الأربعاء، 19 سبتمبر 2012

المخطوطات ( تعريفها – اهميتها - قيمتها - وظيفتها - التقانة والشعر فيها)

المقدمـة
كتب الكثير عن المخطوطات الأدبية، ولكن كل ما كتب تقريبا يغلب عليه الطابع التصنيفي )الببليوغرافي( أو النصي أو التجاري . ويقوم معدو الفهارس )الببليوغرافيا( بوضع البيانات )الكتالوجات( ، وتصنيف مواد أمكنة المحفوظات )الأرشيفات( وهناك كتب تصنف كل مخطوطة معروفة لوردزورث، وكولريدج، وشيلي، و ييتس .وعادة يقوم محققو النصوص باستشارة المخطوطات المتباينة لإعداد الطبعات المعتمدة، أو ما يطلق عليه
DEFINITIVE EDITION . ويطبع بائعو الكتب ومنظمو المزادات )كتالوجات( فاخرة تصور المخطوطات الأدبية التي يأملون بيعها. وكم المواد الوصفية الذي يتحدث عن المخطوطات هو كم هائل، ولكن قلما يجد المرء كتابة نقدية أو تنظيرية عن الموضوع، كما أن هناك قليل من التحليل الواعي أو التأمل العميق لموقع المخطوطات في الثقافة الأدبية الأوسع، كذلك لا يوجد اهتمام جاد إلى وضع هذه المخطوطات إزاء النصوص المطبوعة. وإذا كان الدارسون في العادة يناقشون المخطوطات من ناحية نفعية بحتة، فإن النقاد والمنظرين قد تجاهلوها تماما كموضوع للبحث المستقل


المبحث الأول : ماهية المخطوطات .
المطلب الأول : تعريف المخطوطات .

قبل الخوض في المفهوم الدلالي لهذا اللفظ نشير أن الفيلولوجيين لا يقبلون استعمال لفظ مخطوط إلا إذا ألحق بكلمة كتاب فيقولون الكتاب المخطوط لأنه ليس كل ما كتب باليد يعتبر بالضرورة مخطوطا فشواهد القبور وما نقش على الأحجار وما نقر على الصخور لا يمكن اعتباره مخطوطا . إن الكتابة باليد ليست بالضرورة في ذاتها بالمفهوم الفيلولوجي للمخطوط، فلنبحث الآن في مادة هذا اللفظ في اللغة مع محاولة رصد بداية تداوله وذلك باستشارة المعاجم واستقراء النصوص التي يمكنها أن تمدنا بالمعلومات عن بدء استعماله .
لفظ مخطوط في اللغة الفرنسية MANUSCRITE يجد أنه أستعمل لأول مرة في أحد نصوص هذه اللغة في سنة 1594م أي في نهاية القرن 16م . وعلى الرغم من أنه لفظ لاتينيا MANUSCRIPTUN فإن الفرنسيين استعاروه من اللغة الإيطالية التي عرفت استعمال اللفظ قبل فرنسا بحكم سبقها التمسك بالنهضة الحديثة وقد أطلقوا على المخطوط لفظ LIBRI

المطلب الثاني : أهمية المخطوطات .

إن أهمية المخطوطات قد ترك أمر تحديدها للسوق المتمثل في عالم البائعين، وبيوت المزادات وهواة الاقتناء. وعلى الرغم من أن القطاع الخاص كان أسبق في معرفة أهمية المخطوطات قبل أن يقوم النقاد وأمناء المكتبات بجهود منظمة لاستعادتها والاحتفاظ بها، فإن السوق لم يقم إلا بالقليل في سيبل الكشف عن القيمة الحقيقية لموادها. وربما لا يكون من الإنصاف تماما أن نقول كما قال أوسكار وايلد WILDE : " إن السوق يعرف سعر كل شيء، ولا يعرف قيمة أي شيء " . وما يقوم به السوق هو تحديد السعر، أما مسائل القيمة فإنها تنتمي إلى مكان آخر.
غير أن الافتقار إلى التفكير التأملي والتحليل النقدي لم يبطىء برواج عالم المخطوطات الأدبية فالآلاف من أمناء المكتبات وأمناء المتاحف والتجار والدارسين وهواة الاقتناء يقومون الآن ببناء دواوين المحفوظات (أرشيفات) ضخمة من المواد الأولية . ولم تقترب أي ثقافة في التاريخ من مستوى النشاط في هذا الصدد كما هو الحال في أمريكا، فالمؤسسات الأمريكية تنفق أموالا طائلة لتحصل على مواد المخطوطات وتحتفظ بها، والجماهير الغفيرة تتردد على المعار العامة، بينما يتوافد الدارسون على قاعات القراءة ليدرسوا على مهل، ومجلات التصنيف والفهرسة (الببليوغرافيا) ونشرات (كتالوجات) المعار تضخها المطابع، والصحف تراجع المعارض الكبرى وتغطي المزادات المهمة، ودون أن يعرف السبب على نحو واضح، فقد أجمعت الثقافة على أنه حتى في عصر تتقلص فيه الموارد، يكون لجمع المخطوطات الأدبية والحفاظ عليها أولوية، ومنذ مئتي عام لم يكن أحد في الغرب ليجشم نفسه عناء الاحتفاظ بمحتويات أفضل المخطوطات المعاصرة له .


المبحث الثاني : القيمة الهادفة والوظيفية إزاء القيمة السحرية للمخطوطات .

المطلب الأول : القيمة الهادفة للمخطوطات .

قال الشاعر فليليب لاركن LARKIN ذات مرة : " كل المخطوطات الأدبية لها نوعان من القيمة : ما يمكن أن نسميه القيمة السحرية والقيمة الهادفة " ولا أحد اليوم يشك في القيمة الدراسية أو "الهادفة" . والمكتبات تعلن عن حصولها على أوراق كاتب شهير بالدعاية المدوية نفسها التي تصاحب اكتشافا طبيا جديدا. والتعليل العام لجمع المخطوطات هو أنها توفر معلومات ليست موجودة في العادة في أي مكان آخر، ويمكن للمخطوطات أن تحل مشكلات تتلق بالحقائق مثل التأريخ لقصيدة ، أو تحديد دقة نص .وليس من غير المعتاد لدارس يتوافر على دراسة مخطوطات عمل أدبي أن يجد أن بعض الأسطر غير الواضحة في النص المطبوع قد تحتوي على خطأ ما.
كذلك فإن المخطوطات أيضا تضيء المعاني الأوسع للعمل الأدبي، فرؤية ما حذفه الشاعر غالبا ما تساعد في توضيح ما شمله في النص، والمسودات توضح مقاصد المؤلف في مقطوعة معينة. واليوميات والخطابات والمذكرات والوثائق الأخرى تضيف إلى معرفة حياة الكاتب ووسطه الاجتماعي، و"القيمة الهادفة" للمخطوطات غالبا ما تتجاوز محتوياتها اللفظية البحت المجردة وفي بعض الأحيان قد يكون لبعض المواد دور في تسليط الضوء على الكاتب . وأهم من كل ذلك فالمخطوطات غالبا ما تحتوي أعمالا جديدة، فقلة من الكتاب هم الذين ينشرون كل شيء يكتبونه وعادة تكشف الأوراق التي يتركها مادة جديدة، بل إنه في بعض الحالات النادرة مثل حالة إميلي ديكنسون وجيرارد مانلي هوبكنز ظهرت كل أعمالهما بالفعل بعد موتهما من خلال الأوراق التي لم تنشر حيث لم يظهر من قصائد ديكنسون المعروفة البالغة 1775 قصيدة خلال حياتها إلا سبع قصائد فقط ، علاوة على ذلك ففي الطبعة الأولى من أعمالها أعاد محرروها كتابة أعمالها بأساليب أكثر تقليدية، أما إلى المحررون المتأخرون فقد رجعوا إلى المخطوطات لاستعادة قصائدها الحقيقية .

المطلب الثاني : القيمة الوظيفية إزاء القيمة السحرية للمخطوطات .

إن القيمة الخاصة للمخطوطة لا تأتي من الكلمات التي تحويها فحسب، حيث يمكن العثور على النص في مكان آخر في شكل مطبوع، وبالمقاييس الوظيفية البحت -أي مقروئية النص وديمومته وإمكانية حمله حتى دقته- قد يكون الكاتب في العادة أفضل من المخطوطة. غير أن القيمة العليا للمخطوطة تأتي من كونها عملا فنيا في عصر الإنتاج (الميكانيكي) في هالتها وفي وجودها الزماني والمكاني .
والكاتب الحديث هو منتج مصنع وفقا لمعايير موضوعة وثابتة، فالنسخة الموجودة في شيكاغو لا تختلف عن النسخة الموجودة في باريس أو مدغشقر، أما المخطوطة فهي لا توجد ككيان فريد لا يمكن تكرار جوهره الكلي فحسب بل إنها أيضا تحيا كقطعة فنية تاريخية يمكن إرجاعها إلى كاتبها . إن طريقة وجود الأعمال الأدبية هي مشكلة معقدة، وربما لا حل لها، غير أن الإنتاج (الميكانيكي) وفر إجابة بالنسبة إلى القارىء العادي على الأقل، وبينما حولت تطورات الطباعة التجارية في القرن 18 الكتب من سلع كمالية إلى أغراض عادية ، فإن الإنتاج الكمي قد نزع القداسة عن الكتاب ولكنه لم يدمر الهالة السحرية للعمل الأدبي ، بل نقاها فحسب وأدى انتشار الكتب المطبوعة بالتدريج إلى إيجاد نوع جديد من "الكتاب الأصلي" وهو المخطوطة المكتوبة بيد المؤلف،والتي تحظى بهالة من المصداقية والموثوقية عن طريق يد كاتبها .


المبحث الثالث : حميمية المخطوطة والتقانة والشعر في المخطوطات .

المطلب الأول : حميمة المخطوطة .

إن التمييز القارئ الخاص والعام ليس دقيقا حتى في الكتب المطبوعة ، فالمطابع الأنيقة عادة تطبع الكتب في طبعات محدودة . نادرا ما تتجاوز مئتي نسخة أو تقل عن ثلاثين نسخة، ومثلها مثل المخطوطات الأرستقراطية في العصر الإليزابيثي ، فإن هذه الطبعات الفاخرة تخدم دائرة معينة من القراء،وتحتل موقعا متوسطا بين جماهير القراء الخاصين والعامين.فمثلا روبرت فروست لم يطبع من ديوانه TWILIGHT ) 1894م( إلا نسختين ، واحدة له والأخرى "لأليانوروايت" التي تزوجها بعد ذلك.
وفي إحدى حالات اليأس الرومانسي،مزق الشعار نسخته، ولكن أليانور كانت أكثر حصافة ، والنسخة الوحيدة من هذا الديوان محفوظة الآن في مجموعة فروست بجامعة فرجينيا.والمخطوطات أيضا تمثل جواز مرور للخيال،إذ إنها تسمح للمطالع لها بالسفر من العالم العام وغير الشخصي للطباعة ) الميكانيكية( إلى العالم الخاص والإنساني للمؤلف؛من الأدب كمؤسسة، إلى الأدب كصداقة، فالكتاب شيء عام تنتجه كميا مجموعة من الأيدي،وهو مصمم للكثير من القراء،وعلى العكس من ذلك تبدو حتى المسودة المكتوبة على الآلة الكاتبة حميمة وفردية . إن المخطوطة تدعو المطالع لها من بين حشد القراء ليكون فردا ،ومن المغري أن تصور المخطوطات على أنها أغراض للتأمل الجمالي، والنسخ المبيضة الرائعة للأشخاص مثل :بو POE ولونجفيلو LONGFELLOW و كيتس تستحق مثل \لك الإهتمام . ومسودات العمل توفر متعة مماثلة أو ربما تفوق تلك التي توفرها النسخ المبيضة ، ففي تصحيحاتها وتعديلاتها والحذف منها يكتشف المرء جوانب من إنسانية الكتاب.وكان كيبلنج وكمنجز يرسمان صورا في مسوداتهما وخطاباتها. وإذا كانت روعة العمل المنتهي تثير تخيلنا الجمالي،فإن أوجه النقص في مسودات العمل تسمح لنا بالمشاركة .



المطلب الثاني : التقانة والشعر في المخطوطات .

وتوحي دراسة المخطوطات الأدبية بتعقيد العلاقة وحيويتها بين التقانة )التكنولوجيا( والشعر في الوقت نفسه ، ففي الدراسات الأدبية ينظر إلى الشعر في الغالب على أنه لغة بحت يولدها خيال الشاعر في علاقاته بالتراث .
وقد يدرس الباحثون إقتصاديات النشر وتقنياته لكي يفهمو الهوية الإجتماعية للشاعر،ولكن أكثر العلاقات حميمية بين التقانة والكتابة الشعرية تظل إلى حد كبير غير مكتشفة ، بإستثناء بعض ما قام به بعض المنظرين من أمثال مارشال ماكلوهان MCLUHAN و ولتر أونج ONG و أريك هافلوك HAVELOCK . والمخطوطة الأدبية تسمح للمطالع لها بسبر أغوار غموض العبقرية الأدبية ، وإذا كانت مخطوطة جيدة فإنها تدعو المرء إلى رأية الشاعر في لحظة أدائه على أقصى حدود الامكانات الانسانية . أما النص المطبوع فإنه يسمح للمرء أن ينظر إلى هذا الاداء كما يشاهد المتفرج مبارات في كرة القدم من مقعد في الملعب ) الأستاذ( ،ولكن المخطوطة تضع المرء إلى جانب المؤلف. وهنا ،كما هو الحال في الفنون عنصر قوي من حب التلصص والرغبة في رؤية المؤلف وجها لوجه ليست مصورة على محبته أو المعجبين به , بل إنها رغبة إنسانية متجذرة وفطرية .
والمخطوطات المكتوبة باليد ترضي الرغبة نفسها لدى القراء، وتقدم يد الكاتب صلة إنسانية مباشرة ودعوة موحية لخيال القارىء ، وقد تكون دراسة الخطوط علما زائفا ولكن تستند إاى نفاذ بصيرة خالص، وهي أن هناك علاقة جوهرية بين خط اليد والشخصية. ويصف أدموندموريس قدرة الخط اليدوي على توصيل الحالة الداخلية للمؤلف بقوله : " إن القوة الأساسية للمخطوطة هي توصيل الفيض المتصل للفكر اإنساني من المخ إلى اليد إلى القلم إلى الحبر إلى العين ، كل خفقة وكل جرة قلم وكل حرف يرتجف للتعبير أما الحرف المطبوع ليس له ذلك الدفء المناظر " .
وعند فحص مخطوطة الشعراء المشهورين كثيرا ما يدهش المرء لبعض الجوانب الشخصية التي تتجل بوضوح في خطوط أيديهم فخط بو POE الجميل يكشف الحسسية نفسها التي عبرة عنها جماليتها الحالمة .أما مخطوطة إميلي ديكنسون فإنها تضخم الحروف ، حتى إن قصيدة قصيرة تزحف لتملأ صفحة بأكملها .

الخاتمة

تعتبر المخطوطات ذات أهداف مختلفة حيث نجد المخطوطة اليدوية هي الوسيلة الوحيدة لنقل الأدب سواء كان عاما أو خاصا ، ولكن رغم هذا كله ظلت ثقافة المخطوطات قوية في الحياة الأدبية وبذلك نجد أن المخطوطات قد حققت هدف ولو كان بسيط فإن قيمة المخطوطات الأدبية في الثقافة الغربية تعكس دافعا إنسانيا مثيرا للإعجاب يتعذر التخلص منه ألا وهو الرغبة في علاقة مباشرة وموثوق بها بين الفن وجمهوره . وقد يكون الأدب مؤسسة ،مكتبة خيالية شاسعة ومعقدة لدرجة تجعل من الصعب على قارئ واحد سبر أغوارها كلها ، ولكن خبرة دراسة المخطوطات تذكر المطالع لها بأن كل عمل مفرد هو أيضا محادثة ،تعامل خيالي وعاطفي بين شخص وآخر،جسر عبر الزمان والمكان وليس ثمة قراءة من المخطوطة فيد الشاعر تمتد لتحيي القارئ .فمثلا المخطوطات العربية تعتبر أضخم تراث في العالم وبذلك نجدها قد حققت هدفها والذي يتمثل في وصول المخطوطات العربية إلى العالمية .

ليست هناك تعليقات: