المبحث السابع
اثر الخلافات العقدية على وحدة الأمة
كما أسلفنا من قبل إن وحدة الأمة ضرورة ملحة أكدت عليها النصوص القرآنية والسنة النبوية المطهرة وبعد ابتعادنا عن ديننا وغربتنا تعرضت الأمة الإسلامية الى تناحرات ومعارك ساخنة الوطيس فقدنا فيها الغالي والنفيس من الرجال والأراضي فأصبحنا جماعات وطوائف ودويلات مشرذمة مختلفة وان من أهم أسباب ذلك هو إثارة الخلافات والبحث في المتشابه ولي أعناق النصوص من دون التشبع بأخلاقيات الخلاف بين نفر الأمة الواحدة وأمصارها المختلفة، خصوصا مع اتساع رقعة الخلافة الإسلامية وما انجر عنه من وافدين جدد على هذه الملة الحقة، وإن كانت هذه النزاعات تتمحور في جانبين مهمين وهما الفقه الأكبر أعني مسائل العقيدة، والفقه الأصغر بفروعه وأصوله أعني مباحث العبادات، إلا أن الجانب الأول كان له الأثر المدمر الملموس على أرض الواقع تاريخا، وساحات الوغى آثارا، حيث الغلبة فيها لصالح الطائفية العمياء والهمجية بضوضائها الهوجاء بسببها طفت إلى السطح تلك الخلافات العقدية الحادة وما انجر عنها من تبييض وتفريخ لجماعات تختلف كل واحدة عن الأخرى على حسب قناعتها وإديولوجيتها، ومع غياب عامل لغة الحوار حلت لهجة الدمار لتقع الأمة في مستنقع الإقتتال الداخلي والصراع المستميت، حول التمكين للأسلوب والمنهج التي تسلكه هذه الجماعة، محاولة محو الأخرى من على أرض الوجود، عوض أن توجه تلك الطاقات الهائلة لتعمير الخلافة وتشييد المجد الضائع، والأمة بين هاته وتلك على مرأى من أعين العدو، يتحين الفرصة حين تتأجج الصراعات بين الإخوة الأعداء فيهنوا ويستكينوا، لينقض عليهم بدوره تماما كالأولاد السيئين الذين ينتظرون بفارغ الصبر، موت والدهم المريض ليرثوا أمواله، فوآ أسفاه.
..
وهناك جهات معادية للإسلام والمسلمين خارجية تعمل على تأجيج هذه الصراعات والخلافات الفكرية لتفريق الأمة وتعطيلها عن ممارسة دورها في استعادة مكانتها ونشر تعاليم الإسلام .
وعلى مر العصور يمكن لنا أن نحصر المسائل التي كانت مثار للخلاف .
1- مسائل الأسماء والصفات من المسائل المتشابهة التي تم البحث فيها والاختلاف حولها . . فنما في كنفها التناحر وتبادل التهم .
فمن المعطلة إلى المجسمة إلى المؤولة . وتطور الأمر إلى الاقتتال وتعرض العلماء الأعلام في تلك الفترة إلى محن كبيرة محنة الإمام احمد رحمه الله في مسألة خلق القرآن ومخالفة لرأي المعتزلة الذي أغروا به الحكام إلى سجنه وتعذيبه .
2- توحيد الإلوهية من المباحث الكبيرة التي انتشرت في تلك الفترة حتى وصلت إلى حد الولوج إلى عالم الشرك من قبل أهل البدع الخرافات ووقف لها الإمام ابن تيمية موقف حازم وتعرض ما تعرض له من قبل الإمام احمد .
3- قضية الإيمان والتكفير :
وهي من القضايا الخطيرة التي كانت على مر التاريخ قاصمة لظهر الأمة لأنها تتعلق باخراج المسلمين من دينهم بأثر المعاصي من خلال لي أعناق النصوص واقتطاعها ومن ثم الحكم عليهم بالموت . فادت إلى مقتل خلفاء رسول الله سيدنا عمر الفاروق وعثمان ابن عفان وعي ابن ابي طالب والآف المسلمين ولو دقننا النظر جيدا لوجدنا إن اليهود والفرس على مر التاريخ هم وراء دعم وترويع فتنة التكفير والإقصاء في الأمة وكرد فعل للخوارج ظهرت المرجئة .
4- إشكالية العصمة والولاية :
حيث تحول تعلق البعض بآل البيت والصالحين إلى انتحال بعض خصوصيات الأنبياء كالعصمة والولاية بل تعدوا على ما يختص بالخالق فتصدى لهم العلماء الأعلام كأبن تيمية ومن جاء بعده فكان ذلك من مما زاد الطين بلة( ).
المبحث الثامن
تسويغ الاختلاف بين أهل الحق من المسلمين
قال تعالى:( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزلون مختلفين)( )
،. لقد كان شيخ الإسلام يدرك أن الاختلاف أمر طبيعي بل حتمي في هذه الكون، وهذه سنة إلهية ، حيث بيّن الله سبحانه وتعالي أن الناس في اختلاف ، وأنهم لا يزالون كذلك ، وأن الخلاف لا يعرف أحقيته أو بطلانه من كثرة الأعداد أو قلتها ، وأن الحق لا يرتبط بالأشخاص ولا بالدول ولا بالمؤسسات ، والحق أصيل وقديم ، وهو الغالب ، بالكلمة والحجة والبرهان ، وأن الحق لا يحتاج إلى أشخاص يجيدون الشتائم والسباب ، وأن الحق لا يريد إقصاء الآخر ، ولا إلغاء شخصه، ولا الانتقام منه ، بل الحوار معه ، في جو يكفل المساواة في الفرص والإمكانات ، وكما أن الحق ظاهر فإنه لا يزال في صراع ، حتى يرث الله الأرض ومن عليها .
قال شيخ الاسلام ابن تيمة رحمه الله :(والنزاع في الاحكام قد يكون رحمة إذا لم يُفظ إلى شر عظيم من خفاء الحكم ولهذا صنف رجل كتاب سماه الاختلاف فقال أحمد: سمّه كتاب السعة وإن الحق في نفس الامر واحد وقد يكون من رحمة الله ببعض الناس خفاؤه لما في ظهوره من الشدة عليه)( ) ،وقد وقع الخلاف في خير القرون وخيرالعهود عهد الرسول "صلى الله عليه وسلم "لكنه لم يوجب إفتراقاً،
قال الشاطبي: ( وغير ذلك مما إختلفوا فيه فلما حدثت الاهواء المردية التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم وظهرت العدوات وتحزب أهلها فصارو شيعاً دل على أنه إنما حدث ذلك من المسائل المحدثة التي ألقاها الشيطان على أفواه أوليائه)( ).
وقال ابن تيمية : ( وهذا التفرق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها ...وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا وإذا اجتمعوا أصلحوا وملكوا فان الجماعة رحمة والفرقة عذاب)( ) ، يقول أبن القيم رحمه الله: ( وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لابد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعداوته)( ) ،وقد أمر الله نبيه محمد "صلى الله عليه وسلم"بالمشاورة مع أصحابه في الامور الدنيوية لا التشريعية؛لأن التشريع بيد الله،قال تعالى: (وشاورهم في الامر)( ) ،فقد كان" صلى الله عليه وسلم "يستشير أصحابه ويستمع إلى آرائهم ويعتبررآيه في بعض الحالات تبعاً لرآي بعض أصحابه كما حصل في معركة بدر وحصل كذلك في نهاية المعركة لحسم مسألة الاسرى فكل صحابي أدلى برأيه فمنهم من أشار بقتلهم إعزازاً للدين وإظهاراً للقوة لانها أول معركة يخوضها المسلمين مع المشركين وممن قال بهذا الرآي هو عمر الفاروق "رضي الله عنه" ، وهناك من قال نفاديهم بالمال لان الدولة الفتية بحاجة إلى المال وقد أخذ الرسول "صلى الله عليه وسلم"برأي المُفاداة وقد جاء القرآن مؤيداً لرأي عمر "رضي الله عنه" خلافاً لرأي الرسول" صلى الله عليه وسلم"،
قال تعالى : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض تريدون عرض الدنيا والله يريد الاخرة والله عزيز حكيم)( ) ،وقد يقر النبي "صلى الله عليه وسلم" كلا المختلفين على رأيه الخاص بدون أن يبدي أي إعتراض أو ترجيح،
كما حصل في مسألة إختلاف الصحابة في صلاة العصر حينما أمرهم بصلاة العصر في بنى قريظة،فعن نافع عن ابن عمر قال: قال النبي" صلى الله عليه وسلم": لنا لمارجع من الاحزاب لايصلين أحد العصر الا في بني قريظة،فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم:لانصلي حتى نأتيها،وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك،فذكر النبي "صلى الله عليه وسلم" فلم يعنف واحداً منهم( ).
ورد في فتح الباري بشرح صحيح البخاري،في هذا الحديث من الفقه أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث أو آية ولا على من استنبط من النص معنى يخصصه وفيه أن كل مختلفين في الفروع من المجتهدين مصيب،قال السهلي (ولايستحيل أن يكون الشيء صواباً في حق إنسان وخطاً في حق غيره وإنما المحال أن يحكم في النازلة بحكمين متضاديين في حق شخص واحد)،وذكر ايضاً ( فكل مجتهد وافق اجتهاده وجهاً من التأويل فهو مصيب انتهى والمشهور أن الجمهور ذهبوا إلى أن المصيب في القطعيات واحد وخالف الجاحظ والعنبري وأما ما لا قطع فيه فقال الجمهور ايضاً: المصيب واحد وقد ذكر ذلك الشافعي وقرره ونقل من الأشعري(إن كل مجتهد مصيب أن حكم الله تابع لظن المجتهد وقال بعض الحنفية وبعض الشافعية: (وهو مصيب باجتهاده وإن لم يصيب ما في نفس الأمر فهو مخطىء وله أجر واحد)،وذكر في شرح هذا الحديث ايضا( ثم الاستدلال بهذه القصة على أن كل مجتهد مصيب على الاطلاق ليس بواضح وإنما فيه ترك تعنيف من بذل وسعه واجتهد فيستفاد منه عدم تأثيمه حاصل ماوقع في القصة أن بعض الصحابة حملوا النهي على حقيقته ولم يبالوا بخروج الوقت ترجيحاً للنهي الثاني على النهي الاول وهو ترك تأخير الصلاة عن وقتها واستدلوا بجواز التأخير لمن اشتغل بأمر الحرب نظير ما وقع في تلك الايام بالخندق)
فقد تقدم حديث جابر المصرح بأنهم صلوا العصر بعدما غربت الشمس وذلك لشغلهم بأمر الحرب فجوزوا أن يكون ذلك عاماً في كل شغل يتعلق بأمر الحرب ولا سيما والزمان زمان التشريع والبعض الآخر حملوا النص على غير الحقيقة وأنه كناية عن الحث والاستعجال والاسراع إلى بني قريظة وقداستدل به الجمهور على تأثيم من اجتهد لانه" صلى الله عليه وسلم" لم يعنف احداً من الطائفتين فلو كان هناك اثم لعنف من اثم)،انتهى ما ورد في شرح الباري أن عدم تعنيف الرسول" صلى الله عليه وسلم"لاي الفرقتين لهو دليل واضح بجواز الاختلاف( )،ولكن الذي له الحق بالاختلاف هو القادر على فهم النصوص فهماً شرعياً بمعنى أنه من لايستطيع أن يفهم النص فليس له الحق في أن يختلف مع من يستطيع أن يفهم النص بمعنى آخر من كان غير مجتهد فليس له الحق في أن يختلف مع المجتهد في فهم النصوص الشرعية ما دامت نصوص قابلة للإختلاف وكما ذكرنا من قبل أن الاختلاف سنة كونية في جميع الخلائق،قال تعالى:( الم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف الوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والانعام مختلف الوانه إمنا يخشى الله من عباده العلماء)( ).
وجعل من آياته إختلاف الألوان والألسن (ومن آياته خلق السموات والارض واختلاف ألسنتكم وألوانكم)( ) ،وفاضل بين الانسان في القدرات فكلف كل إنسان بقدر ما يطيق ( لايُكلف الله نفساً إلا وسعها)( ) ، وخلقهم كذلك مختلفين في عقائدهم (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن)( ) ،
ولكن يجب علينا أن نستثمر هذا الاختلاف بما ينفع المجتمع ففي مجال التشريع والفقه نلاحظ وجوداً أكثر من رأى سهل على الناس عبادتهم لله ويسر عليهم معاملاتهم فيما بينهم وفق ضوابط الآراء المختلفة ( فلو أجبرنا الناس على رأي واحد لشق عليهم ذلك وكما إن رفع الخلاف لا يثمر إلا توسيع لدائرة الاختلاف وهي محاولة تدل على سذاجة بينة ذلك إن الاختلاف في فهم الأحكام الشرعية غير الاساسية ضرورة لا بد منها والذي أوجب هذه الضرورة طبيعة الدين وطبيعة اللغة وطبيعة البشر وطبيعة الكون والحياة.
وهذا فضلاً عن الاختلافات الأخرى التي قد يكون الاختلاف فيها ضرورياً لأنه يساعد على معرفة نقاط الضعف والقوة التي لا يمكن أن تعرف إلا في ظل الاختلاف،ومن هنا تظهر أهميته والحاجة اليه والتكيف معه بنحو من الايجابية والعقلنة)( ) ، ونحن اليوم بحاجة ماسة أكثر من أ ي وقت إلى تدريس أدب الخلاف في مدارسنا وجامعاتنا ومساجدنا وإشاعة ذلك في صفوف الشباب لرص الصف وتفويت الفرصة على الأعداء وليستوعب بعضنا البعض، فالساحة تسع الجميع ما دام الهدف واحد هو إظهار الحق ومادام الاختلاف ضمن الضوابط الشرعية،ان الكثير من لا يستوعب فكرة أن للحقيقة قد يكون لها أكثر من وجه فحيث تختلف لايعني هذا أن أحدنا على خطأ!!!! قد نكون جميعاً على صواب لكن كل منا يرى ما لايراه الآخر، ولنبتعد عن الدكتاتورية الفكرية والآحادية في الرأي كما كان فرعون يفعل( ما أريكم الا ما أرى وما أهديكم الا سبيل الرشاد)( ) .
َ
تثبيت المصادر والمراجع
• الاستقامة، تأليف: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، دار النشر: جامعة الإمام محمد بن سعود - المدينة المنورة - 1403، الطبعة: الأولى، تحقيق: د. محمد رشاد سالم.
• الاعتصام، تأليف: أبو إسحاق الشاطبي، دار النشر: المكتبة التجارية الكبرى – مصر.
• الجامع الصحيح المختصر، تأليف: محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، دار النشر: دار ابن كثير , اليمامة - بيروت - 1407 - 1987، الطبعة: الثالثة، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا.
• درء تعارض العقل والنقل، تأليف: تقي الدين أحمد بن عبد السلام بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت - 1417هـ - 1997م. ، تحقيق: عبد اللطيف عبد الرحمن.
• الدرر الكامنة في اعيان المائة الثامنة المؤلف : ابو الفضل احمد بن علي بن محمد بن احمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) المحقق : مراقبة / محمد عبد المعيد ضان الناشر : مجلس دارءة المعارف العثمانية – صيدر اباد / الهند الطبعة : الثانية ، 1392هـ / 1972م.
• الرد الوافر المؤلف : محمد بن عبد الله (ابي بكر) بن محمد ابن احمد بن مجاهد القيسي الدمشقي الشافعي ، شمس الدين ، الشهير بابن ناصر الدين (المتوفى : 842هـ) المحقق : زهير الشاويش الناشر : المتكب الاسلامي – بيروت الطبعة : الاولى ، 1393 .
• سنن ابن ماجه، تأليف: محمد بن يزيد أبو عبدالله القزويني، دار النشر: دار الفكر - بيروت - -، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي.
• سنن البيهقي الكبرى، تأليف: أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر البيهقي، دار النشر: مكتبة دار الباز - مكة المكرمة - 1414 - 1994، تحقيق: محمد عبد القادر عطا.
• السياسة الشرعية في اصلاح الراعي والرعية، تأليف: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، دار النشر: دار المعرفة .
• الشهادة الزكية في ثناء على ابن تيمية المؤلف : مرعي بن يوسف بن ابي بكر بن احمد الكرمي المقدسي الحنبلي (المتوفى : 1033هـ) المحقق ؛ نجم عبد الرحمن خلف الناشر : دار الفرقان ، مؤسسة الرسالة – بيروت الطبعة : الاولى ، 1404هـ .
• شيخ الإسلام ابن تيمية وجهوده في الحديث وعلومه ، عبد الرحمن الفرايوئي ، دار العاصمة الرياض ط1 ، 1416 ..
• صحيح مسلم، تأليف: مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري، دار النشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي .
• الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، تأليف: أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي، دار النشر: دار العاصمة - الرياض - 1418 - 1998، الطبعة: الثالثة، تحقيق: د. علي بن محمد الدخيل الله.
• العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام احمد بن تيمية المؤلف : شمس الدين محمد بن عبد الهادي بن يوسف الدمشقي الحنبلي (المتوفى : 744هـ) المحقق : محمد حامد الفقي الناشر : دار الكاتب العربي – بيروت ..
• الفتاوى الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية، تأليف: شيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني ، دار النشر: دار المعرفة - بيروت، تحقيق: قدم له حسنين محمد مخلوف.
• كتاب الصفدية ، تأليف: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، دار النشر: دار الفضيلة - الرياض - 1421 هـ - 2000م. ، تحقيق: محمد رشاد سالم.
• الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، تأليف: أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي، دار النشر: مكتبة الرشد - الرياض - 1409، الطبعة: الأولى، تحقيق: كمال يوسف الحوت.
• كتب ورسائل وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، تأليف: أحمد عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، دار النشر: مكتبة ابن تيمية، الطبعة: الثانية، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي.
• مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، تأليف: محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، دار النشر: دار الكتاب العربي - بيروت - 1393 - 1973، الطبعة: الثانية، تحقيق: محمد حامد الفقي.
• مسند الإمام أحمد بن حنبل، تأليف: أحمد بن حنبل أبو عبدالله الشيباني، دار النشر: مؤسسة قرطبة – مصر.
• المصنف، تأليف: أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، دار النشر: المكتب الإسلامي - بيروت - 1403، الطبعة: الثانية، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي.
• منهاج السنة النبوية، تأليف: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، دار النشر: مؤسسة قرطبة - 1406، الطبعة: الأولى، تحقيق: د. محمد رشاد سالم.
• النبوات، تأليف: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، دار النشر: المطبعة السلفية - القاهرة – 1386.
الجمعة، 5 أغسطس 2011
وجوب الوحدة بين المسلمين ونبذ التفرقة عند ابن تيمية.
المبحث السادس:
وجوب الوحدة بين المسلمين ونبذ التفرقة.
إن من أعظم غايات الشريعة إجتماع الكلمة وألفة القلوب بين المسلمين؛لأنه بإجتماع الكلمة وألفة القلوب تتحقق مصالح الدين والدنيا ويتحقق التناصر والتعاون والتعاضد،فإن الله تعالى قال : ( وإعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)( ) ،وقال تعالى : ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)( ) ،وفي آية أخرى ( وأنا ربكم فاتقون)( ) ،وقال تعالى: ( إن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)،وقال "صلى الله عليه وسلم ": ( مثل المؤمنون في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضواً تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)( ) ،وقال "صلى الله عليه وسلم": ( أنا أمركم بخمس الله أمرني بهن بالجماعة بالسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الأسلام من عتقة الى أن يرجع)( ).
وقد شرع لنا ديننا الحنيف كل ما يقوي عوامل الألفة والأتحاد ويزيل عوامل البغضاء والكراهة والاختلاف فنهى عن الهجران لأنه سبب الكراهة والبغضاء والبعد والحقد والتناحر والتدابر والتنازع والتفرق،قال "صلى الله عليه وسلم" ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)( ) ، ولما كان الاختلاف مفسداًللدين والدنيا فقد إعتبرها الاسلام إنفصالاً عنه وكفراً،قال تعالى: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء)."( ) "
إن الفرقة شُطط كبير وجرم عظيم يبدد القوى ويمزق المجتمع عاقبته وخيمة في الدنيا وخسارة في الأخرة ومآله شر مال ويجر الى أسوأ الأحوال، وحذر المسلمين من الخلاف في الدين والتفرق في فهمه شيعاً متناحرة وأحزاباً متلاعنة كما فعل الأولون،قال تعالى: ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا وإختلفوا من بعد ما جاءهم البينات أولائك لهم عذاب عظيم)( ) ،( فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون)( ).
وإن الشقاق يضعف الأمم ويوهن المجتمعات القوية ويميت الأمم ولذلك جعل الله أول عظة للمسلمين بعد إنتصارهم في معركة بدر أن يوحدوا صفوفهم ويلموا شملهم ويجمعوا أمرهم،وذلك عندما تطلعت بعض النفوس لحظها من الغنائم، قال تعالى (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين)( ) ،أفهمهم الله أن الأتحاد في العمل لله هو طريق النصر الأكبر وإتجاه الهدف وتوحيد الكلمة كما أن الفرقة والتنازع طريق الهزيمة والخسران،فقال تعالى: ( واطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)( ) ،فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه وحين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفعال والأفكار،فاذا إستسلموا لله ورسوله إنتفى أهم سبب للنزاع ومن أعظم ما نهى عنه الأسلام الخوض بالباطل في الأحداث والفتن لأنها سبب مهم لتفرق وحدة المسلمين،قال"صلى الله عليه وسلم": ( إياكم والفتن فإن اللسان فيها كوقع السيف)( ) ، وقال"صلى الله عليه وسلم": ( لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)، أو قال( تختلف وجوهكم)( ) ؟،وقال عبدالله بن مسعود" رضي الله عنه" (الخلاف كله شر)( ) ،وقال الحسن بن علي: ( يا أيها الناس إن الذي تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة)( ) ،هذه المعاني الجميلة واجبة في كل وقت على المسلم ولكنها متأكدة الوجوب في أوقات الشدائد والأزمات والفتن حفاظاً على حوزة المسلمين وحراسة للملة والدين لأن إجتماع الكلمة قوة المسلمين وإختلاف الكلمة ضعف لهم.
وخير سبيل للخلاص من الخلاف هو الأحتكام الى كتاب الله وسنة الرسول"صلى الله عليه وسلم"، قال تعالى: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما بينهم ثم لا يجدو في أنفسهم جرماً مما قضيت ويسلموا تسليما)( ) ،( فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر ذلك خير وأحسن تأويلا)( ) ،وكذلك من سبل الأبتعاد عن الخلاف هو الأبتعاد عن البدع،روى البيهقي في سننه عن أبي بكر الصديق"رضي الله عنه" في أحد خطبه قال:-
( أنه لايحل أن يكون للمسلمين أميران فإنه مهما يكن ذلك يختلف أمرهم وأحكامُهُم وتتفرق جماعتهم ويتنازعوا فيما بينهم هنالك تترك السنة وتظهر البدعة وتعظم الفتنة وليس لأحد على ذلك صلاح)( ) ،وعن جابر قال:- قال" صلى الله عليه وسلم" ( شر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة)( ).
وبهذا أجمع العلماء على أن الجماعة والالفة أصل من أصول الدين يضحى في سبيله بالفروع، قال ابن تيمة رحمه الله: (الاعتصام بالجماعة والالفة أصل من اصول الدين والفرع المتنازع من الفروع الخفية فكيف يقدم في الاصل بحفظ)( ) ،وإن الوحدة من أوجب الأولويات في هذه المرحلة الراهنة التي تمر بها أمتنا من التفرق والتشرذم و ان الفرقة والخلاف كانت السبب الرئيسي في حل عقدة الاسلام المتماسكة وقد كانت سبباً في تفرقة الحركات الاسلامية على وجه الخصوص،فبالوحدة يعز الاسلام والمسلمون،وإذا كانت الوحدة بين المسلمين مطلباً شرعياً وواجب فلا شك أنها بين الذين يتصدون للدعوة والجهاد أشد مطلباً وأوجب.
فينبغي تأليف القلوب بين الحركات الاسلامية وتعاونها على البر والتقوى والابتعاد عن التعصب للاشخاص والاحزاب.
نماذج من اقوال ابن تيمية في حرصه على وحدة المسلمين وجمع كلمتهم
ومن الميز والخصائص المهمة في ابن تيمية تغليبه للمصلحة العامة المتمثلة في وحدة الصف الإسلامي ، وجمع الكلمة، ورأب الصدع، ونبذ الاختلاف، وهذه الميزة مبثوثة في أقواله ومشهود لها من أفعاله وسيرته، و كان -رحمه الله- حريصاً على تقارب المسلمين، ليس بالعبارات الخاوية، ولا بالمؤتمرات الشكلية، بل بمنهج عملي أصيل، كان له دور كبير في توحيد الصف الإسلامي في وجه المخاطر التي تحدق بهم.
فقد أرسل ابن تيمية رسالة إلى إخوانه وأصحابه بدمشق، يحثهم فيها على الوحدة الإسلامية، ويدعوهم إلى اجتماع الكلمة، وإصلاح ذات البين. ومما قاله فيها:
(وتعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين تأليف القلوب واجتماع الكلمة وصلاح ذات البين، فان الله تعالى يقول: فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ويقول: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويقول: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف وتنهى عن الفرقة والاختلاف، وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة)( ).
وقال ابن تيمية مبيناً تجربته الشخصية والعملية: (والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة ومنافرة، وأنا كنت من أعظم الناس تأليفاً لقلوب المسلمين وطلباً لاتفاق كلمتهم واتباعاً لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله و أزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة، وبينت لهم أن الأشعرى كان من أَجَلِّ المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد -رحمه الله- ونحوه المنتصرين لطريقه كما يذكر الأشعري ذلك في كتبه.. وفرح المسلمون باتفاق الكلمة وأظهرتُ ما ذكره ابن عساكر في مناقبه، أنه لم تزل الحنابلة والأشاعرة متفقين إلى زمن القشيرى، فإنه لما جرت تلك الفتنة ببغداد تفرقت الكلمة)( ).
وبيَّن لأصحابه وتلاميذه منهجه الذي يسير عليه تجاه المسلمين، والذي لا يحيد عنه، هو تقديم مصلحة المسلمين، وإحسان الظن بهم، حيث قال: (وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها –أي فتنة خصومه- وفي غيرها، وإقامة كل خير)( ).
وفي ذمه للتفرقة يقول ابن تيمية : " التفرق و الاختلاف المخالف للاجتماع و الائتلاف حتى يصير بعضهم يبغض بعضا و يعاديه و يحب بعضا و يواليه على غير ذات الله و حتى يفضي الأمر يبعضهم إلى الطعن و اللعن و الهمز و اللمز و يبعضهم إلى الاقتتال بالأيدي و السلاح و يبعضهم إلى المهاجرة و المقاطعة حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض ، و هذا كله من أعظم الأمور التي حرمها الله و رسوله "
الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع "( ).
(( وهذا الأصل العظيم وهو الاعتصام بحبل الله جميعا وأن لا يتفرق هو من أعظم أصول الإسلام ومما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم ومما عظمت به وصية النبي في مواطن عامة وخاصة مثل قوله عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة وقوله فإن الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد وقوله من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ........ وقوله من جاءكم وامركم على رجل واحد منكم يريد أن يفرق جماعتكم فإضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان وقوله يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطأوا فلكم وعليهم وقوله ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة منها واحدة ناجية وإثنتان وسبعون فى الناروقيل ومن الفرقة الناجية قال هى الجماعة يد الله على الجماعة ))( ) .
قال ابن تيميه : " جعل الله عباده المؤمنين بعضهم أولياء بعض, وجعلهم إخوة , وجعلهم متناصرين متراحمين متعاطفين وأمرهم سبحانه بالإئتلاف و نهاهم عن الإفتراق والاختلاف, فكيف يجوز مع هذه لأمة محمد أن تفترق وتختلف حتى يوالي الرجل طائفة ويعادى طائفة أخرى بالظن والهوى بلا برهان من الله تعالى ( )" . فإن الاختلاف في الرأي لا يمكن أن يكون مؤدياً إلى فتنة ، أو مورثاً لفرقة إلا إذا صاحبة بغي أو هوى كما قال تعالى:﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ﴾( قال: ﴿ ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾( ).
قال ابن تيمية: " وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار ، وهو بغضٌ مأمور به ، فإن كان البغض الذي أمر الله به قد نهى صاحبه أن يظلم من أبغضه ، فكيف في بغض مسلم بتأويل وشبهة أو بهوى نفس فهو أحق أن لا يظلم( ) "
وقد أشار ابن تيمية (رحمه الله) الى أن الطوائف المنتسبة للإسلام الذين يوجبون الإسلام ويحرمون ما وراءه هم باتفاق المسلمين خير من الفلاسفة الذين يسوغون التدين بأي دين كان ولذلك يقول: (فمن جعل الفيلسوف الذي يبيح دين المشركين واليهود والنصارى خير من الثنتين والسبعين فرقة فليس بمسلم )( ) .
ومن اقواله بوجوب طاعة ولي الامر حفاضا على وحدة المسلمين
قال ابن تيميه ( ولان الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة وكذلك سائر ما أوجبه الله تعالى من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة ولهذا روي : إن السلطان ظل الله في الأرض .ويقال: ستون سنة من أمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان )( ). وقال : ( لاإسلام إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمارة ولا إمارة إلا بطاعة) لذلك يقول عمر بن الخطاب ( إن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها)( ) .
- وذكرمن صفات أهل التفرق والاختلاف:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : «من والى موافقه وعادى خالفه وفرق بين جماعة المسلمين وكفر وفسق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات ؛ واستحل قتال مخالفه دون موافقه فهؤلاء من أهل التفرق والاختلافات»( )
- لا قومية و لا عصبية في الإسلام:
قال ابن تيمية -رحمه الله-: «وكلُّ ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن: من نسب أو بلد، أو جنس أو مذهب، أو طريقة: فهو من عزاء الجاهلية، بل لما اختصم رجلان من المهاجرين والأنصار فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَبِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ» وغضب لذلك غضبًا شديدًا»( )
وفي اللحظات الأخيرة من حياته –رحمه الله- مرض أياماً في محبسه الأخير في القلعة، فعلم بمرضه أحد وجهاء الدولة وهو شمس الدين الوزير، فجاءه يستأذنه في الدخول عليه لعيادته، فأذن الشيخ له في ذلك، فلما جلس عنده أخذ الوزير يعتذر له عن نفسه، ويلتمس منه أن يحلّه مما عساه أن يكون قد وقع منه في حق الشيخ من تقصير أو غيره.
فأجابه ابن تيمية بقوله: إني قد أحللتُك وجميع من عاداني وهو لا يعلم أني على الحق.
وقال له أيضاً: إني قد أحللت السلطان الناصر ابن قلاوون من حبسه إياي لكونه فعل ذلك مقلداً غيره معذوراً، ولم يفعله لحظّ نفسه، بل لما بلغهُ مما ظنه حقاً من مُبلِّغه، والله يعلم أنه بخلافه. ثم قال: قد أحللتُ كلَّ واحدٍ مما كان بيني وبينه( ).
ولم يبق ابن تيمية طويلاً بعد ذلك، حيث وافته الـمنَّية وهو في السجن، مظلوماً من قبل أعدائه، وهو صابر محتسب أجره عند الله، مات وليس في قلبه ذرة كراهية تجاه أي مسلم، مات بعد أن سامح الجميع، مات وهو راضٍ عن نفسه التي طالما تخلت عن حظوظها الذاتية في سبيل الأمة المسلمة.
وجوب الوحدة بين المسلمين ونبذ التفرقة.
إن من أعظم غايات الشريعة إجتماع الكلمة وألفة القلوب بين المسلمين؛لأنه بإجتماع الكلمة وألفة القلوب تتحقق مصالح الدين والدنيا ويتحقق التناصر والتعاون والتعاضد،فإن الله تعالى قال : ( وإعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)( ) ،وقال تعالى : ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)( ) ،وفي آية أخرى ( وأنا ربكم فاتقون)( ) ،وقال تعالى: ( إن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)،وقال "صلى الله عليه وسلم ": ( مثل المؤمنون في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضواً تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)( ) ،وقال "صلى الله عليه وسلم": ( أنا أمركم بخمس الله أمرني بهن بالجماعة بالسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الأسلام من عتقة الى أن يرجع)( ).
وقد شرع لنا ديننا الحنيف كل ما يقوي عوامل الألفة والأتحاد ويزيل عوامل البغضاء والكراهة والاختلاف فنهى عن الهجران لأنه سبب الكراهة والبغضاء والبعد والحقد والتناحر والتدابر والتنازع والتفرق،قال "صلى الله عليه وسلم" ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)( ) ، ولما كان الاختلاف مفسداًللدين والدنيا فقد إعتبرها الاسلام إنفصالاً عنه وكفراً،قال تعالى: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء)."( ) "
إن الفرقة شُطط كبير وجرم عظيم يبدد القوى ويمزق المجتمع عاقبته وخيمة في الدنيا وخسارة في الأخرة ومآله شر مال ويجر الى أسوأ الأحوال، وحذر المسلمين من الخلاف في الدين والتفرق في فهمه شيعاً متناحرة وأحزاباً متلاعنة كما فعل الأولون،قال تعالى: ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا وإختلفوا من بعد ما جاءهم البينات أولائك لهم عذاب عظيم)( ) ،( فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون)( ).
وإن الشقاق يضعف الأمم ويوهن المجتمعات القوية ويميت الأمم ولذلك جعل الله أول عظة للمسلمين بعد إنتصارهم في معركة بدر أن يوحدوا صفوفهم ويلموا شملهم ويجمعوا أمرهم،وذلك عندما تطلعت بعض النفوس لحظها من الغنائم، قال تعالى (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين)( ) ،أفهمهم الله أن الأتحاد في العمل لله هو طريق النصر الأكبر وإتجاه الهدف وتوحيد الكلمة كما أن الفرقة والتنازع طريق الهزيمة والخسران،فقال تعالى: ( واطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)( ) ،فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه وحين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفعال والأفكار،فاذا إستسلموا لله ورسوله إنتفى أهم سبب للنزاع ومن أعظم ما نهى عنه الأسلام الخوض بالباطل في الأحداث والفتن لأنها سبب مهم لتفرق وحدة المسلمين،قال"صلى الله عليه وسلم": ( إياكم والفتن فإن اللسان فيها كوقع السيف)( ) ، وقال"صلى الله عليه وسلم": ( لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)، أو قال( تختلف وجوهكم)( ) ؟،وقال عبدالله بن مسعود" رضي الله عنه" (الخلاف كله شر)( ) ،وقال الحسن بن علي: ( يا أيها الناس إن الذي تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة)( ) ،هذه المعاني الجميلة واجبة في كل وقت على المسلم ولكنها متأكدة الوجوب في أوقات الشدائد والأزمات والفتن حفاظاً على حوزة المسلمين وحراسة للملة والدين لأن إجتماع الكلمة قوة المسلمين وإختلاف الكلمة ضعف لهم.
وخير سبيل للخلاص من الخلاف هو الأحتكام الى كتاب الله وسنة الرسول"صلى الله عليه وسلم"، قال تعالى: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما بينهم ثم لا يجدو في أنفسهم جرماً مما قضيت ويسلموا تسليما)( ) ،( فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر ذلك خير وأحسن تأويلا)( ) ،وكذلك من سبل الأبتعاد عن الخلاف هو الأبتعاد عن البدع،روى البيهقي في سننه عن أبي بكر الصديق"رضي الله عنه" في أحد خطبه قال:-
( أنه لايحل أن يكون للمسلمين أميران فإنه مهما يكن ذلك يختلف أمرهم وأحكامُهُم وتتفرق جماعتهم ويتنازعوا فيما بينهم هنالك تترك السنة وتظهر البدعة وتعظم الفتنة وليس لأحد على ذلك صلاح)( ) ،وعن جابر قال:- قال" صلى الله عليه وسلم" ( شر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة)( ).
وبهذا أجمع العلماء على أن الجماعة والالفة أصل من أصول الدين يضحى في سبيله بالفروع، قال ابن تيمة رحمه الله: (الاعتصام بالجماعة والالفة أصل من اصول الدين والفرع المتنازع من الفروع الخفية فكيف يقدم في الاصل بحفظ)( ) ،وإن الوحدة من أوجب الأولويات في هذه المرحلة الراهنة التي تمر بها أمتنا من التفرق والتشرذم و ان الفرقة والخلاف كانت السبب الرئيسي في حل عقدة الاسلام المتماسكة وقد كانت سبباً في تفرقة الحركات الاسلامية على وجه الخصوص،فبالوحدة يعز الاسلام والمسلمون،وإذا كانت الوحدة بين المسلمين مطلباً شرعياً وواجب فلا شك أنها بين الذين يتصدون للدعوة والجهاد أشد مطلباً وأوجب.
فينبغي تأليف القلوب بين الحركات الاسلامية وتعاونها على البر والتقوى والابتعاد عن التعصب للاشخاص والاحزاب.
نماذج من اقوال ابن تيمية في حرصه على وحدة المسلمين وجمع كلمتهم
ومن الميز والخصائص المهمة في ابن تيمية تغليبه للمصلحة العامة المتمثلة في وحدة الصف الإسلامي ، وجمع الكلمة، ورأب الصدع، ونبذ الاختلاف، وهذه الميزة مبثوثة في أقواله ومشهود لها من أفعاله وسيرته، و كان -رحمه الله- حريصاً على تقارب المسلمين، ليس بالعبارات الخاوية، ولا بالمؤتمرات الشكلية، بل بمنهج عملي أصيل، كان له دور كبير في توحيد الصف الإسلامي في وجه المخاطر التي تحدق بهم.
فقد أرسل ابن تيمية رسالة إلى إخوانه وأصحابه بدمشق، يحثهم فيها على الوحدة الإسلامية، ويدعوهم إلى اجتماع الكلمة، وإصلاح ذات البين. ومما قاله فيها:
(وتعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين تأليف القلوب واجتماع الكلمة وصلاح ذات البين، فان الله تعالى يقول: فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ويقول: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويقول: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف وتنهى عن الفرقة والاختلاف، وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة)( ).
وقال ابن تيمية مبيناً تجربته الشخصية والعملية: (والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة ومنافرة، وأنا كنت من أعظم الناس تأليفاً لقلوب المسلمين وطلباً لاتفاق كلمتهم واتباعاً لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله و أزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة، وبينت لهم أن الأشعرى كان من أَجَلِّ المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد -رحمه الله- ونحوه المنتصرين لطريقه كما يذكر الأشعري ذلك في كتبه.. وفرح المسلمون باتفاق الكلمة وأظهرتُ ما ذكره ابن عساكر في مناقبه، أنه لم تزل الحنابلة والأشاعرة متفقين إلى زمن القشيرى، فإنه لما جرت تلك الفتنة ببغداد تفرقت الكلمة)( ).
وبيَّن لأصحابه وتلاميذه منهجه الذي يسير عليه تجاه المسلمين، والذي لا يحيد عنه، هو تقديم مصلحة المسلمين، وإحسان الظن بهم، حيث قال: (وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها –أي فتنة خصومه- وفي غيرها، وإقامة كل خير)( ).
وفي ذمه للتفرقة يقول ابن تيمية : " التفرق و الاختلاف المخالف للاجتماع و الائتلاف حتى يصير بعضهم يبغض بعضا و يعاديه و يحب بعضا و يواليه على غير ذات الله و حتى يفضي الأمر يبعضهم إلى الطعن و اللعن و الهمز و اللمز و يبعضهم إلى الاقتتال بالأيدي و السلاح و يبعضهم إلى المهاجرة و المقاطعة حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض ، و هذا كله من أعظم الأمور التي حرمها الله و رسوله "
الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع "( ).
(( وهذا الأصل العظيم وهو الاعتصام بحبل الله جميعا وأن لا يتفرق هو من أعظم أصول الإسلام ومما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم ومما عظمت به وصية النبي في مواطن عامة وخاصة مثل قوله عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة وقوله فإن الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد وقوله من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ........ وقوله من جاءكم وامركم على رجل واحد منكم يريد أن يفرق جماعتكم فإضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان وقوله يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطأوا فلكم وعليهم وقوله ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة منها واحدة ناجية وإثنتان وسبعون فى الناروقيل ومن الفرقة الناجية قال هى الجماعة يد الله على الجماعة ))( ) .
قال ابن تيميه : " جعل الله عباده المؤمنين بعضهم أولياء بعض, وجعلهم إخوة , وجعلهم متناصرين متراحمين متعاطفين وأمرهم سبحانه بالإئتلاف و نهاهم عن الإفتراق والاختلاف, فكيف يجوز مع هذه لأمة محمد أن تفترق وتختلف حتى يوالي الرجل طائفة ويعادى طائفة أخرى بالظن والهوى بلا برهان من الله تعالى ( )" . فإن الاختلاف في الرأي لا يمكن أن يكون مؤدياً إلى فتنة ، أو مورثاً لفرقة إلا إذا صاحبة بغي أو هوى كما قال تعالى:﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ﴾( قال: ﴿ ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾( ).
قال ابن تيمية: " وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار ، وهو بغضٌ مأمور به ، فإن كان البغض الذي أمر الله به قد نهى صاحبه أن يظلم من أبغضه ، فكيف في بغض مسلم بتأويل وشبهة أو بهوى نفس فهو أحق أن لا يظلم( ) "
وقد أشار ابن تيمية (رحمه الله) الى أن الطوائف المنتسبة للإسلام الذين يوجبون الإسلام ويحرمون ما وراءه هم باتفاق المسلمين خير من الفلاسفة الذين يسوغون التدين بأي دين كان ولذلك يقول: (فمن جعل الفيلسوف الذي يبيح دين المشركين واليهود والنصارى خير من الثنتين والسبعين فرقة فليس بمسلم )( ) .
ومن اقواله بوجوب طاعة ولي الامر حفاضا على وحدة المسلمين
قال ابن تيميه ( ولان الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة وكذلك سائر ما أوجبه الله تعالى من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة ولهذا روي : إن السلطان ظل الله في الأرض .ويقال: ستون سنة من أمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان )( ). وقال : ( لاإسلام إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمارة ولا إمارة إلا بطاعة) لذلك يقول عمر بن الخطاب ( إن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها)( ) .
- وذكرمن صفات أهل التفرق والاختلاف:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : «من والى موافقه وعادى خالفه وفرق بين جماعة المسلمين وكفر وفسق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات ؛ واستحل قتال مخالفه دون موافقه فهؤلاء من أهل التفرق والاختلافات»( )
- لا قومية و لا عصبية في الإسلام:
قال ابن تيمية -رحمه الله-: «وكلُّ ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن: من نسب أو بلد، أو جنس أو مذهب، أو طريقة: فهو من عزاء الجاهلية، بل لما اختصم رجلان من المهاجرين والأنصار فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَبِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ» وغضب لذلك غضبًا شديدًا»( )
وفي اللحظات الأخيرة من حياته –رحمه الله- مرض أياماً في محبسه الأخير في القلعة، فعلم بمرضه أحد وجهاء الدولة وهو شمس الدين الوزير، فجاءه يستأذنه في الدخول عليه لعيادته، فأذن الشيخ له في ذلك، فلما جلس عنده أخذ الوزير يعتذر له عن نفسه، ويلتمس منه أن يحلّه مما عساه أن يكون قد وقع منه في حق الشيخ من تقصير أو غيره.
فأجابه ابن تيمية بقوله: إني قد أحللتُك وجميع من عاداني وهو لا يعلم أني على الحق.
وقال له أيضاً: إني قد أحللت السلطان الناصر ابن قلاوون من حبسه إياي لكونه فعل ذلك مقلداً غيره معذوراً، ولم يفعله لحظّ نفسه، بل لما بلغهُ مما ظنه حقاً من مُبلِّغه، والله يعلم أنه بخلافه. ثم قال: قد أحللتُ كلَّ واحدٍ مما كان بيني وبينه( ).
ولم يبق ابن تيمية طويلاً بعد ذلك، حيث وافته الـمنَّية وهو في السجن، مظلوماً من قبل أعدائه، وهو صابر محتسب أجره عند الله، مات وليس في قلبه ذرة كراهية تجاه أي مسلم، مات بعد أن سامح الجميع، مات وهو راضٍ عن نفسه التي طالما تخلت عن حظوظها الذاتية في سبيل الأمة المسلمة.
موقف ابن تيمية من التكفير:
المبحث الخامس :
موقفه من التكفير:
من يدرس منهج ابن تيمية -بإنصاف وموضوعية وحياد- في مسائل التكفير، يجد أن الرجل في قمة التقوى والتحرز وحسن الظن، وتغليب العذر بالجهل أو الاجتهاد، ونصوصه ناطقة ومصرحة بذلك فما يُشاع عن ابن تيمية غير صحيح، وهو من الأغاليط الكثيرة المنتشرة والتي يقف وراءها ضعف التصور أو سوء الفهم ومنهجه في ذالك هو الوسطية والاعتدال ، فالرجل – شأنه شأن علماء أهل السنة والجماعة – معتدل في حكمه ، وسط في مذهبه ، فلا هو بالتكفيري المتسرع في الحكم على النَّاس ، كالخوارج ومن مشى على نهجهم ، ولا هو بالذي يسكت عن التكفير حتى في أوضح المسائل ، ، بحيث يعطل حكم الله تعالى في هذه المسألة أو تلك ، ويجرىء النّاس على المعاصي والفجور كالمرجئة
.
ومن هنا كانت رؤيته في مسألة التكفير ، رؤية واضحة صحيحة ، لأنَّها تقوم على مقومات الأدلة الصحيحة .
وأما استشهاد التكفيرون به فليس بد ليل على أن الرجل كان تكفيري، وذلك لأمور، منها:
أولاً: أن التكفيريين يستشهدون بالقرآن والسنة، فهل يقول عاقل أن القرآن والسنة منابع تطرف وتكفير؟ أو أن هذا يعني أنهم وجدوا فيهما ما يوافق أهواءهم، معاذ الله. ثم إن التكفيريين يستشهدون –أيضًا- بالإمام الشافعي والإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل، والقرطبي وكثير من الأئمة غير هؤلاء، فهل الخطأ يكمن في هؤلاء الأئمة أم في قصور تصورات التكفيريين؟
ثانيًا: أن المرجئة –أيضًا- يستشهدون ويحتجون بكلام ابن تيمية، وهؤلاء هم نقيض التكفيريين، فهل كان ابن تيمية من المرجئة؟
كلا، فلم يكن الرجل –رحمه الله- لا من هؤلاء ولا من هؤلاء، بل كان منهجه وسط بين إفراط وتفريط، أي منهج أهل السنة والجماعة. وسنستعرض بعض من اقواله تبين صدق ماقلناه
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ((هذا مع أني دائماً ومن جالسني يعلم ذلك مني، أني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا عُلم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية، التي من خالفها كان كافراً تارة وفاسقاً اخرى وعاصياً أخرى وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العلمية))( ) .
وقال رحمه الله:
(( وأما تكفير شخص علم إيمانه بمجرد الغلط في ذلك فعظيم، فقد ثبت في الصحيح عن ثابت بن الضحاك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «.. ولعن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمناً بكفر فهو كقتله»، وثبت في الصحيح أن: «من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء به أحدهما))( ).
وقال رحمه الله:
((أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأياً ويكفرون من خالفهم فيه، وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا يكفرون من خالفهم، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق))( ) .
وقال رحمه الله:
(( ولا يلزم إذا كان القول كفراً أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل، فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في حقه، وذلك له شروط وموانع))( ).
وقال : (( اعلم إن مسائل التكفير و التفسيق هي من مسائل الأسماء والأحكام التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة وتتعلق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمة وغير ذلك في الدار الدنيا فان الله سبحانه اوجب الجنة للمؤمنين وحرم الجنة على الكافرين وهذا من الأحكام الكلية في كل وقت ومكان ...))( ).
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى :
أنما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضا حق لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار وهى مسألة الوعيد فان نصوص القرآن في الوعيد مطلقة كقوله إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية وكذلك سائر ما ورد من فعل كذا فله كذا فإن هذه مطلقة عامة وهى بمنزلة قول من قال من السلف من قال كذا فهو كذا ثم الشخص المعين يلتغى حكم الوعيد فيه بتوبة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة والتكفير هو من الوعيد فانه وان كان القول تكذيبا لما قاله الرسول لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئا وكنت دائما أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم فوالله لإن قدر الله على ليعذبنى عذابا ما عذبه أحدا من العالمين ففعلوا به ذلك فقال الله له ما حملك على ما فعلت قال خشيتك فغفر له فهذا رجل شك فى قدرة الله وفى إعادته إذا ذرى بل اعتقد أنه لا يعاد وهذا كفر باتفاق المسلمين لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول أولى بالمغفرة من مثل هذا ...( ) .
و قال رحمه الله :
والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض لا تحل إلا بإذن الله ورسوله ...( ) .
تأمل كلام شيخ الإسلام كيف يقرر مسألة كفر الجهمية قال رحمه الله:
المشهور من مذهب الإمام أحمد وعامة أئمة السنة تكفير الجهمية وهم المعطلة لصفات الرحمن فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاءت به الرسل من الكتاب وحقيقة قولهم جحود الصانع ففيه جحود الرب وجحود ما أخبر به عن نفسه على لسان رسله ولهذا قال عبدالله بن المبارك إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية وقال غير واحد من الأئمة أنهم اكفر من اليهود والنصارى يعنون من هذه الجهة ولهذا كفروا من يقول إن القرآن مخلوق وان الله لا يرى في الآخرة وان الله ليس على العرش وان الله ليس له علم ولا قدرة ولا رحمة ولا غضب ونحو ذلك من صفاته .. اه
ثم تأمل ماذا يقول عند تطبيق التكفير على المعين قال رحمه الله :
أحمد لم يكفر أعيان الجهمية ولا كل من قال إنه جهمي كفره ولا كل من وافق الجهمية فىبعض بدعهم بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة لم يكفرهم أحمد وأمثاله بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم ويدعو لهم ويرى الإئتمام بهم فى الصلوات خلفهم والحج والغزو معهم والمنع من الخروج عليهم ما يراه لأمثالهم من الأئمة وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم وإن لم يعلموا هم أنه كفر وكان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان فيجمع بين طاعة الله ورسوله فى إظهار السنة والدين وإنكار بدع الجهمية الملحدين وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة وإن كانوا جهالا مبتدعين وظلمة فاسقين ...( ) .
فكيف لو شاهد رحمه الله من سفك دماء المسلمين و من كفر الحكام قاطبة و لم يراعي حق رعية أو راعي و أحل قتل جنود المسلمين , و بل بعضهم يكرر قول العلماء بشروط و موانع التكفير و عند التطبيق لا يطبق الشروط و لم يرفع الموانع فحسبنا الله و نعم الوكيل.
قال رحمه الله تعالى بعد أن ذكر تفاصيل تكفير المعين قال :
وإذا عرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدكم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل وان كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر وهكذا الكلام في تكفير جميع المعينين مع إن بعض هذه البدعة أشد من بعض وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وان اخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة ....( ) .
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
قالوا من قال كذا فهو كافر اعتقد المستمع إن هذا اللفظ شامل لكل من قاله ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين وان تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه فإن الإمام أحمد مثلا قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن ونفى الصفات وامتحنوه وسائر علماء وقته وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس والقتل والعزل عن الولايات وقطع الأرزاق ورد الشهادة وترك تخليصهم من أيدي العدو بحيث كان كثير من أولى الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم يكفرون كل من لم يكن جهميا موافقا لهم على نفي الصفات مثل القول بخلق القرآن ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر فلا يولونه ولاية ولا يفتكونه من عدو ولا يعطونه شيئا من بيت المال ولا يقبلون له شهادة ولا فتيا ولا رواية ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة والافتكاك من الأسر وغير ذلك فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان ومن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان ومن كان داعيا إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه وحبسوه ومعلوم إن هذا من أغلظ التجهم فإن الدعاء إلى المقالة أعظم منقولها وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون القرآن مخلوق وان الله لا يرى في الآخرة ...( ) .
نقل شيخ الإسلام بعض الأخطاء التي وقع فيها بعض العلماء ثم قال بعد ذلك رحمه :
وهذا خطأ معلوم بالإجماع والنقل المتواتر ومع هذا فلما لم يكن قد تواتر النقل عندهم بذلك لم يكفروا وان كان يكفر بذلك من قامت عليه الحجة بالنقل المتواتر ...( ) .
قال رحمه الله :
معلوم أن الخوارج هم مبتدعة مارقون كما ثبت بالنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة ذمهم والطعن عليهم وهم إنما تأولوا آيات من القرآن على ما اعتقدوه وجعلوا من خالف ذلك كافرا لاعتقادهم أنه خالف القرآن فمن ابتدع أقوالا ليس لها أصل في القرآن وجعل من خالفها كافرا كان قوله شرا من قول الخوارج ...( ) .
و قال رحمه الله تعالى:
ثبت في الصحيح أن من قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما وإذا كان تكفير المعين على سبيل الشتم كقتله فكيف يكون تكفيره على سبيل الاعتقاد فإن ذلك أعظم من قتله ..( ).
وقال رحمه الله :
فان تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمة المسلمين لما يعتقدون أنهم اخطئوا فيه من الدين وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأالمحض بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله وليس كل من يترك بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق بل ولا يأثم .( ).
و قال رحمه الله تعالى :
قال الشافعي لأن أتكلم في علم يقال لي فيه أخطأت أحب إلي من أن أتكلم في علم يقال لي فيه كفرت فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون ..( ).
وأمَّا موانع التكفير عند شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ، فهي باختصار :
-1 الجهل : وفي ذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى :
(( إنَّ المقالة تكون كفراً : كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحليل الزنا والخمر والميسر ونكاح ذوات المحارم ، ثُمَّ القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب ، وكذا لا يكفر به جاحده كمن هو حديث عهد بالإسلام ، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام ، فهذا لا يُحكم بكفره بجحد شيئ مما أنزل على الرسول إذا لم يعلم أنَّه أنزل على الرسول – صلى الله عليه وسلم ))( ) .
2- الخطأ : يقول شيخ الإسلام رحمه الله: " ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطناً وظاهراً ، لكن فيه جهلٌ وظلم حتى أخطأ ما أخطأ من السنة ، فهذا ليس بكافر ولا منافق ، ثُمَّ قد يكون منه عدوان وظلم يكون فاسقاً أو عاصياً ، وقد يكون مخطئاً متأولاً مغفور له له خطؤه( ).
-3 التأويل : يقول شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله تعالى التأويل ، إذ أنَّ الأفهام تختلف من شخص إلى آخر ، لذا ليس كل من تكلم بكلمة الكفر يكفر ، فربما تأوَّل – مع حرصه على طلب الحق - فأخطأ ، وفي ذلك فلا يكفر بهذا .
4 - الإكراه يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : " وإذا أكره على كلمة الكفر جاز له التكلم بها مع طمأنينة قلبه بالإيمان ( )".وقال رحمه الله في مجموع الفتاوى:" ولو أكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان ( )". ويقول : " ومنهم من يتكلم بالكفر مكرهاً مع طمأنينة قلبه ، وهذا مؤمن باطناً وظاهراً ، فإنَّه وإن أظهر الكفر لبعض النَّاس لما أكره عليه ، أو كتم عنه إيمانه ، فهو يتكلم بالإيمان في خلواته ومع من يأمنه ، ويعمل بما يمكنه ، وما عجز عنه فقد سقط عنه ( )". :
موقف ابن تيمية مع مخالفيه:
المبحث الرابع
موقف ابن تيمية مع مخالفيه:
فهذه كلمات تجلي لنا موقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى من أعدائه ومخالفيه ، الذي جاهدهم بكل ما أوتي من قوة عقلية وعلمية، لكن لننظر كيف كان يعاملهم مع ما هم عليه من بدع ، وما قاموا به تجاهه حيث بدعوه وفسقوه وكفروه وأحلوا سفك دمه؟ محاولته إطفاء الفتنة التي كانت بين الحنابلة والأشاعرة:قال رحمه الله : (( والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة ومنافرة. وأنا كنت من أعظم الناس تأليفًا لقلوب المسلمين وطلبًا لاتفاق كلمتهم وإتباعا لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله ، وأزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة وبينت لهم أن الأشعري كان من أجل المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد - رحمه الله -ونحوه، المنتصرين لطريقه، كما يذكر الأشعري ذلك في كتبه.
ثم قال: وكنت أقرر هذا للحنابلة وأبين أن الأشعري وإن كان من تلامذة المعتزلة ثم تاب، فإنه كان تلميذ الجبائي ومال إلى طريقة ابن كلاب وأخذ عن زكريا الساجي أصول الحديث بالبصرة ثم لما قدم بغداد أخذ عن حنبلية بغداد أمورًا أخرى، وذلك آخر أمره كما ذكره هو وأصحابه في كتبهم))( ).
وقال في الفتنة التي كانت بينه وبين ابن مخلوف:((وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها وفي غيرها وإقامة كل خير وابن مخلوف لو عمل مهما عمل والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه ولا أعين عليه عدوه قط ولا حول ولا قوة إلا بالله هذه نيتي وعزمي مع علمي بجميع الأمور فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين ولن أكون عونا للشيطان على إخواني المسلمين ولو كنت خارجا لكنت أعلم بماذا أعاونه لكن هذه مسألة قد فعلوها زورا والله يختار للمسلمين جميعهم ما فيه الخيرة في دينهم ودنياهم ولن ينقطع الدور وتزول الحيرة إلا بالإنابة إلى الله الإستغفار والتوبة وصدق الإلتجاء فإنه سبحانه لا ملجأ منه إلا إليه ولا حول ولا قوة إلا بالله))( ).
- وقال في مقابلته لرسول نائب السلطان في سجنه في مصر : (( ولكن هذه القصة ضررها يعود عليكم؛ فإن الذين سعوا فيها من الشام أنا أعلم أن قصدهم فيها كيدكم وفساد ملتكم ودولتكم وقد ذهب بعضهم إلى بلاد التتر وبعضهم من قيم هناك فهم الذين قصدوا إفساد دينكم ودنياكم وجعلوني إمامًا بالتستر لعلمهم أني أواليكم وأنصح لكم وأريد لكم خير الدنيا والآخرة، والقضية لها أسرار كلما جاءت تنكشف، وإلا فأنا لم يكن بيني وبين أحد بمصر عداوة ولا بغضًا وما زلت محبًا لهم مواليًا لهم: أمرائهم ومشائخهم وقضاتهم))( ).
- موقفه لما عرض عليه السلطان قتل بعض القضاة الذين أفتوا بقتل ابن تيمية، لكلامه في الصفات ولرده على ابن العربي وأمثاله:
قال بعض أصحاب شيخ الإسلام : (( وسمعت الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله يذكر أن السلطان لما جلسا(يعني السلطان وشيخ الإسلام) بالشباك أخرج من جيبه فتاوى لبعض الحاضرين في قتله واستفتاه في قتل بعضهم قال ففهمت مقصوده وأن عنده حنقا شديدا عليهم لما خلعوه وبايعوا الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير فشرعت في مدحهم والثناء عليهم وشكرهم وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك أما أنا فهم في حل من حقي ومن جهتي وسكنت ما عنده عليهم قال فكان القاضي زيد الدين ابن مخلوف قاضي المالكية يقول بعد ذلك ما رأينا أتقى من ابن تيمية لم نبق ممكنا في السعي فيه ولما قدر علينا عفا عنا)) ( ).
موقفه من ألأذرعي أحد مخالفيه قال رحمه عن ذلك:
((وكان من مدة لما كان القاضي حسام الدين الحنفي مباشرا لقضاء الشام أراد أن يحلق لحية هذا الأذرعي وأحضر الموسى والحمار ليركبه ويطوف به فجاء أخوه عرفني ذلك فقمت إليه ولم أزل به حتى كف عن ذلك وجرت أمور لم أزل فيها محسنا إليهم ))( ) .
وقفه لما قام عليه بعض مقلديه مع أهل البدع الذين وضربوه وآذوه:
(( رجل فيما بلغني إلى أخيه الشيخ شرف الدين وهو في مسكنه بالقاهرة فقال له إن جماعة بجامع مصر قد تعصبوا على الشيخ وتفردوا به وضربوه فقال حسبنا الله ونعم الوكيل وكان بعض أصحاب الشيخ جالسا عند شرف الدين قال فقمت من عنده وجئت إلى مصر فوجدت خلقا كثيرا من الحسينية وغيرها رجالا وفرسانا يسألون عن الشيخ فجئت فوجدته بمسجد الفخر كاتب المماليك على البحر واجتمع عنده جماعة وتتابع الناس وقال له بعضهم يا سيدي قد جاء خلق من الحسينية ولو أمرتهم أن يهدموا مصر كلها لفعلوا .
فقال لهم الشيخ لأي شيء قال لأجلك فقال لهم هذا ما يحق ، فقالوا نحن نذهب إلى بيوت هؤلاء الذين آذوك فنقتلهم ونخرب دورهم فإنهم شوشوا على الخلق وأثاروا هذه الفتنة على الناس، فقال لهم هذا ما يحل قالوا فهذا الذي قد فعلوه معك يحل هذا شيء لا نصبر عليه ولا بد أن نروح إليهم ونقاتلهم على ما فعلوا والشيخ ينهاهم ويزجرهم فلما أكثروا في القول قال لهم إما أن يكون الحق لي أو لكم أو لله فإن كان الحق لي فهم في حل منه وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني ولا تستفتوني فافعلوا ما شئتم وإن كان الحق لله فالله يأخذ حقه إن شاء كما يشاء قالوا فهذا الذي فعلوه معك هو حلال لهم قال هذا الذي فعلوه قد يكونون مثابين عليه مأجورين فيه قالوا فتكون أنت على لباطل وهم على الحق فإذا كنت تقول إنهم مأجورين فاسمع منهم ووافقهم على قولهم فقال لهم ما الأمر كما تزعمون فإنهم قد يكونون مجتهدين مخطئين ففعلوا ذلك باجتهادهم والمجتهد المخطىء له أجر))( ).
- ومن كلامه رحمه الله فيمن آذوه، في رسالة كتبها لأصحابه:
(( فلا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه علي أو ظلمه وعدوانه فإني قد أحللت كل مسلم وأنا أحب الخير لكل المسلمين وأريد بكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي الذين كذبوا وظلموا فهم في حل من جهتي وأما ما يتعلق بحقوق الله فإن تابوا تاب الله عليهم وإلا فحكم الله نافذ فيهم فلو كان الرجل مشكورا على سوء عمله لكنت أشكر كل من كان سببا في هذه القضية لما يترتب عليه من خير الدنيا والآخرة لكن الله هو المشكور على حسن نعمه وآلائه وأياديه التي لا يقضى للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له وأهل القصد الصالح يشكرون على قصدهم وأهل العمل الصالح يشكرون على عملهم وأهل السيئات نسأل الله أن يتوب عليهم ))( ) .
- ومن مواقفه لما مات أحد أعدائه:
قال ابن القيم
:
(( وكان بعض أصحابه الأكابر يقول : وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه.
وما رأيته يدعو على أحد منهم قط وكان يدعو لهم وجئت يوما مبشرا له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له فنهرني وتنكر لي واسترجع ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم وقال : إني لكم مكانه ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه ونحو هذا من الكلام فسروا به ودعوا له وعظموا هذه الحال منه فرحمه الله ورضى عن ))( ) .
فلو اطلع من يدعون تقليده على اقواله وفتاويه التي تعبر عن روح الاسلام ووسطيته لما حصل كل ما حصل من سفك لدماء المسلمين لمجرد انه يخالفه في الرأي وكذالك لو اطلع من يتهم هذا الرجل بالتكفير والتشدد لأنصفوه.
موقف ابن تيمية مع مخالفيه:
فهذه كلمات تجلي لنا موقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى من أعدائه ومخالفيه ، الذي جاهدهم بكل ما أوتي من قوة عقلية وعلمية، لكن لننظر كيف كان يعاملهم مع ما هم عليه من بدع ، وما قاموا به تجاهه حيث بدعوه وفسقوه وكفروه وأحلوا سفك دمه؟ محاولته إطفاء الفتنة التي كانت بين الحنابلة والأشاعرة:قال رحمه الله : (( والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة ومنافرة. وأنا كنت من أعظم الناس تأليفًا لقلوب المسلمين وطلبًا لاتفاق كلمتهم وإتباعا لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله ، وأزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة وبينت لهم أن الأشعري كان من أجل المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد - رحمه الله -ونحوه، المنتصرين لطريقه، كما يذكر الأشعري ذلك في كتبه.
ثم قال: وكنت أقرر هذا للحنابلة وأبين أن الأشعري وإن كان من تلامذة المعتزلة ثم تاب، فإنه كان تلميذ الجبائي ومال إلى طريقة ابن كلاب وأخذ عن زكريا الساجي أصول الحديث بالبصرة ثم لما قدم بغداد أخذ عن حنبلية بغداد أمورًا أخرى، وذلك آخر أمره كما ذكره هو وأصحابه في كتبهم))( ).
وقال في الفتنة التي كانت بينه وبين ابن مخلوف:((وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها وفي غيرها وإقامة كل خير وابن مخلوف لو عمل مهما عمل والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه ولا أعين عليه عدوه قط ولا حول ولا قوة إلا بالله هذه نيتي وعزمي مع علمي بجميع الأمور فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين ولن أكون عونا للشيطان على إخواني المسلمين ولو كنت خارجا لكنت أعلم بماذا أعاونه لكن هذه مسألة قد فعلوها زورا والله يختار للمسلمين جميعهم ما فيه الخيرة في دينهم ودنياهم ولن ينقطع الدور وتزول الحيرة إلا بالإنابة إلى الله الإستغفار والتوبة وصدق الإلتجاء فإنه سبحانه لا ملجأ منه إلا إليه ولا حول ولا قوة إلا بالله))( ).
- وقال في مقابلته لرسول نائب السلطان في سجنه في مصر : (( ولكن هذه القصة ضررها يعود عليكم؛ فإن الذين سعوا فيها من الشام أنا أعلم أن قصدهم فيها كيدكم وفساد ملتكم ودولتكم وقد ذهب بعضهم إلى بلاد التتر وبعضهم من قيم هناك فهم الذين قصدوا إفساد دينكم ودنياكم وجعلوني إمامًا بالتستر لعلمهم أني أواليكم وأنصح لكم وأريد لكم خير الدنيا والآخرة، والقضية لها أسرار كلما جاءت تنكشف، وإلا فأنا لم يكن بيني وبين أحد بمصر عداوة ولا بغضًا وما زلت محبًا لهم مواليًا لهم: أمرائهم ومشائخهم وقضاتهم))( ).
- موقفه لما عرض عليه السلطان قتل بعض القضاة الذين أفتوا بقتل ابن تيمية، لكلامه في الصفات ولرده على ابن العربي وأمثاله:
قال بعض أصحاب شيخ الإسلام : (( وسمعت الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله يذكر أن السلطان لما جلسا(يعني السلطان وشيخ الإسلام) بالشباك أخرج من جيبه فتاوى لبعض الحاضرين في قتله واستفتاه في قتل بعضهم قال ففهمت مقصوده وأن عنده حنقا شديدا عليهم لما خلعوه وبايعوا الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير فشرعت في مدحهم والثناء عليهم وشكرهم وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك أما أنا فهم في حل من حقي ومن جهتي وسكنت ما عنده عليهم قال فكان القاضي زيد الدين ابن مخلوف قاضي المالكية يقول بعد ذلك ما رأينا أتقى من ابن تيمية لم نبق ممكنا في السعي فيه ولما قدر علينا عفا عنا)) ( ).
موقفه من ألأذرعي أحد مخالفيه قال رحمه عن ذلك:
((وكان من مدة لما كان القاضي حسام الدين الحنفي مباشرا لقضاء الشام أراد أن يحلق لحية هذا الأذرعي وأحضر الموسى والحمار ليركبه ويطوف به فجاء أخوه عرفني ذلك فقمت إليه ولم أزل به حتى كف عن ذلك وجرت أمور لم أزل فيها محسنا إليهم ))( ) .
وقفه لما قام عليه بعض مقلديه مع أهل البدع الذين وضربوه وآذوه:
(( رجل فيما بلغني إلى أخيه الشيخ شرف الدين وهو في مسكنه بالقاهرة فقال له إن جماعة بجامع مصر قد تعصبوا على الشيخ وتفردوا به وضربوه فقال حسبنا الله ونعم الوكيل وكان بعض أصحاب الشيخ جالسا عند شرف الدين قال فقمت من عنده وجئت إلى مصر فوجدت خلقا كثيرا من الحسينية وغيرها رجالا وفرسانا يسألون عن الشيخ فجئت فوجدته بمسجد الفخر كاتب المماليك على البحر واجتمع عنده جماعة وتتابع الناس وقال له بعضهم يا سيدي قد جاء خلق من الحسينية ولو أمرتهم أن يهدموا مصر كلها لفعلوا .
فقال لهم الشيخ لأي شيء قال لأجلك فقال لهم هذا ما يحق ، فقالوا نحن نذهب إلى بيوت هؤلاء الذين آذوك فنقتلهم ونخرب دورهم فإنهم شوشوا على الخلق وأثاروا هذه الفتنة على الناس، فقال لهم هذا ما يحل قالوا فهذا الذي قد فعلوه معك يحل هذا شيء لا نصبر عليه ولا بد أن نروح إليهم ونقاتلهم على ما فعلوا والشيخ ينهاهم ويزجرهم فلما أكثروا في القول قال لهم إما أن يكون الحق لي أو لكم أو لله فإن كان الحق لي فهم في حل منه وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني ولا تستفتوني فافعلوا ما شئتم وإن كان الحق لله فالله يأخذ حقه إن شاء كما يشاء قالوا فهذا الذي فعلوه معك هو حلال لهم قال هذا الذي فعلوه قد يكونون مثابين عليه مأجورين فيه قالوا فتكون أنت على لباطل وهم على الحق فإذا كنت تقول إنهم مأجورين فاسمع منهم ووافقهم على قولهم فقال لهم ما الأمر كما تزعمون فإنهم قد يكونون مجتهدين مخطئين ففعلوا ذلك باجتهادهم والمجتهد المخطىء له أجر))( ).
- ومن كلامه رحمه الله فيمن آذوه، في رسالة كتبها لأصحابه:
(( فلا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه علي أو ظلمه وعدوانه فإني قد أحللت كل مسلم وأنا أحب الخير لكل المسلمين وأريد بكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي الذين كذبوا وظلموا فهم في حل من جهتي وأما ما يتعلق بحقوق الله فإن تابوا تاب الله عليهم وإلا فحكم الله نافذ فيهم فلو كان الرجل مشكورا على سوء عمله لكنت أشكر كل من كان سببا في هذه القضية لما يترتب عليه من خير الدنيا والآخرة لكن الله هو المشكور على حسن نعمه وآلائه وأياديه التي لا يقضى للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له وأهل القصد الصالح يشكرون على قصدهم وأهل العمل الصالح يشكرون على عملهم وأهل السيئات نسأل الله أن يتوب عليهم ))( ) .
- ومن مواقفه لما مات أحد أعدائه:
قال ابن القيم
:
(( وكان بعض أصحابه الأكابر يقول : وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه.
وما رأيته يدعو على أحد منهم قط وكان يدعو لهم وجئت يوما مبشرا له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له فنهرني وتنكر لي واسترجع ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم وقال : إني لكم مكانه ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه ونحو هذا من الكلام فسروا به ودعوا له وعظموا هذه الحال منه فرحمه الله ورضى عن ))( ) .
فلو اطلع من يدعون تقليده على اقواله وفتاويه التي تعبر عن روح الاسلام ووسطيته لما حصل كل ما حصل من سفك لدماء المسلمين لمجرد انه يخالفه في الرأي وكذالك لو اطلع من يتهم هذا الرجل بالتكفير والتشدد لأنصفوه.
ابن تيمية: أخلاقه وسماحته وعفوه حفاظا على وحدة المسلمين
لمبحث الثالث:
أخلاقه وسماحته وعفوه حفاظا على وحدة المسلمين:
بالرغم مما مر به ابن تيمية من محن وظلم من قبل مخالفيه أدت إلى سجنه وتعذيبه ومحاولة قتله واتهامهم له بأبشع الأوصاف الا أن الله انعم على شيخ الإسلام بنفسٍ كبيرة وقلبٍ سالمٍ من الأحقاد قل أن يوجد مثله عن غيره من علماء زمانه، فما كان يحمل في قلبه غلاً ولا حسداً ولا حقداً على أحد، بل ولا على خصومه، بل كان سائراً على منهج السلف في الرحمة والعدل بالمخالفين .
قال ابن تيمية:(( فأهل السنة يستعملون معهم -أي المخالفين- العدل والإنصاف، ولا يظلمونهم، فإن الظلم حرام مطلقاً))( ) .
وقال ابن القيم عن ابن تيمية:(( كان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه. وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم))( ).
ولما وقف منه القاضي ابن مخلوف موقف العداء ورماه بكل قوس في جعبته، وأثار عليه العوام والحكام وأصدر ضده الأحكام والفتاوى التي أثارت الفتنة بين الناس واجتهد غاية الاجتهاد في قتله، وابن تيمية صابر محتسب يقابل السيئة بالحسنة، ولم يحمل في نفسه حقداً ولا بغضاً لهذا الرجل.
يقول ابن تيمية معبراً عن نفسيته المتسامحة:
(( وابن مخلوف لو عمل مهما عمل والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه، ولا أعين عليه عدوه قط، ولا حول ولا قوة إلا بالله هذه نيتي وعزمي))( ) .
وقال في رسالة كتبها وهو في السجن إلى تلاميذه ومحبيه، يتحدث عن صومه الذين تسببوا في دخوله السجن، وكانوا سبباً في مصادرة كتبه:(( أنا أحب لهم أن ينالوا من اللذة والسرور والنعيم ما تقر به أعينهم ، وأن يفتح لهم من معرفة الله وطاعته الجهاد في سبيله ما يصلون به إلى أعلى الدرجات))( ).
وقال معبراً عن روحه الطيبة المحبة لجميع المسلمين: (( وأنا أحب الخير لكل المسلمين وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي))( ).
حبه الخير للإنسانية
إن روحه الطيبة العادلة المتسامحة شملت حب الخير لإنسانية جمعاء، فقد قال في رسالة وجهها للملك النصراني (سرجون) حاكم قبرص: ((نحن قوم نحب الخير لكل أحد، ونحب أن يجمع الله لكم خير الدنيا والآخرة))( ) .
وكان سبب هذا الرسالة التي بعث بها إلى ملك قبرص وجود أسرى من عامة المسلمين بأيدي النصارى ، فأرسل له ابن تيمية طالباً منه أن يفك أسرى المسلمين جميعاً ، وأن يحسن إليهم ، مذكراً ملك قبرص بما فعله ابن تيمية شخصياً حينما جادل ملك التتار ليفك أسر المأسورين من النصارى وأهل الكتاب رحمة بهم، وإحساناً إليهم كما أمر الإسلام ، وهذا الموقف كان ابتداءً من ابن تيمية ، ولم يكن خاصاً لأجل المساومة والمعاوضة ، فلم يذكره إلا بعد أن احتاج إليه لينفع المسلمين.
قال ابن تيمية:(( وقد عرف النصارى كلهم أني لما خاطبت التتار في إطلاق الأسرى، وأطلقهم غازان، وقطلوشاه، وخاطبت مولاي فيهم فسمح بإطلاق المسلمين. قال لي: لكن معنا نصارى أخذناهم من القدس، فهؤلاء لا يطلقون. فقلت له: بل جميع من معك من اليهود والنصارى، الذي هم أهل ذمتنا؛ فإنا نفتكهم، ولا ندع أسيراً، لا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة. وأطلقنا من النصارى من شاء الله فهذا عملنا وإحساننا، والجزاء على الله))( ). ثم بيّن للملك القبرصي منهج المسلمين في التعامل مع غير المسلمين فقال:(( الذي بأيدينا من النصارى يعلم كل أحد إحساننا ورحمتنا بهم؛ كما أوصانا خاتم المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ))( ) . ثم أبدى ابن تيمية تألمه وامتعاضه تجاه تعامل القبرصيين مع أسرى المسلمين، فقال: (( فيا أيها الملك كيف تستحل سفك الدماء، وسبي الحريم، وأخذ الأموال بغير حجة من الله ورسله، ثم أما يعلم الملك أن بديارنا من النصارى أهل الذمة والأمان مالا يحصى عددهم إلا الله، ومعاملتنا فيهم معروفة، فكيف يعاملون أسرى المسلمين بهذه المعاملات التي لا يرضى بها ذو مروءة ولا ذو دين))( ) . فانظر كيف كان ابن تيمية –رحمه الله- حريصاً على المسلمين كلهم، رحيماً ورفيقاً بهم، وامتدت رحمته وعدالته إلى غير المسلمين، لأن منهجه العام محبة الخير للإنسانية جمعاء.
وفي آخر حياته –رحمه الله- لما تجدد عليه الظلم والسجن طلب من الجميع منهج الإنصاف والعدل مع كافة الناس، سواءً كانوا مسلمين أو غير مسلمين، وطالب حكام الإسلام وعلماء الدين بالعدل مع المخالفين مهما كانوا، رافضاً الظلم الذي وقع عليه أو على غيره، وأن يكون هذا منهجاً ثابتاً وراسخاً، لأنه من منهج الإسلام.
يقول ابن تيمية: (( فإنه في آخر شهر رمضان سنة ست وعشرين وسبعمائة، جاء أميران رسولان من عند الملأ المجتمعين من الأمراء والقضاة ومن معهم، وذكرا رسالة من عند الأمراء، مضمونها طلب الحضور، ومخاطبة القضاة لتخرج وتنفصل القضية، وأن المطلوب خروجك، وأن يكون الكلام مختصراً، ونحو ذلك.
فقلت: سلم على الأمراء، وقل لهم: لكم سنة، وقبل السنة مدة أخرى تسمعون كلام الخصوم في الليل والنهار، وإلى الساعة لم تسمعوا مني كلمة واحدة، وهذا من أعظم الظلم، فلو كان الخصم يهودياً أو نصرانياً أو عدواً آخر للإسلام ولدولتكم؛ لما جاز أن تحكموا عليه حتى تسمعوا كلامه، وأنتم قد سمعتم كلام الخصوم وحدهم في مجالس كثيرة، فاسمعوا كلامي وحدي في مجلس واحد، وبعد ذلك نجتمع ونتخاطب بحضوركم، فإن هذا من أقل العدل الذي أمر الله به في قوله: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ))( ) .
أخلاقه وسماحته وعفوه حفاظا على وحدة المسلمين:
بالرغم مما مر به ابن تيمية من محن وظلم من قبل مخالفيه أدت إلى سجنه وتعذيبه ومحاولة قتله واتهامهم له بأبشع الأوصاف الا أن الله انعم على شيخ الإسلام بنفسٍ كبيرة وقلبٍ سالمٍ من الأحقاد قل أن يوجد مثله عن غيره من علماء زمانه، فما كان يحمل في قلبه غلاً ولا حسداً ولا حقداً على أحد، بل ولا على خصومه، بل كان سائراً على منهج السلف في الرحمة والعدل بالمخالفين .
قال ابن تيمية:(( فأهل السنة يستعملون معهم -أي المخالفين- العدل والإنصاف، ولا يظلمونهم، فإن الظلم حرام مطلقاً))( ) .
وقال ابن القيم عن ابن تيمية:(( كان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه. وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم))( ).
ولما وقف منه القاضي ابن مخلوف موقف العداء ورماه بكل قوس في جعبته، وأثار عليه العوام والحكام وأصدر ضده الأحكام والفتاوى التي أثارت الفتنة بين الناس واجتهد غاية الاجتهاد في قتله، وابن تيمية صابر محتسب يقابل السيئة بالحسنة، ولم يحمل في نفسه حقداً ولا بغضاً لهذا الرجل.
يقول ابن تيمية معبراً عن نفسيته المتسامحة:
(( وابن مخلوف لو عمل مهما عمل والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه، ولا أعين عليه عدوه قط، ولا حول ولا قوة إلا بالله هذه نيتي وعزمي))( ) .
وقال في رسالة كتبها وهو في السجن إلى تلاميذه ومحبيه، يتحدث عن صومه الذين تسببوا في دخوله السجن، وكانوا سبباً في مصادرة كتبه:(( أنا أحب لهم أن ينالوا من اللذة والسرور والنعيم ما تقر به أعينهم ، وأن يفتح لهم من معرفة الله وطاعته الجهاد في سبيله ما يصلون به إلى أعلى الدرجات))( ).
وقال معبراً عن روحه الطيبة المحبة لجميع المسلمين: (( وأنا أحب الخير لكل المسلمين وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي))( ).
حبه الخير للإنسانية
إن روحه الطيبة العادلة المتسامحة شملت حب الخير لإنسانية جمعاء، فقد قال في رسالة وجهها للملك النصراني (سرجون) حاكم قبرص: ((نحن قوم نحب الخير لكل أحد، ونحب أن يجمع الله لكم خير الدنيا والآخرة))( ) .
وكان سبب هذا الرسالة التي بعث بها إلى ملك قبرص وجود أسرى من عامة المسلمين بأيدي النصارى ، فأرسل له ابن تيمية طالباً منه أن يفك أسرى المسلمين جميعاً ، وأن يحسن إليهم ، مذكراً ملك قبرص بما فعله ابن تيمية شخصياً حينما جادل ملك التتار ليفك أسر المأسورين من النصارى وأهل الكتاب رحمة بهم، وإحساناً إليهم كما أمر الإسلام ، وهذا الموقف كان ابتداءً من ابن تيمية ، ولم يكن خاصاً لأجل المساومة والمعاوضة ، فلم يذكره إلا بعد أن احتاج إليه لينفع المسلمين.
قال ابن تيمية:(( وقد عرف النصارى كلهم أني لما خاطبت التتار في إطلاق الأسرى، وأطلقهم غازان، وقطلوشاه، وخاطبت مولاي فيهم فسمح بإطلاق المسلمين. قال لي: لكن معنا نصارى أخذناهم من القدس، فهؤلاء لا يطلقون. فقلت له: بل جميع من معك من اليهود والنصارى، الذي هم أهل ذمتنا؛ فإنا نفتكهم، ولا ندع أسيراً، لا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة. وأطلقنا من النصارى من شاء الله فهذا عملنا وإحساننا، والجزاء على الله))( ). ثم بيّن للملك القبرصي منهج المسلمين في التعامل مع غير المسلمين فقال:(( الذي بأيدينا من النصارى يعلم كل أحد إحساننا ورحمتنا بهم؛ كما أوصانا خاتم المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ))( ) . ثم أبدى ابن تيمية تألمه وامتعاضه تجاه تعامل القبرصيين مع أسرى المسلمين، فقال: (( فيا أيها الملك كيف تستحل سفك الدماء، وسبي الحريم، وأخذ الأموال بغير حجة من الله ورسله، ثم أما يعلم الملك أن بديارنا من النصارى أهل الذمة والأمان مالا يحصى عددهم إلا الله، ومعاملتنا فيهم معروفة، فكيف يعاملون أسرى المسلمين بهذه المعاملات التي لا يرضى بها ذو مروءة ولا ذو دين))( ) . فانظر كيف كان ابن تيمية –رحمه الله- حريصاً على المسلمين كلهم، رحيماً ورفيقاً بهم، وامتدت رحمته وعدالته إلى غير المسلمين، لأن منهجه العام محبة الخير للإنسانية جمعاء.
وفي آخر حياته –رحمه الله- لما تجدد عليه الظلم والسجن طلب من الجميع منهج الإنصاف والعدل مع كافة الناس، سواءً كانوا مسلمين أو غير مسلمين، وطالب حكام الإسلام وعلماء الدين بالعدل مع المخالفين مهما كانوا، رافضاً الظلم الذي وقع عليه أو على غيره، وأن يكون هذا منهجاً ثابتاً وراسخاً، لأنه من منهج الإسلام.
يقول ابن تيمية: (( فإنه في آخر شهر رمضان سنة ست وعشرين وسبعمائة، جاء أميران رسولان من عند الملأ المجتمعين من الأمراء والقضاة ومن معهم، وذكرا رسالة من عند الأمراء، مضمونها طلب الحضور، ومخاطبة القضاة لتخرج وتنفصل القضية، وأن المطلوب خروجك، وأن يكون الكلام مختصراً، ونحو ذلك.
فقلت: سلم على الأمراء، وقل لهم: لكم سنة، وقبل السنة مدة أخرى تسمعون كلام الخصوم في الليل والنهار، وإلى الساعة لم تسمعوا مني كلمة واحدة، وهذا من أعظم الظلم، فلو كان الخصم يهودياً أو نصرانياً أو عدواً آخر للإسلام ولدولتكم؛ لما جاز أن تحكموا عليه حتى تسمعوا كلامه، وأنتم قد سمعتم كلام الخصوم وحدهم في مجالس كثيرة، فاسمعوا كلامي وحدي في مجلس واحد، وبعد ذلك نجتمع ونتخاطب بحضوركم، فإن هذا من أقل العدل الذي أمر الله به في قوله: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ))( ) .
الوسطية في فكر الإمام ابن تيمية
المبحث الثاني:
الوسطية في فكر الإمام ابن تيمية:
من خلال تتبعنا لمؤلفات وأقوال ابن تيمية رحمه الله نجد أن منهجه وسطي ويؤكد على إن الإسلام دين الوسطية والاعتدال فيقول... إن الله أكمل للأمة محمد صلى الله عليه وسلم الدين وأتم عليهم النعمة وجعلهم خير امة أخرجت للناس من بين سبعين امة وجعلهم امة وسطا عدلا خيارا وشهداء على الناس وهم بذلك وسط بين الأطراف المتجاذبة ويضرب مثال لذلك من أحوال اليهود والنصارى ما يبرهن على وسطية الإسلام ، فأما اليهود والنصارى متضادين هذا في طرف ضلال وذلك في طرف يعاكسه والمسلمون هم الوسط في التوحيد والأنبياء والشرائع والحلال والحرام والأخلاق وغير ذلك . وأكد كذلك على أن هذه الأمة هي امة الجماعة فلا يوجد طائفة أعظم اتفاقا على الهدى والرشد من أصحاب رسول الله امة كما لم يكن في الامم أعظم اجتماعا على الهدى وابعد عن التفرق والاختلاف من امة محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم أكمل اعتصاما بحبل الله الذي هو كتابه المنزل وما جاء به نبيه المرسل عكس أهل الكتاب الذين تفرقوا وبدلوا ما جاء به الرسل واظهروا الباطل وعادوا الحق وأهله وإذا قيس ما في هذه الأمة من نقص مقارنة بالأمم السالفة كان قليلا من كثير غير إن السفهاء ينظرون إلى السواد القليل في الثوب الأبيض ولا ينظرون إلى الثوب الأسود الذي فيه بياض وهذا من جهلهم وظلمهم وبين ان الإسلام معتدل بين شدة اليهود ولين النصارى فقال إن شريعة التوراة يغلب عليها الشدة وشريعة الإنجيل يغلب عليها اللين ، وشريعة القرآن معتدلة جامعة بين هذا وذاك قال تعالى. ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾( ) .
- وقال فبعث الله محمد صلى الله عليه وسلم بالشريعة الكاملة العادلة وجعل أمته عدلا خيارا لا ينحرفون إلى هذا الطرف أو ذلك الطرف بل يشتدون على أعداء الله ويلينون لأولياء الله . ويستعملون العفو والصفح فيما كان لنفوسهم والانتصار والعقوبة فيما كان حقا لله وهكذا كان في شريعته صلى الله عليه وسلم الين والعفو والصفح ومكارم الأخلاق أعظم مما في الإنجيل ومنها الشدة والجهاد وإقامة الحدود على الكفار والمنافقين أعظم مما في التوراة ولذا قال البعض بعث موسى بالجلال وبعث عيسى بالجمال وبعث محمد بالكمال( ) .
ويوضح ابن تيمية رحمه الله إن الشرائع ثلاث شريعة عدل فقط وشريعة فضل فقط وشريعة تجمع العدل والفضل والأخيرة هي شريعة القرآن( ) .
وعد ابن تيمية فرقة أهل السنة كالأعلام بين سائر الملل الأخرى فأهل السنة وسط في النحل كما إن ملة الإسلام وسط بين الملل فهم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل وأهل التمثيل وسط في القدر بين أهل التكذيب به وأهل الاحتجاج به وسط في مسألة الصحابة بين الغلاة والجفاة فلا يغلون في علي غلو الرافضة ولا يكفرونه تكفير الخوارج ولا يكفرون أبا بكر وعمر وعثمان كما تكفرهم الروافض ولا يكفرون عثمان وعليا كما يكفرهم الخوارج فهم اقرب إلى كل طائفة من كل طائفة إلى ضدها. وكذلك أهل السنة معتدلون في الحكم على الناس .
أهل السنة يرون أن الشخص الواحد تجتمع فيه حسنات وسيئات فيثاب ويحمد على حسناته ويعاقب ويذم على سيئاته وأهل السنة لا يكفرون أهل القبلة لمجرد الذنوب بل يرون امرهم الى الله( ) .
وفي واقعنا المعاصر الذي نعيشه اليوم تفرق المسلمون إلى فرق وطوائف وكل منها تفرق إلى أخرى تتمحور أغلبها ..
في ثلاث محاور محور الإلوهية – والإيمان والتكفير – وقضية العصمة والولاية وتعيش البلاد الاسلامية اليوم في هذه الثلاثية العمياء أسوء مراحلها فمن طائفية مقيتة الى هجمة تكفيرية شرسة هجمت على الامة فأحرقت الأخضر واليابس وهددت بشكل خطير الهوية الإسلامية الصحيحة . أزهقت بسببها الأرواح البريئة وأتلفت فيها مقدرات الأمة فخسرت الأمة رجالها ودمرت اقتصادها .
وفي احتدام (فوضى الفكر) لابد من تغليب لغة الحوار الهادف وإشاعة أدب الخلاف وإعلاء قيم الوسطية لمواجهة تيارين باتا منتشرين ألان هو تيار التشدد الذي يستخدم لغة تكفيرية مقيتة والآخر هو التيار المنفلت باسم حرية الفكر. والاتفاق حول الثوابت والرجوع إلى المصدرين القرآن والسنة اللذان اتفاقا واتحادا عليهما الصحابة الكرام شريطة ان لا يتصدى للفتوى سوى العلماء وقبول الخلاف حول الأمور الفقهية.
الوسطية في فكر الإمام ابن تيمية:
من خلال تتبعنا لمؤلفات وأقوال ابن تيمية رحمه الله نجد أن منهجه وسطي ويؤكد على إن الإسلام دين الوسطية والاعتدال فيقول... إن الله أكمل للأمة محمد صلى الله عليه وسلم الدين وأتم عليهم النعمة وجعلهم خير امة أخرجت للناس من بين سبعين امة وجعلهم امة وسطا عدلا خيارا وشهداء على الناس وهم بذلك وسط بين الأطراف المتجاذبة ويضرب مثال لذلك من أحوال اليهود والنصارى ما يبرهن على وسطية الإسلام ، فأما اليهود والنصارى متضادين هذا في طرف ضلال وذلك في طرف يعاكسه والمسلمون هم الوسط في التوحيد والأنبياء والشرائع والحلال والحرام والأخلاق وغير ذلك . وأكد كذلك على أن هذه الأمة هي امة الجماعة فلا يوجد طائفة أعظم اتفاقا على الهدى والرشد من أصحاب رسول الله امة كما لم يكن في الامم أعظم اجتماعا على الهدى وابعد عن التفرق والاختلاف من امة محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم أكمل اعتصاما بحبل الله الذي هو كتابه المنزل وما جاء به نبيه المرسل عكس أهل الكتاب الذين تفرقوا وبدلوا ما جاء به الرسل واظهروا الباطل وعادوا الحق وأهله وإذا قيس ما في هذه الأمة من نقص مقارنة بالأمم السالفة كان قليلا من كثير غير إن السفهاء ينظرون إلى السواد القليل في الثوب الأبيض ولا ينظرون إلى الثوب الأسود الذي فيه بياض وهذا من جهلهم وظلمهم وبين ان الإسلام معتدل بين شدة اليهود ولين النصارى فقال إن شريعة التوراة يغلب عليها الشدة وشريعة الإنجيل يغلب عليها اللين ، وشريعة القرآن معتدلة جامعة بين هذا وذاك قال تعالى. ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾( ) .
- وقال فبعث الله محمد صلى الله عليه وسلم بالشريعة الكاملة العادلة وجعل أمته عدلا خيارا لا ينحرفون إلى هذا الطرف أو ذلك الطرف بل يشتدون على أعداء الله ويلينون لأولياء الله . ويستعملون العفو والصفح فيما كان لنفوسهم والانتصار والعقوبة فيما كان حقا لله وهكذا كان في شريعته صلى الله عليه وسلم الين والعفو والصفح ومكارم الأخلاق أعظم مما في الإنجيل ومنها الشدة والجهاد وإقامة الحدود على الكفار والمنافقين أعظم مما في التوراة ولذا قال البعض بعث موسى بالجلال وبعث عيسى بالجمال وبعث محمد بالكمال( ) .
ويوضح ابن تيمية رحمه الله إن الشرائع ثلاث شريعة عدل فقط وشريعة فضل فقط وشريعة تجمع العدل والفضل والأخيرة هي شريعة القرآن( ) .
وعد ابن تيمية فرقة أهل السنة كالأعلام بين سائر الملل الأخرى فأهل السنة وسط في النحل كما إن ملة الإسلام وسط بين الملل فهم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل وأهل التمثيل وسط في القدر بين أهل التكذيب به وأهل الاحتجاج به وسط في مسألة الصحابة بين الغلاة والجفاة فلا يغلون في علي غلو الرافضة ولا يكفرونه تكفير الخوارج ولا يكفرون أبا بكر وعمر وعثمان كما تكفرهم الروافض ولا يكفرون عثمان وعليا كما يكفرهم الخوارج فهم اقرب إلى كل طائفة من كل طائفة إلى ضدها. وكذلك أهل السنة معتدلون في الحكم على الناس .
أهل السنة يرون أن الشخص الواحد تجتمع فيه حسنات وسيئات فيثاب ويحمد على حسناته ويعاقب ويذم على سيئاته وأهل السنة لا يكفرون أهل القبلة لمجرد الذنوب بل يرون امرهم الى الله( ) .
وفي واقعنا المعاصر الذي نعيشه اليوم تفرق المسلمون إلى فرق وطوائف وكل منها تفرق إلى أخرى تتمحور أغلبها ..
في ثلاث محاور محور الإلوهية – والإيمان والتكفير – وقضية العصمة والولاية وتعيش البلاد الاسلامية اليوم في هذه الثلاثية العمياء أسوء مراحلها فمن طائفية مقيتة الى هجمة تكفيرية شرسة هجمت على الامة فأحرقت الأخضر واليابس وهددت بشكل خطير الهوية الإسلامية الصحيحة . أزهقت بسببها الأرواح البريئة وأتلفت فيها مقدرات الأمة فخسرت الأمة رجالها ودمرت اقتصادها .
وفي احتدام (فوضى الفكر) لابد من تغليب لغة الحوار الهادف وإشاعة أدب الخلاف وإعلاء قيم الوسطية لمواجهة تيارين باتا منتشرين ألان هو تيار التشدد الذي يستخدم لغة تكفيرية مقيتة والآخر هو التيار المنفلت باسم حرية الفكر. والاتفاق حول الثوابت والرجوع إلى المصدرين القرآن والسنة اللذان اتفاقا واتحادا عليهما الصحابة الكرام شريطة ان لا يتصدى للفتوى سوى العلماء وقبول الخلاف حول الأمور الفقهية.
ترجمة موجزة لشيخ الإسلام ابن تيميةالجزء الأول
المبحث الأول التمهيدي:
ترجمة موجزة لشيخ الإسلام ابن تيمية
1- نسبه :
هو شيخ الإسلام الإمام : احمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله ابن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية ، الحراني ، ثم الدمشقي . كنيته : أبو العباس .
2- مولده ونشأته:
وُلد يوم الاثنين العاشر من ربيع الأول بحران سنة (611هـ) ولما بلغ من العمر سبع سنين انتقل مع والده إلى دمشق هرباً من وجه الغزاة التتار ، وقد نشأ في بيت علم وفقه ودين ، فأبوه وأجداده وأخوته وكثير من أعمامه كانوا من المشاهير ، منهم جده الأعلى (الرابع) محمد بن الخضر ، ومنهم عبد الحليم بن محمد بن تيمية ، وعبد الغني بن محمد بن تيمية ، وجده الأدنى عبد السلام بن عبد الله بن تيمية مجد الدين أبو البركات صاحب التصانيف التي منها : المنتقى من أحاديث الأحكام ، والمحرر في الفقه ، والمسودة في الأصول ، وغيرها ، وكذلك أبوه عبد الحليم بن عبد السلام الحراني ، وأخوه عبد الرحمن وغيرهم( ).
ففي هذه البيئة العلمية الصالحة كانت نشأة صاحب الترجمة ، وقد بدأ يطلب العلم أولا على أبيه وعلماء دمشق ، فحفظ القرآن وهو صغير ، ودرس الحديث والفقه والأصول والتفسير ، وعُرف بالذكاء وقوة الحفظ والنجابة منذ صغره ، ثم توسع في دراسة العلوم فيها ، واجتمعت فيه صفات المجتهد منذ شبابه ، فلم يلبث أن صار إماما يعترف له الجهابذة بالعلم والفضل والإمامة ، قبل بلوغ سن الثلاثين من عمره .
3- نتاجه العلمي :
وفي مجال التأليف والإنتاج العلمي ، فقد ترك الشيخ للأمة تراثا ضخما ثمينا ، لا يزال العلماء والباحثون ينهلون منه معينا صافيا ، توفرت منه الآن المجلدات الكثيرة ، ومن المؤلفات والرسائل والفتاوى والمسائل وغيرها ، هذا من المطبوع ، وما بقي مجهولا أو مكنوزا في عالم المخطوطات كثير .
ولم يترك الشيخ مجالات من مجالات العلم والمعرفة التي تنفع الأمة ، وتخدم الإسلام ، إلا كتب فيه واسهم بجدارة وإتقان ، وتلك خصلة قلّما توجد إلا عند العباقرة النوادر في التاريخ .
فلقد شهد له أقرانه ، وأساتذته ، وتلاميذه ، وخصومه بسعة الاطلاع ، وغزارة العلم ، فذا تكلم في علم من العلوم أو فن من الفنون ظن السامع انه لايتقن غيره ، وذلك لإحكامه له وتبحره فيه ، وان المطلع على مؤلفاته وإنتاجه ، والعارف بما كان يعمله في حياته من الجهاد باليد واللسان ، والذب عن الدين ، والعبادة والذكر ، ليعجب من بركة وقته ، وقوة تحمله وجلده ، فسبحان من منحه تلك المواهب .
4- جهاده ودفاعه عن الإسلام :
الكثير من الناس يجهل الجوانب العملية من حياة الشيخ ، فإنهم عرفوه عالما ومؤلفا ومفتيا ، من خلال مؤلفاته المنتشرة ، ومع إن له مواقف مشهودة في مجالات أخرى عديدة أسهم فيها إسهاما قويا في نصرة الإسلام وعزة المسلمين ، فمن ذلك : جهاده بالسيف ، وتحريضه المسلمين على القتال ، بالقول والعمل ، فقد كان يجول بسيفه في ساحات الوغى مع أعظم الفرسان والشجعان الذين شاهدوه يقاتل بسيفه أثناء فتح عكا عجبوا من شجاعته وفتكه بالعدو( ).
أما جهاده بالقلم واللسان ، فانه رحمه الله وقف أمام أعداء الإسلام من أصحاب الملل والنحل والفرق والمذاهب الباطلة والبدع كالطود الشامخ ، بالمناظرات حينا وبالردود أحيانا ، حتى فند شبهاتهم ورد الكثير من كيدهم بحمد الله ، فقد تصدى للفلاسفة ، والباطنية ، من صوفية وإسماعيلية ونصيرية وسواهم ، كما تصدى للروافض والملاحدة ، وفند شبهات أهل البدع التي تقام حول المشاهد والقبور ونحوها ، كما تصدى للجهمية والمعتزلة وناقش المتكلمين والاشاعرة .
والمطلع على هذا الجانب من حياة الشيخ يكاد يجزم بأنه لم يبق له من وقته فضلة ، فقد حورب وطورد ، وأوذي وسُجن مرات في سبيل الله ، وقد وافته منيته مسجونا في سجن القلعة بدمشق .
ولا تزال بحمد الله ردود الشيخ سلاحا فعالا ضد أعداء الحق والمبطلين ؛ لأنها إنما تستند إلى كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم ، وهدي السلف الصالح ، مع قوة الاستنباط ، وقته الاستدلال والاحتجاج الشرعي والعقلي ، وسعة العلم ، التي وهبها الله له .
وكثر المذاهب الهدامة التي راجت اليوم بين المسلمين هي امتداد لتلك الفرق والمذاهب التي تصدى لها الشيخ وأمثاله من سلفنا الصالح ، لذلك ينبغي للدعاة .
5- خصاله :
بالإضافة إلى ما اشتهر به هذا الإمام من العلم والفقه في الدين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قد وهبه الله خصالا حميدة ، اشتهر بها وشهد له بها الناس ، فكان سخيا كريما يؤثر المحتاجين على نفسه في الطعام واللباس وغيرهما ، وكان كثير العبادة والذكر وقراءة القرآن ، وكان ورعا زاهدا لا يكاد يملك شيئا من متاع الدنيا سور الضروريات ، وها مشهور عنه عند أهل زمانه حتى بين عامة الناس ، وكان متواضعا في هيئته ولباسه ومعاملته مع الآخرين ، فما كان يلبس الفاخر ، ولا الردئ من اللباس ، ولا يتكلف لأحد يلقاه ، واشتهر ايضا بالمهابة والقوة في الحق فكانت له هيبة عظيمة عند السلاطين والعلماء وعامة الناس ، فكل من رآه أحبه وهابه واحترمه ، الا من سيطر عليهم الحسد من أصحاب الأهواء ونحوهم .
كما عرف بالصبر وقوة الاحتمال في سبيل الله ، وكان ذا فراسة ، وكان مستجاب الدعوة ، وله كرامات مشهودة . رحمه الله رحمة واسعة ، وأسكنه فسيح جناته .
6- عصره :
للتعرف عن كثب على شخصية الإمام ابن تيمية لابد من دراية موجزة لعصره لان العصر يؤثر تأثيرا كبير في توجيه أفكار الإنسان وكتاباته واهتماماته .
الناحية السياسية : لقد ابتلى المسلمون في تلك الفترة بمصائب كبيرة لم تمر على أمة من الأمم ، أول هذه المصائب غزو التتار للعالم الإسلامي في القرن السابع الهجري وسقوط الخلافة العباسية سنة (656) فكانت الأحداث التي رافقت غزو المغلول وما قبلها وما بعدها حاضرة وقريبة من ولادة شيخ الإسلام ابن تيمية فلا بد أن شاهد آثار هذا الخراب .
ومن المصائب الأخرى هي الحروب الصليبية على البلاد الإسلامية فكانت ولادة ابن تيمية في الدور الرابع منها والذي يتمثل بداية ضعف الفرنجة وبداية الصحوة الإسلامية .
ومن ذلك أيضا ظهور الفتن الداخلية وتنازع المماليك على السلطة ما يحصل بينهم وبين التتار وكان ابن تيمية دور كبير في إصلاح الوضع آن ذاك .
الناحية الاجتماعية : بعد غزو التتار والفرنجة للبلاد الإسلامية واختلاطهم بهذه المجتمعات المحافظة اثر ذلك في ظهور بعض العادات والنظم السيئة التي لا يقرها الإسلام وأحداث بدع مخالفة للشريعة كان لابن تيمية رحمه الله دور في الرد عليها وبيان موقف الإسلام منها وإرجاع الناس إلى سنة نبيهم .
7- وفاته :
إن من علامات الخير للرجل الصالح وقبوله لدى المسلمين : إحساسهم بفقده حين يموت ، لذلك كان السلف يعدون كثرة المصلين على جنازة الرجل من علامات الخير والقبول له لذلك قال الإمام احمد : ((قولوا لأهل البدع : بيننا وبينكم الجنائز)) . أي إن أئمة السنة يفقدهم الناس إذا ماتوا ويكونون أكثر مشيعين يوم يموتون ، ولقد شهد الواقع بذلك ، فما سمع الناس بمثل الإمامين : احمد بن حنبل ، واحمد بن تيمية ، حين ماتا ، ومن كثرة من شيعهما وخرج مع جنازة كل منهما ، وصلى عليهما ، فالمسلمون هم شهداء الله في أرضه .
هذا وقد نوفي الشيخ رحمه الله ، وهو مسجون بسجن القلعة بدمشق ، ليلة الاثنين 20من شهر ذي القعدة سنة (728هـ) فهب كل اهل دمشق ومن حولها للصلاة عليه وتشييع جنازته ، وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته انه حضر جنازته جمهور كبير يفوق الوصف .
رحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء( ).
شيوخه :
بلغ عدد شيوخه أكثر من مائتي شيخ ، من أبرزهم والده عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية (ت 682) ،والمحدث ابو العباس احمد ابن عبد الدائم (ت 668) ، وابن أبي اليسر ، والشيخ شمس الدين عبد الرحمن المقدسي الحنبلي (ت 689) وابن الظاهري الحافظ ابو العباس الحلبي الحنفي (ت 690) .
تلاميذه :
اما تلاميذه فلا يحصون كثرة ، فمن تلاميذه البارزين والمبرزين :شمس الدين ابو عبد اله محمد بن ابي بكر الزرعي ابن قيم الجوزية المتوفى سنة (751) .
الحافظ أبو عبد الله محمد بن احمد بن عبد الهادي (ت 744) .
الحافظ ابو الحجاج يوسف بن زكي عبد الرحمن المزي المتوفى (742) .
الحافظ المؤرخ ابة عبد الله محمد بن عثمان الذهبي (ت 744) .
ابو الفتح ابن سيد الناس محمد بن محمد اليعمري المصري (ت 734) .
الحافظ علم الدين القاسم بن محمد البزاري (ت 739) .
مؤلفاته :
ان مؤلفات هذا الإمام كثيرة جدا بحيث عجز تلاميذه ومحبوه عن إحصائها ، قال تلميذه النجيب شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر المشهور بابن القيم رحمه الله :-
إما بعد : فان جماعة من محبي السنة والعلم سألني أن اذكر له ما ألفه الشيخ الإمام العلامة الحافظ أوحد زمانه ، تقي الدين أبو العباس احمد ابن تيمية – رضي الله عنه – فذكر لهم اني عجزت عن حصرها وتعدادها لوجوه أبديتها لبعضهم وسأذكرها ان شاء الله فيما بعد ..."( ).
ثم قال :
" فمما رايته في التفسير " فذكر اثنين وتسعين مؤلفا ما بين رسالة وقاعدة .
قال : " ومما صنفه في الأصول مبتدئا أو مجيبا لمعرض او سائل " فذكر عشرين مؤلفا ما بين كتاب ورسالة وقاعدة ( ).
ثم قال : " قواعد وفتاوى " فذكر خمسة وأربعين ومائة ما بين كتاب وقاعدة ورسالة( ) .
الكتب الفقهية " وسرد خمسة وخمسين مؤلفا ما بين كتاب ورسالة وقاعدة( ) .
" وصايا وأجازات ورسائل تتضمن علوما " بلغت اثنتين وعشرين( ) .
وذكر الحافظ ابن عبد الهادي كثيرا من مؤلفات شيخ الإسلام مع ذكر نماذج لبعض المؤلفات والتنويه بمكانتها في كتابه العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية .
هذه لمحة خاطفة عن حياة هذا الإمام العظيم – رحمه الله – واسكنه فسيح جناته .
ترجمة موجزة لشيخ الإسلام ابن تيمية
1- نسبه :
هو شيخ الإسلام الإمام : احمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله ابن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية ، الحراني ، ثم الدمشقي . كنيته : أبو العباس .
2- مولده ونشأته:
وُلد يوم الاثنين العاشر من ربيع الأول بحران سنة (611هـ) ولما بلغ من العمر سبع سنين انتقل مع والده إلى دمشق هرباً من وجه الغزاة التتار ، وقد نشأ في بيت علم وفقه ودين ، فأبوه وأجداده وأخوته وكثير من أعمامه كانوا من المشاهير ، منهم جده الأعلى (الرابع) محمد بن الخضر ، ومنهم عبد الحليم بن محمد بن تيمية ، وعبد الغني بن محمد بن تيمية ، وجده الأدنى عبد السلام بن عبد الله بن تيمية مجد الدين أبو البركات صاحب التصانيف التي منها : المنتقى من أحاديث الأحكام ، والمحرر في الفقه ، والمسودة في الأصول ، وغيرها ، وكذلك أبوه عبد الحليم بن عبد السلام الحراني ، وأخوه عبد الرحمن وغيرهم( ).
ففي هذه البيئة العلمية الصالحة كانت نشأة صاحب الترجمة ، وقد بدأ يطلب العلم أولا على أبيه وعلماء دمشق ، فحفظ القرآن وهو صغير ، ودرس الحديث والفقه والأصول والتفسير ، وعُرف بالذكاء وقوة الحفظ والنجابة منذ صغره ، ثم توسع في دراسة العلوم فيها ، واجتمعت فيه صفات المجتهد منذ شبابه ، فلم يلبث أن صار إماما يعترف له الجهابذة بالعلم والفضل والإمامة ، قبل بلوغ سن الثلاثين من عمره .
3- نتاجه العلمي :
وفي مجال التأليف والإنتاج العلمي ، فقد ترك الشيخ للأمة تراثا ضخما ثمينا ، لا يزال العلماء والباحثون ينهلون منه معينا صافيا ، توفرت منه الآن المجلدات الكثيرة ، ومن المؤلفات والرسائل والفتاوى والمسائل وغيرها ، هذا من المطبوع ، وما بقي مجهولا أو مكنوزا في عالم المخطوطات كثير .
ولم يترك الشيخ مجالات من مجالات العلم والمعرفة التي تنفع الأمة ، وتخدم الإسلام ، إلا كتب فيه واسهم بجدارة وإتقان ، وتلك خصلة قلّما توجد إلا عند العباقرة النوادر في التاريخ .
فلقد شهد له أقرانه ، وأساتذته ، وتلاميذه ، وخصومه بسعة الاطلاع ، وغزارة العلم ، فذا تكلم في علم من العلوم أو فن من الفنون ظن السامع انه لايتقن غيره ، وذلك لإحكامه له وتبحره فيه ، وان المطلع على مؤلفاته وإنتاجه ، والعارف بما كان يعمله في حياته من الجهاد باليد واللسان ، والذب عن الدين ، والعبادة والذكر ، ليعجب من بركة وقته ، وقوة تحمله وجلده ، فسبحان من منحه تلك المواهب .
4- جهاده ودفاعه عن الإسلام :
الكثير من الناس يجهل الجوانب العملية من حياة الشيخ ، فإنهم عرفوه عالما ومؤلفا ومفتيا ، من خلال مؤلفاته المنتشرة ، ومع إن له مواقف مشهودة في مجالات أخرى عديدة أسهم فيها إسهاما قويا في نصرة الإسلام وعزة المسلمين ، فمن ذلك : جهاده بالسيف ، وتحريضه المسلمين على القتال ، بالقول والعمل ، فقد كان يجول بسيفه في ساحات الوغى مع أعظم الفرسان والشجعان الذين شاهدوه يقاتل بسيفه أثناء فتح عكا عجبوا من شجاعته وفتكه بالعدو( ).
أما جهاده بالقلم واللسان ، فانه رحمه الله وقف أمام أعداء الإسلام من أصحاب الملل والنحل والفرق والمذاهب الباطلة والبدع كالطود الشامخ ، بالمناظرات حينا وبالردود أحيانا ، حتى فند شبهاتهم ورد الكثير من كيدهم بحمد الله ، فقد تصدى للفلاسفة ، والباطنية ، من صوفية وإسماعيلية ونصيرية وسواهم ، كما تصدى للروافض والملاحدة ، وفند شبهات أهل البدع التي تقام حول المشاهد والقبور ونحوها ، كما تصدى للجهمية والمعتزلة وناقش المتكلمين والاشاعرة .
والمطلع على هذا الجانب من حياة الشيخ يكاد يجزم بأنه لم يبق له من وقته فضلة ، فقد حورب وطورد ، وأوذي وسُجن مرات في سبيل الله ، وقد وافته منيته مسجونا في سجن القلعة بدمشق .
ولا تزال بحمد الله ردود الشيخ سلاحا فعالا ضد أعداء الحق والمبطلين ؛ لأنها إنما تستند إلى كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم ، وهدي السلف الصالح ، مع قوة الاستنباط ، وقته الاستدلال والاحتجاج الشرعي والعقلي ، وسعة العلم ، التي وهبها الله له .
وكثر المذاهب الهدامة التي راجت اليوم بين المسلمين هي امتداد لتلك الفرق والمذاهب التي تصدى لها الشيخ وأمثاله من سلفنا الصالح ، لذلك ينبغي للدعاة .
5- خصاله :
بالإضافة إلى ما اشتهر به هذا الإمام من العلم والفقه في الدين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قد وهبه الله خصالا حميدة ، اشتهر بها وشهد له بها الناس ، فكان سخيا كريما يؤثر المحتاجين على نفسه في الطعام واللباس وغيرهما ، وكان كثير العبادة والذكر وقراءة القرآن ، وكان ورعا زاهدا لا يكاد يملك شيئا من متاع الدنيا سور الضروريات ، وها مشهور عنه عند أهل زمانه حتى بين عامة الناس ، وكان متواضعا في هيئته ولباسه ومعاملته مع الآخرين ، فما كان يلبس الفاخر ، ولا الردئ من اللباس ، ولا يتكلف لأحد يلقاه ، واشتهر ايضا بالمهابة والقوة في الحق فكانت له هيبة عظيمة عند السلاطين والعلماء وعامة الناس ، فكل من رآه أحبه وهابه واحترمه ، الا من سيطر عليهم الحسد من أصحاب الأهواء ونحوهم .
كما عرف بالصبر وقوة الاحتمال في سبيل الله ، وكان ذا فراسة ، وكان مستجاب الدعوة ، وله كرامات مشهودة . رحمه الله رحمة واسعة ، وأسكنه فسيح جناته .
6- عصره :
للتعرف عن كثب على شخصية الإمام ابن تيمية لابد من دراية موجزة لعصره لان العصر يؤثر تأثيرا كبير في توجيه أفكار الإنسان وكتاباته واهتماماته .
الناحية السياسية : لقد ابتلى المسلمون في تلك الفترة بمصائب كبيرة لم تمر على أمة من الأمم ، أول هذه المصائب غزو التتار للعالم الإسلامي في القرن السابع الهجري وسقوط الخلافة العباسية سنة (656) فكانت الأحداث التي رافقت غزو المغلول وما قبلها وما بعدها حاضرة وقريبة من ولادة شيخ الإسلام ابن تيمية فلا بد أن شاهد آثار هذا الخراب .
ومن المصائب الأخرى هي الحروب الصليبية على البلاد الإسلامية فكانت ولادة ابن تيمية في الدور الرابع منها والذي يتمثل بداية ضعف الفرنجة وبداية الصحوة الإسلامية .
ومن ذلك أيضا ظهور الفتن الداخلية وتنازع المماليك على السلطة ما يحصل بينهم وبين التتار وكان ابن تيمية دور كبير في إصلاح الوضع آن ذاك .
الناحية الاجتماعية : بعد غزو التتار والفرنجة للبلاد الإسلامية واختلاطهم بهذه المجتمعات المحافظة اثر ذلك في ظهور بعض العادات والنظم السيئة التي لا يقرها الإسلام وأحداث بدع مخالفة للشريعة كان لابن تيمية رحمه الله دور في الرد عليها وبيان موقف الإسلام منها وإرجاع الناس إلى سنة نبيهم .
7- وفاته :
إن من علامات الخير للرجل الصالح وقبوله لدى المسلمين : إحساسهم بفقده حين يموت ، لذلك كان السلف يعدون كثرة المصلين على جنازة الرجل من علامات الخير والقبول له لذلك قال الإمام احمد : ((قولوا لأهل البدع : بيننا وبينكم الجنائز)) . أي إن أئمة السنة يفقدهم الناس إذا ماتوا ويكونون أكثر مشيعين يوم يموتون ، ولقد شهد الواقع بذلك ، فما سمع الناس بمثل الإمامين : احمد بن حنبل ، واحمد بن تيمية ، حين ماتا ، ومن كثرة من شيعهما وخرج مع جنازة كل منهما ، وصلى عليهما ، فالمسلمون هم شهداء الله في أرضه .
هذا وقد نوفي الشيخ رحمه الله ، وهو مسجون بسجن القلعة بدمشق ، ليلة الاثنين 20من شهر ذي القعدة سنة (728هـ) فهب كل اهل دمشق ومن حولها للصلاة عليه وتشييع جنازته ، وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته انه حضر جنازته جمهور كبير يفوق الوصف .
رحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء( ).
شيوخه :
بلغ عدد شيوخه أكثر من مائتي شيخ ، من أبرزهم والده عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية (ت 682) ،والمحدث ابو العباس احمد ابن عبد الدائم (ت 668) ، وابن أبي اليسر ، والشيخ شمس الدين عبد الرحمن المقدسي الحنبلي (ت 689) وابن الظاهري الحافظ ابو العباس الحلبي الحنفي (ت 690) .
تلاميذه :
اما تلاميذه فلا يحصون كثرة ، فمن تلاميذه البارزين والمبرزين :شمس الدين ابو عبد اله محمد بن ابي بكر الزرعي ابن قيم الجوزية المتوفى سنة (751) .
الحافظ أبو عبد الله محمد بن احمد بن عبد الهادي (ت 744) .
الحافظ ابو الحجاج يوسف بن زكي عبد الرحمن المزي المتوفى (742) .
الحافظ المؤرخ ابة عبد الله محمد بن عثمان الذهبي (ت 744) .
ابو الفتح ابن سيد الناس محمد بن محمد اليعمري المصري (ت 734) .
الحافظ علم الدين القاسم بن محمد البزاري (ت 739) .
مؤلفاته :
ان مؤلفات هذا الإمام كثيرة جدا بحيث عجز تلاميذه ومحبوه عن إحصائها ، قال تلميذه النجيب شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر المشهور بابن القيم رحمه الله :-
إما بعد : فان جماعة من محبي السنة والعلم سألني أن اذكر له ما ألفه الشيخ الإمام العلامة الحافظ أوحد زمانه ، تقي الدين أبو العباس احمد ابن تيمية – رضي الله عنه – فذكر لهم اني عجزت عن حصرها وتعدادها لوجوه أبديتها لبعضهم وسأذكرها ان شاء الله فيما بعد ..."( ).
ثم قال :
" فمما رايته في التفسير " فذكر اثنين وتسعين مؤلفا ما بين رسالة وقاعدة .
قال : " ومما صنفه في الأصول مبتدئا أو مجيبا لمعرض او سائل " فذكر عشرين مؤلفا ما بين كتاب ورسالة وقاعدة ( ).
ثم قال : " قواعد وفتاوى " فذكر خمسة وأربعين ومائة ما بين كتاب وقاعدة ورسالة( ) .
الكتب الفقهية " وسرد خمسة وخمسين مؤلفا ما بين كتاب ورسالة وقاعدة( ) .
" وصايا وأجازات ورسائل تتضمن علوما " بلغت اثنتين وعشرين( ) .
وذكر الحافظ ابن عبد الهادي كثيرا من مؤلفات شيخ الإسلام مع ذكر نماذج لبعض المؤلفات والتنويه بمكانتها في كتابه العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية .
هذه لمحة خاطفة عن حياة هذا الإمام العظيم – رحمه الله – واسكنه فسيح جناته .
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)