية تركز على الاقتصاد والمصالح أساساً، فإن مشروع الوحدة العربية يقوم فقط على وحدة اللغة والثقافة، ومعلوم ان الهوية الثقافية هي حجر الزاوية في تكوين الأمم لأنها نتاج لتراكم تاريخ طويل (8)، وهذا التراكم يوجد في تاريخ الامة العربية بدليل تلك النهضة التي احدثوها، لكن السؤال الذي يطرحه المثقف العربي اليوم يظل: ما مصير هذه النهضة؟ هذا السؤال تليه أسئلة عدة منها: الى متى سنظل نستجر الماضي دون ان نحاول العمل على تجديده حتى ننهض من جديد؟ وهل يمكن لشعب ان يحقق نهضة شاملة دون ان يمتلك مشروعاً مستقبلياً تكون عماده الفلسفة؟ لأن المثل يقول: «بئس شعب لا فلسفة له»، ولا جدل من أن لنا فلسفة مثلت قمة ثقافتنا وظلت تدافع عن تراثنا وعن هويتنا الثقافية، الا ان ما يؤسف له انها اصيبت بانتكاسات متتالية عبر الحقب التاريخية الى ان اوصلت الى أزمتها الخانقة في عصرنا الراهن من حيث التعامل معها بإزدراء، بل وبالرفض من قبل من يجهلون مكانتها، وما احوجنا اليوم للعودة الى الوراء قليلاً عبر هذه الفلسفة لنستلهم من التراث ما يمكن ان نجدد به هويتنا الثقافية المستقبلية، ومن الحكمة أنه لكي تحدث قفزة الى الأمام عليك ان ترجع بضع خطوات الى الوراء، وهذا ما يتم دوماً ضمن العلاقة بين التشكل والتطور، بحيث تتم أولاً لحظة تراجع تستمد من الماضي مستندات جديدة، وثانياً لحظة تطور (تمحور)، وهذا ما يمكن ان نعبر عنه بلحظة من لحظات التشكل.
على أن العودة الى الوراء لا يعني النكوص الى الاصول والتعامل معها ميكانيكياً فهذه عملية أحادية الجانب، ونحن في بداية الالفية الثالثة الامر يختلف عن خمسينات القرن العشرين، فمقاومة الآخر لا تتم بتهويل التراث القومي والابتعاد عن الآخر ومعطيات منجزاته العملية الهائلة، بل بإعادة بناء الهوية الثقافية بطريقة عقلانية والتواصل مع القوميات والأمم الاخرى، هذا ما يجب ان نسعى اليه ان نحن أردنا تحقيق هويتنا بحيث تكون الهوية الثقافية العربية أصيلة ومعاصرة في آن واحد.
هذه الثنائية تقودنا الى محورية التراث والفلسفة مما يسمح بالانتقال الى هذا الجانب.
2- علاقة الفلسفة العربية بالتراث:
تعمدنا في نهاية المبحث السابق، طرح بعض الاعتبارات التمهيدية للدخول الى هذا المبحث الثاني، الذي من شأنه تناول عدد من النقاط المتعلقة بعلاقة الفلسفة بالتراث وكلها تتجه نحو هدف الفلسفة الأساس دفاعاً عن التراث، دفاعاً عن الهوية الثقافية.
أ- ثنائية الفلسفة والتراث: الاشكالية والأهمية:
لنقف أولاً وقفة قصيرة مع ما قصدناه بمحورية التراث، فذلك يعني ان موضوع التراث يعتبر اشكالية الفكر العربي المعاصر، فهو لم يشغل المفكرين العرب والمهتمين بل شغل عدداً كبيراً من المفكرين الاجانب من حيث التعامل معه، من ذلك كيفية إحيائه وبالذات فيما يتعلق بتحقيق نصوصه وإعادة إنتاجها وما الى ذلك.
إن الاهتمام البالغ بالتراث وتأويله نظراً لما هو عليه اليوم تكمن من ورائه عدد من العوامل منها تغلغل فلسفة النهضة الاوروبية التي ورثها الفكر العربي من الفكر الاوروبي نتيجة جهله لموروثه الثقافي، وانفتاحه غير المقيد على الثقافة الاوروبية، وسواء كانت هذه العوامل رئيسة كما يرى البعض من المثقفين العرب المعاصرين، او عوامل أخرى كالتي ظل يكررها بعض المصلحين العرب أمس واليوم بأنها نتيجة الانحطاط الذي حل بحضارة العرب القديمة، وأي كان فإن السؤال الذي يطرح نفسه، كيف يمكن ان نتعامل مع هذا التراث؟ وما هو السلاح الذي يمكن ان نستعمله لهذه المهمة؟ وهل يمكن ان تلعب الفلسفة العربية الاسلامية دوراً فعالاً اذا ما استعملت كأداة من اجل إحياء هذا التراث نظراً لعلاقتها الوطيدة به؟
وبناء عليه نستطيع القول مسبقاً: إن هذه الفلسفة العربية التي نشأت من رحم التراث، هي نفسها التي وقفت وتقف مدافعة عنه، ولما كان التراث بجانبيه المادي والروحي يمثل ثقافة وحضارة اي شعب أو أمة من الأمم، فإن الدفاع عنه يصبح دفاعاً لا ينفصم عن الدفاع عن الهوية الثقافية لهذا الشعب او ذاك، وهنا يكمن هدف الفلسفة العربية الاسلامية وهي كأية فلسفة تمتلك أهدافاً كثيرة لا يمكن حصرها، فقد رسمت لنفسها هذا الهدف بمضومنه الذي يعني دفاعاً عن التراث دفاعاً عن الهوية الثقافية، اما بالنظر الى العلاقة بين الفلسفة والتراث فإنها تبدو جدلية، عملية تأثير وتأثر، غير أنه قد يتضح من خلال تحليل المضمون بأن اللاحق سوف يصبح أكثر تأثيراً على السابق عندما تصبح مهمة هذا الآخر إخراج الجديد من رحم القديم.
إن منزلة الفلسفة العربية الاسلامية من التراث مقرونة بتعاملها معه، اي كيف تصبح الاصالة معاصرة، وإن شئنا قلنا طبقاً لمفهوم (التريكي) للفلسفة الذي يعني ان مهمتها عملية تشخيص ودراسة الواقع المعاش، ومعالجة أمراضه، حتى يمكن اصلاحه او تغييره إن لزم التغيير (9)، وهذا عندما يصبح التراث موضوعاً للفلسفة لأن الفلسفة هي ذلك النبض الذي يحرك التراث، ولما كان الامر كذلك فإن التراث لا يمكن ان نسميه تراثاً الا اذا أخضعناه للفلسفة، والتراث إذا لم يكن في ظلال فلسفة بقى كالصنم لا يتحرك ولا يحرك، ويتجه نحو الارشفة والتخطيط (10).
إن هذه الدعوة الى تبني التراث وكأن الفلسفة هي المعني بذلك باعتباره موضوعها يؤكد المواقف الفلسفية للفلاسفة والمتكلمين في المجتمع العربي الاسلامي الذين وقفوا مدافعين عن تراثهم وعن هويتهم الثقافية العربية، تلك كانت فلسفة، وكل نضال في سبيل الحرية والكرامة كما يحدث اليوم في الوطن العربي يعتبر فلسفة، «لو لم تكن لنا فلسفة لما كان لنا أهداف وبدون أهداف لا تكون حياة» (11)، وبالجملة فإن الفلسفة ليست الا تعبيراً عن روح الحضارة لأي مجتمع من المجتمعات، ولا يمكن لأي كان الاستغناء عنها لما لها من اهمية في كل جوانب الحياة، وفي أي زمان ومكان، الدليل على ذلك أنها اصبحت تحتل مكانة هامة في عصرنا الراهن، عصر الفضاء والذرة والالكترون، فهي تمثل إذاً وحدة الفكر العالمي، وتربط بين ألوانه وثقافاته في العلم والفن والأدب والدين.
وفلسفتنا العربية الاسلامية لا تقل أهمية فقد لعبت دوراً حضارياً ليس في حياة الامة العربية والاسلامية فحسب بل في الحضارات الاخرى واسهمت بشكل فعال في كل جوانب تطور الحياة في المجتمع العربي الاسلامي، وهي تدعونا اليوم الى الاهتمام بها، حتى تصبح السلاح الامضى من جديد لمجابهة ما تتعرض له الامة العربية والاسلامية من تهديد من قبل الآخر ومن ذلك محاولة طمس هويتها الثقافية، الدليل على ذلك ان هذا العدو الآخر ممثلاً في عدد من فلاسفته لا يزالون ينكرون علينا امتلاكنا فلسفة اصيلة.
< (يتبع)

-


أتى هذا المقال من صحيفة 26سبتمبر
http://www.26sep.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.26sep.net/newsweekarticle.php?sid=39060
http://www.blogger.com/blogger.g?blogID=8889700680368515392#editor/src=dashboard

ليست هناك تعليقات: