د. عبدالعزيز بن محمد آل عبداللطيف | 4/3/1433 هـ
الألفاظ الشرعية والمصطلحات الدينية فيها الشفاء والغَناء والحرمة والتعظيم ما ليس في غيرها، كما أنَّ فيها من الحِكَم والمعاني ما لا تنقضي عجائبه[1].
والانفتاح على الثقافات الأخرى، وعلوم الأمم المختلفة جَلَب كـمَّاً هائلاً من المصطلحات الحادِثة، والألفاظ المستجدة، التي لا تنفك عن إجمال واشتباه، وتلبيس وأغاليط؛ ولا سيما أن نفوساً تعتريها السآمة من الألفاظ الشرعية الراتبة! ويسارقها طبع الميل إلى المستجد والحديث.
ولزوم الشرع المنزَّل يحقق صلاحاً للعقل، وزكاءً للفكر، وسعة في الأفق و «إذا اتسعت العقول وتصوراتها اتسعت عباراتها، وإذا ضاقت العقول والتصورات بقي صاحبها كأنه محبوس العقل واللسان»[2].
والسلف الصالح لم ينكروا هذه الألفاظ المستجدة لأجل حدوث ألفاظها، وجدَّة تعبيراتها؛ وإنما لأجل اشتمالها على باطل وضلال.
بل إن الألفاظ والمصطلحات الشرعية يلحقها التحريف وسوء الفهم لأجل ظروف وملابسات البيئة التي تظهر فيها تلك المصطلحات؛ فقد ينشأ الشخص وهو لا يعرف من مصطلح «التوسل» - مثلاً - إلا التوسل إلى الله بالجاه والذات، فيتوهم أن هذا معنى التوسل في نصوص الوحيين، وليس الأمر كذلك[3]؛ وإنما التوسل المشروع هو التوسل إلى الله بالإيمان والعمل الصالح.
وإذا كان اللَّبس واقعاً في الألفاظ الشرعية فكيف بألفاظ ومصطلحات أجنبية النشأة والولادة؟ فالألفاظ المتداوَلة - كالإنسانية والمجتمع المدني والحريات وغيرها - لا تنفك عن ملابسات فكرية وعقدية؛ فلا يمكن تصوَّر هذه المصطلحات بعلم وعدل إلا باستصحاب هذه النشأة وتلك الملابسات.
والمحققون في مذهب السلف - كابن تيمية وابن القيم ونحوهما - يذكرون الألفاظ المجملة في الاعتقاد كالجوهر والجهة عند المتكلمة، والألفاظ المجملة في السلوك كالغناء وأحوال القلوب عند المتصوِّفة، ويقررون أن الكلام فيها دون الاستفصال يوقع في الجهل والضلال، والقيل والقال، وأن أكثر الاختلاف باعثُه الإجمال والاشتراك في الألفاظ والمصطلحات[4].
يقول ابن القيم: «أصل بلاء أكثر الناس من جهة الألفاظ المجملة التي تشتمل على حق وباطل، فيطلقها من يريد حقها فينكرها من يريد باطلها، فيردُّ عليه من يرد حقها. وهذا باب إذا تأمله الذكي الفطن رأى منه عجائب، وخلَّصه من ورطات تورَّط فيها أكثر الطوائف»[5].
والحاصل أنه لا بد مع تلك المصطلحات من التبيين والتفصيل، فلا نقبلها بإطلاق، كما لا نردُّها بإطلاق؛ إذ قد نقبل باطلاً أو نردُّ حقاً. بل نجعـل الألفاظ الشرعية والمصطلحات الدينية هي الأصل والميزان لتلك المصطلحات المحدَثَة المجمَلَة؛ فإن كان المراد بهذه المصطلحات صواباً موافِقاً لنصوص الوحيين قُبِل. وإن كان مراده باطلاً رُدَّ.
لكن قد يحتاج إلى تلك الألفاظ المجملة في مخاطبة بعض الناس؛ كالشخص الذي لا يعقل إلا هذه الألفاظ، فإنه يُخاطب بها عند اللزوم والحاجة، كما حرره أبو العباس ابن تيمية[6].
والمقصود أن لزوم العبارات الشرعية والاعتزاز بها يتسق مع الموقف من الألفاظ الحادثة والمصطلحات المجملة؛ فلا انفلات ولا جمود، ولا ذوبات ولا انقباض.
ومما يحسُن التنبيه عليه أن جملة من المصطلحات الحادثة المجمَلة إنما هي مجرد ألفاظ وتعبيرات، فلا ينبني عليها حقائق علمية أو عقلية «والاصطلاحات اللفظية ليست دليلاً على نفي الحقائق العقلية»[7].
«والمعاني العقلية لا يعتبر فيها مجرد الاصطلاحات»[8].
وهذا واقع قديماً وحديثاً؛ فالفلاسفة المشاؤون - مثلاً - أحدثوا اصطلاحات وفروقاً فلسفية لكنها لا تغير من الحقائق شيئاً، ولا دليل عليها.
وإذا كنا في عصر الانفتاح وثورة المصطلحات الوافدة، وركام التعبيرات والألفاظ، فلا بد من إشارة إلى ما في جملة هذه الألفاظ من زخرف وتزويق، وبهرجة وتنميق، قد يستهوي ضعاف العلم والتحقيق[9].
قال - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنسِ وَالْـجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112].
خاصة إذا كانت هذه الألفاظ المستجدة هي ثقافة سائدة ومكرورة بكرةً وعشياً، إضافة إلى زخم الإعلام بتلك المصطلحات، وتهويل المجتمع واحتفائه بها، فربما أن بعضهم لا يسوِّغ هذه المصطلحات الموهمة المشتبهة، لكن تبقى حظوظ النفس لها أثرها وتأثيرها؛ فقد ينساق في استعمال هذه الألفاظ بعُجرها وبُجرها، لئلا يُتهَم بالتخلُّف والقصور!
وهذه الآفة الحاضرة قد كشفها ابن تيمية وحررها بأسلوب متين يجمع بين التأصيل الشرعي والدراية بأهواء النفوس وكمائنها، فقال - رحمه الله -: «عمدوا [أي الفلاسفة] إلى ألفاظ مجملة مشتبهة تحتمل في لغات الأمم معاني متعددة، وصاروا يدخلون فيها من المعاني ما ليس هو المفهوم منها في لغات الأمم، ثم ركَّبوها، وعظَّموا قولهم، وهوَّلوه في نفوس من لم يفهمه، ولا ريب أن فيه دقة وغموضاً لما فيه من الألفاظ المشتركة والمعاني المشتبهة، فإذا دخل معهم الطالب وخاطبونه بما تنفر عنه فطرته، فأخذ يعترض عليهم، قالوا له: أنت لا تفهم هذا، وهذا لا يصلح لك، فيبقى ما في النفوس من الأنفة والحميَّة يحملها على أن تسلِّم تلك الأمور قبل تحقيقها عنده، وعلى ترك الاعتراض عليها خشية أن ينسبوه إلى نقص العلم والعقل»[10].
وأخيراً فإن الألفاظ الشرعية لها حرمة وتعظيم، ومن تمام ذلك أن نتعرَّف على معانيها وحدودها؛ فمن أشرف العلوم علم الحدود المشروعة (المأمورات والمنهيات)، ومعرفة ذلك دراية، والقيام بها رعاية[11].
والله الموفق لا إله غيره.
المصدر/ مجلة البيان العدد : 295
__
[1] انظر: النبوات لابن تيمية: 2/876.
[2] الرد على المنطقيين لابن تيمية ص 166.
[3] انظر: قاعدة جليلة في التوسل ص 152، وبيان تلبيس الجهمية: 7/399.
[4] انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية: 2/217.
[5] شفاء العليل لابن القيم ص 289، وانظر: نقض التأسيس لابن تيمية: 2/14.
[6] انظر: منهاج السنة النبوية: 2/554.
[7] التدمرية لابن تيمية ص130.
[8] الدرء: 2/222.
[9] انظر: الصواعق المرسلة لابن القيم: 2/436.
[10] الدرء: 1/295.
[11] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية: 2/113، 1/25، ومدارج السالكين لابن القيم: 1/140، والفوائد ص 133.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق