الأربعاء، 4 مايو 2011
الإسلام والليبرالية (حقيقة التوجه الأمريكي وإمكانية الالتقاء الفكري)
خالد أبو الفتوح
بعد أحداث سبتمبر 2001، وتحديداً في عام 2003م، وضمن جهود أمريكا لرسم خريطة التغيير المزمع اتباعها في العالم الإسلامي، نشرت مؤسسة (راند) الأميركية تقريراً استراتيجيّاً بعنوان (الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء، والموارد، والإستراتيجيات) للباحثة في قسم الأمن القومي (شيرلي بينارد)، وفي ربيع عام 2004م قامت الباحثة نفسها بنشر ملخص
ولمن لا يعرف مؤسسة (راند)، فهي مؤسسة نشأت بصفتها مركزاً للبحوث الإستراتيجية لسلاح الجو الأميركي، ثم تحولت بعد ذلك إلى مركز عام للدراسات الإستراتيجية الشاملة، ويعدها المحللون السياسيون بمثابة «العقل الاستراتيجي الأميركي».
تقرير الباحثة (بينارد) الذي اهتم بتقديم توصيات عملية لصاحب القرار الأمريكي، يتكون من تمهيد وثلاثة فصول وأربعة ملاحق وقائمة مراجع:
الفصل الأول عنوانه: «رسم خريطة للموضوعات: مقدمة لآفاق الفكر في الإسلام المعاصر»، ويناقش فيه الوضع الراهن من حيث المشكلات المشتركة والإجابات المختلفة، ويحدد مواقف التيارات الإسلامية إزاء عدد من الموضوعات الرئيسية، مثل: الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتعدد الزوجات، والعقوبات الجنائية والعدالة الإسلامية، وموضوع الأقليات، ولبس المرأة، والسماح للأزواج بضرب الزوجات.
أما الفصل الثاني فهو يمثل صلب التقرير، وعنوانه: «العثور على شركاء من أجل تطوير وتنمية الإسلام الديمقراطي»، وهو يتضمن تصنيف التيارات الإسلامية المعاصرة إلى أربعة: العلمانيين، والأصوليين، والتقليديين، والحداثيين؛ حيث يحدد السمات الرئيسية لكل تيار وموقفه من المشكلات المطروحة.
أما الفصل الثالث وعنوانه: «إستراتيجية مقترحة»، فهو يتضمن توصيات عملية موجهة لصانع القرار الأميركي لاستبعاد التيارات الإسلامية المعادية وتدعيم التيارات الإسلامية الأخرى، وخصوصاً ما يطلق عليه التقرير التيارات العلمانية والحداثية، ولأنها أقرب ما تكون إلى قبول القيم الأميركية وخاصة القيم الديمقراطية.
وتقرر (بينارد) أن الغرب يراقب بدقة الصراعات الإيديولوجية العنيفة داخل الفكر الإسلامي المعاصر، وتقول بالنص: «من الواضح أن الولايات المتحدة والعالم الصناعي الحديث والمجتمع الدولي ككل تفضل عالماً إسلامياً يتفق في توجهاته مع النظام العالمي، بأن يكون ديمقراطياً، وفاعلاً اقتصادياً، ومستقراً سياسياً، تقدمياً اجتماعياً، ويراعي ويطبق قواعد السلوك الدولي، وهم أيضاً يسعون إلى تلافي (صراع الحضارات) بكل تنويعاته الممكنة، والتحرر من عوامل عدم الاستقرار الداخلية التي تدور في جنبات المجتمعات الغربية ذاتها بين الأقليات الإسلامية والسكان الأصليين، في الغرب، وذلك تلافياً لتزايد نمو التيارات المتشددة عبر العالم الإسلامي، وما تؤدي إليه من عدم استقرار وأفعال إرهابية».
وبناء على هذه الدراسة المتعمقة يقدم التقرير عناصر أساسية لإستراتيجية ثقافية وسياسية مقترحة لفرز الاتجاهات الإسلامية الرئيسية التي يجملها التقرير في أربعة وهي: العلمانيون، والأصوليون، والتقليديون، والحداثيون. وفي ضوء هذا الفرز تشن الولايات المتحدة الأميركية حرباً ثقافية - إن صح التعبير - ضد الاتجاهات الإسلامية العدائية، وفي الوقت نفسه تصوغ إستراتيجية لدعم الاتجاهات الإسلامية القريبة من القيم الأميركية، مادياً وثقافياً وسياسياً؛ لمساعدتها في الاشتراك في ممارسة السلطة السياسية في البلاد العربية والإسلامية.
ومن هنا نفهم كلمات العنوان الفرعي للكتاب التقرير «شركاء، وموارد، وإستراتيجيات»، فكلمة (الشركاء) تشير إلى هؤلاء الفاعلين الإسلاميين الذين سيقبلون - لسبب أو لآخر - الاشتراك مع الجهود الغربية عموماً والأميركية خصوصاً في عملية إعادة صياغة الأفكار الإسلامية، من خلال عملية إصلاح ديني لها خطوطها البارزة، والتي تصب في النهاية في استئصال الفكر المتطرف، مما سيؤدي بالضرورة إلى تجفيف «منابع الإرهاب»، أي: تحديد الشركاء الإسلاميين المناسبين، والعمل معهم لمكافحة التطرف والعنف و «الإرهاب»، وتشجيع قيم الديمقراطية على الطريقة الغربية الأميركية.
أما إشارة العنوان الفرعي إلى (الموارد) فمعناها ببساطة تخصيص ميزانيات ضخمة للإنفاق على المشروع، من خلال «وكلاء» يقومون بمهمة تجنيد الأنصار ونشر الكتب وإصدار المجلات التي تحمل الفكر الإصلاحي الإسلامي الجديد.
وتبقى كلمة (الإستراتيجيات) الواردة في العنوان الفرعي للكتاب، وهي تشير بكل بساطة إلى الإستراتيجية التي تقترحها الباحثة لشن حرب ثقافية ضد التيارات الأصولية الإسلامية من ناحية، والتعاون الفعال مع عناصر من التيارات العلمانية والحداثية والتقليدية الإسلامية من ناحية أخرى.
ومن الملفت للنظر أن الباحثة الأميركية ـ التي لا تتردد في وصف مهمة كتابها التقرير بأنه إسهام في عملية «إعادة بناء الدين الإسلامي Religion Building» ـ أفردت ملحقاً خاصاً لمناقشة (السنة النبوية) والتي تتمثل في الأحاديث، وقررت أنه من الضروري تنقية هذه الأحاديث؛ لأن بعضها يستخدم كأساس للفتاوى الدينية التي تستند إليها الجماعات الإسلامية المتطرفة في كراهية الآخر والهجوم على الغرب سياسة وثقافة.
لم يمض وقت طويل على هذا التقرير حتى تولى مركز ابن خلدون الذي يديره د. سعد الدين إبراهيم تنفيذ التوصيات الأميركية الخاصة بالإسهام في (إعادة بناء الدين الإسلامي) بما يتفق مع القيم الأميركية، ونظم في القاهرة مؤتمراً ـ مولته أمريكا حسماً من المعونة الأمريكية لمصر ـ موضوعه (الإسلام والإصلاح)، بمشاركة 20 باحثاً من جنسيات عربية وأوروبية وأميركية، بالتنسيق مع ثلاثة مراكز بحثية دولية، وقد صدر بيان عن المؤتمر ذكر فيه أنه تبنَّى الدعوة إلى «إعادة صياغة نسق معرفي جديد للفكر الإسلامي ومراجعة التراث الإسلامي مراجعة جذرية، والتصدي لأفكار المؤسسات التي تحتكر الحديث باسم الدين، ومواجهة وتفنيد مقولات ورؤى وأفكار التيارات الدينية المتطرفة، وتكثيف الحوار مع القوى المعتدلة والمستنيرة في المجتمعات الغربية عامة والمجتمع الأميركي خاصة، وأهمية إدماج الحركات الإسلامية في العملية الديمقراطية، وتمكين الحركات المعتدلة من حق الوجود السياسي إذا قبلت بالديمقراطية كخيار إستراتيجي، وأقرت بالمبادئ الأساسية التي تقوم عليها قيم المجتمع المدني والدولة المدنية الحديثة، وضرورة إجراء حوار عام موسع مع تيارات الإسلام السياسي السلمي».
غير أن أخطر توصية تبناها المؤتمر: دعوته إلى تنقية التراث الديني من الحديث النبوي الشريف، والاعتماد فقط على نصوص القرآن الكريم كمرجعية وحيدة، والتصدي لأفكار المؤسسات التي تحتكر الحديث باسم الدين وإيجاد مدرسة اجتهاد جديدة في القرن الحالي.
وقد قوبلت توصيات المؤتمر التي أعلنت في مؤتمر صحفي في نهايته باعتراضات عنيفة من الحضور وبعض الصحف المصرية، والتي أفاضت في ذكر الهجوم العنيف على منظم المؤتمر والمشاركين فيه، واتهامهم المباشر بالعمالة لأمريكا.
معظم ما سبق هو مقتطفات منسقة من مقالات نشرت في الفترة من 15/7 إلى 5/8/2004م، و 5/10/2004م، بجرائد الأهرام المصرية والنهار اللبنانية وملحق (وجهات نظر) من الاتحاد الإماراتية، للكاتب (السيد ياسين)، وهو كاتب غير متهم بالتطرف أو الأصولية، بل على العكس يصنفه كثيرون على أنه يقف في الخندق المواجه للتيار الإسلامي.
وبحسب الكاتب نفسه في المقالات نفسها: فإن الاهتمام بما أطلق عليه (الصحوة الإسلامية) أكاديمياً وبحثيّاً لم يكن وليد الساعة، ولكنه ظهر واضحاً عام 1979م عقب نجاح الثورة الإيرانية، بَيْدَ أن الأب الحقيقي للتيار الأكاديمي الأميركي الذي حاول بعمق شديد ونادر تأصيل الليبرالية الإسلامية، هو عالم السياسة الأميركي المعروف (ليونارد بايندر) في كتابه (الليبرالية الإسلامية: نقد للأيديولوجيات التنموية) الصادر عام 1988م عن دار نشر مطبعة جامعة شيكاغو.
ومن الأهمية بمكان في سبيل إيضاح الفكرة الجوهرية التي يقوم عليها تيار الليبرالية الإسلامية كما صاغ منطلقاته الباحثون في دراساتهم، أن نعتمد على ما قرره بايندر نفسه في شرحه لخطة كتابه، وهو يقول: «المحور الأساسي للكتاب هو دراسة العلاقة بين الليبرالية الإسلامية والليبرالية السياسية، وهو يضع في اعتباره الرأي الذي مؤداه أن العلمانية تنخفض معدلات قبولها، ومن المستبعد أن تصلح كأساس أيديولوجي لليبرالية السياسية في الشرق الأوسط، ويتساءل الكتاب عما إذا كان من الممكن بلورة ليبرالية إسلامية، ويخلص إلى أنه بغير تيار قوي لليبرالية الإسلامية فإن الليبرالية السياسية لن تنجح في الشرق الأوسط، بالرغم من ظهور دول بورجوازية».
وبعد أن يرصد (الأستاذ ياسين) بعض التطورات الفكرية والتحركات السياسية لبعض القوى الإسلامية، يقول:
وهكذا يمكن القول إن الاهتمام المبكر لعالم السياسة الأميركية (ليونارد بايندر) بالليبرالية الإسلامية منذ عام 1988م(1)، قد فتح باباً للاجتهاد الأميركي أدى من بعد - من خلال عملية تراكمية معرفية معقدة ـ إلى أن يُصدر عالم السياسة الأميركي (رايموند ويليام بيكر) عام 2003م كتاباً ملفتاً للنظر عن الإسلاميين المستقلين في مصر، عنوانه (إسلام بلا خوف: مصر والإسلاميون الجدد)، نشرته جامعة هارفارد، وقد خصصه لدراسة أفكار أربعة من الكتاب الإسلاميين المعروفين، وهم: (أحمد كمال أبو المجد)، و (طارق البشري)، و (فهمي هويدي)، ومحمد سليم العوَّا.. ويضيف كاتب المقالات نفسه إلى هؤلاء الأربعة: الشيخ يوسف القرضاوي.
بالطبع لا يعني ذلك أن محاولات أمريكا والغرب عموماً لـ (ليبرة) الإسلام بدأت منذ هذا التاريخ، فقد أشار كاتب إسلامي كبير في خمسينيات وستينيات القرن الميلادي الماضي إلى خطورة (الإسلام الأمريكي) الذي تحاول الولايات المتحدة إيجاد موطئ قدم له في العالم الإسلامي، وقد أشرت في مقالات سابقة إلى محاولات الغرب الدؤوبة لإيجاد إسلام (بروتستانتي) لا يثير العداء للغرب ولا يستفز المسلمين، خاصة الجهود التي بذلت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين(2).
ورغم الهجمة الأمريكية الشرسة والضغوط الغربية الهائلة التي تهدف إلى تمرير هذه المشروعات في عالمنا الإسلامي، فإني لم أجد جديداً أو غريباً في هذه المساعي، اللهم إلا في حجم التوجه ومقدار تكثيف الجهود في فترة زمنية محددة، ولكن الجديد حقاً كان في محيطنا الداخلي، وأعني به: ظهور فئة تنتسب إلى التيار الإسلامي (العامل) يَسِمُ أفرادها أنفسهم بأنهم (إسلاميون ليبراليون).
ويبدو أن ضغوط الواقع الاستبدادي التسلطي، وضيق ـ أو اختناق ـ مساحات الحريات، وشيوع مناخات الأحادية والمصادرة... جعل كثيراً من أفراد هذه الفئة يسترقون السمع لأي دعوى حرية، حتى ولو كانت نابتة خارج إطارنا الإسلامي، حتى ولو كانت باسم (الليبرالية). كنت أستغرب ـ ولا يُستغرب ـ أحدهم وهو ينعت نفسه بأنه (إسلامي ليبرالي)، وكأنه يصف نفسه بأنه مسلم (شافعي)، أو (مالكي)، أو حتى (شيعي)، أو كأنه ينسب نفسه بأنه (مسلم إندونيسي) أو (مسلم مغربي)، كان لا يستهجن ذلك، في حين كانت كلماته تقرع أذني وكأنها (إسلامي ماركسي) أو (إسلامي بوذي) أو (إسلامي علماني).
ومع استبعادي لعمالة هذا الشخص وأمثاله ـ أو حتى وعيه ـ للمشروع الأمريكي السابق ذكره، فإني على قناعة بأن أحدنا لا يفهم الإسلام، أو لا يفهم الليبرالية، أو لا يفهمهما معاً، هذا إذا كان هذا الشخص جاداً وصادقاً في كلامه.
وإذا كان المقام لا يتسع لعرض جميع أبعاد هذا الموضوع، فسأكتفي هنا بعرض وجهة نظري في الفرق بين الإسلام والليبرالية في أصولهما ومنطلقاتهما وما يترتب على ذلك من فروق على نطاق التصورات أو التطبيقات.
* الليبرالية والحريات.. الأصول والمنطلقات:
بداية فإنه لا يختلف أحد من الليبراليين (الأصوليين) على أن (الفكر الليبرالي) لا يقتصر على حقل الفكر السياسي، بل يمتد إلى ما هو أبعد منه، ليكوِّن فلسفة اجتماعية شاملة ترتبط بتوجهات محددة في مجالات الأخلاق وفلسفة العلم والقيم الاجتماعية والاقتصاد، إضافة إلى السياسة.
لقد لحق مفهوم الحرية ـ الذي ارتبط بالديمقراطية في المدن الإغريقية ـ تطور هائل من المدرسة الليبرالية، خصوصاً مع (جون لوك) في القرن السابع عشر؛ فالحرية في هذا المفهوم هي حرية الفرد، وهي الاعتراف له بمجال خاص لا يجوز التعدي عليه أو التدخل فيه؛ فالحرية هنا هي الاعتراف للفرد بحقوق طبيعية أو أساسية لا يجوز التعدي عليها ولو بموافقة الأكثرية: للفرد الحق في الحياة، في العقيدة، في التعبير، في الاجتماع، في الملكية، في التعاقد.. وهكذا لم يبق للحرية مفهوم إجرائي لاختيار الحكام، أو لأسلوب اتخاذ القرارات السياسية، بل أصبح للحرية مضمون حقوقي قانوني، هو الاعتراف بالحقوق الأساسية للإنسان باعتباره إنساناً.. وهذا هو المفهوم الليبرالي للحرية.
فعندما نتحدث عن الحرية فإننا قد نقصد أموراً مختلفة، ويمكن تلخيص هذه المفاهيم المتعددة تحت ثلاثة مفاهيم: هناك ما يمكن أن نطلق عليه (الحرية الجمهورية)، وهي تتطلب المشاركة في الحياة السياسية واختيار الحكام ومسؤولياتهم، وهي تقابل المفهوم المستقر للديمقراطية السياسية، وهذه تجد جذورها في الديمقراطيات الإغريقية أو ما يطلق عليه (كونستانت) الحرية بالمفهوم القديم.
وهناك من ناحية ثانية (الحرية الليبرالية) وهي تشير إلى الاعتراف بحقوق وحريات أساسية للأفراد لا يجوز الاعتداء عليها أو التعرض لها، وهي تقابل المفهوم الحديث للحرية عند (كونستانت) أو الحرية السلبية عند (برلين)، وهي أيضاً ما يقابل ما يعرف حديثاً بـ (حقوق الإنسان) الأساسية كما صدر عن منظمات الأمم المتحدة في وثائقها المتعددة.
وأخيراً هناك ما يمكن أن نطلق عليه (الحرية المثالية) أو الحريات الاقتصادية والاجتماعية؛ حيث يتعلق الأمر بضرورة تمكين الفرد من ممارسة حرياته، بتوفير حد أدنى من المستوى الاقتصادي وتقديم الخدمات الأساسية في التعليم والصحة والخدمات العامة»(1).
وإذا كان هذا الكلام يُظهر بعض الاختلاف في نظرة الليبراليين أنفسهم إلى (الحرية)، إلا أنه يوضح أننا لا نستطيع أن نفصل مسيرة الحريات الليبرالية عن مسيرة حقوق الإنسان في الغرب؛ إذ تتشابك وتتداخل المفاهيم في كليهما.
ينقسم الحديث عن الحقوق والحريات إلى شُعب عديدة: فهناك (حق المعرفة) و (حرية الإبداع) و (حرية الاعتقاد) و (حرية الرأي ) و (حرية التعبير)، و (حرية التعليم)، و (حرية الملكية)، و (الحرية الشخصيّة)، ويمكن أن يضاف إلى ذلك: (حق تكوين الأحزاب والتكتلات). وقد تنقسم بعض هذه الشعب إلى أقسام أو فروع متعددة، كما هو الحال بالنسبة للحرية الشخصيّة، التي تشمل: (حرية التنقل) و (حق الأمن) و(حرية المسكن)، ويعد بعض الباحثين (حرية الرأي) الأصل في هذه الشُّعَب والأقسام جميعاً، وليس من هدفنا في هذا المقال تناول هذه الحريات والحقوق تفصيلياً، بقدر ما يهمنا وضع إطار كلي نستطيع من خلاله فهم النسق الذي توضع فيه هذه الحريات والحقوق وكيفية فهم خريطة العلاقات بينها.
فمفهوم قيم (الحريات) و (حقوق الإنسان) اصطبغ بالخلفية الفكرية التي خرجت منها هذه الحقوق، وخضع للمنظومة القيمية العامة للمجتمع الذي نشأت فيه، وهو ما يختلف كلية عن الخلفية الإسلامية والمنظومة الإسلامية التي تحوي المفردات أو المصطلحات نفسها.
فمن المعروف أنه يختلف مفهوم كل مصطلح وطبيعة العلاقة بين القيمة التي يحملها وقيم المصطلحات الأخرى بحسب الإطار الفكري والفضاء القيمي الذي يسبح فيه هذا المصطلح، وعليه: لا نستطيع أن نختزل مفهوماً ما ونقتبسه من بيئته الفكرية والقيمية ثم نحاول إسقاطه على بيئة أخرى ومجتمع آخر له خلفيته الفكرية الخاصة ومنظومته القيمية المتمايزة.
من الملاحظ أن تبلور الليبرالية تزامن، في القرن السابع عشر الميلادي، مع ظهور الرأسمالية في أوروبا، عندما ظهرت حاجة الرأسماليين الصاعدين وقتها لإيجاد ذريعة أخلاقية وفكرية لحق تخزين الأموال الشخصية وكنزها، واعتقد المفكرون الليبراليون الأوائل بأنه لو خُلِّيَ العالم وسيره الطبيعي فإن المشكلات البشرية سوف تتجه تلقائياً نحو الحل، وأننا لو تركنا الأفراد يعملون وفق إرادتهم الخاصة، فإن ذلك سوف يحقق المساواة في المجتمع وكذلك الأخوة، ومن ثم: اعتقدوا أن عامة الناس يمكنهم اختيار الطريق المفضي إلى سعادتهم وراحتهم، وعليه: فلا تحتاج المسألة إلى افتراض تصور أو نظام يفرض عليهم من فوقهم، سواء من رجال الدين أو غيرهم؛ فالناس أنفسهم يمكنهم تعيين الحقوق والتكاليف التي يجب أن يستجيبوا لها بدون وجود سلطة عليا من خارجهم تفرض ذلك عليهم، وهذا ما تعرض للنقد حتى من مفكرين غربيين، كـ (تشارلز فرنكل) في كتابه (أزمة الإنسان الحديث)، ففي الحقيقة أن الغرب لم يلغِ المرجعية والسلطة بإطلاق، بل استبدل مرجعية بأخرى وسلطة بغيرها، بعد أن أزاح الدين عن ساحة التوجيه والتنظيم.
الغرب في نهضته استمد خلفيته الفكرية من الفكر الفلسفي اليوناني القائم على تقديس العقل - الذي أعلى من قيمته مرة أخرى مكتشفات عصر النهضة -، كما أن الغرب في نهضته كان خارجاً لتوه من سيطرة كنسية طاغية قائمة على تخلف علمي واستدلالي يورد الفيلسوف (فرانسيس بيكون) نموذجاً لها، فيقول: «وقع بحث ونقاش سنة 1432م، في مجمع من المجامع العلمية، حول عدد أسنان الحصان. لقد جرى التفتيش عن الإجابة عن هذا الموضوع في آثار العلماء السابقين، بيدَ أن ذلك لم يقدم أي نتيجة، وبعد أربعة عشر يوماً من التحقيق أبدى أحد الطلاب رأيه بالنظر إلى فم الحصان وعد أسنانه، لكن هذا الاقتراح تم التعاطي معه على أنه كفر، وأن قائله مستوجب للتأديب الشديد، وفي نهاية المطاف، وبعد عدة أيام من البحث والجدال، أعلن المركز العلمي عدم قابلية هذه المسألة للحل؛ نظراً لعدم ورودها في كتب القدماء، فأحس الغرب بأهمية الاستدلال العقلي وبتعطشه للتجربة الحسية التي حرمته منها الكنيسة، مهدراً أي طريق آخر للمرجعية المعرفية، وأصبح إثبات الحقائق أو نفيها مرهوناً بوقوع هذه الحقائق في دائرة نشاطاتنا العقلية وتجاربنا الحسية، وهذا معناه أنه لا يجوز الاعتراف بأي شيء اعترافاً مسبقاً؛ فكل شيء قابل للتجربة أو للتجزئة والتحليل العقلانيين.
وهذا ما أثر على نظرة الغرب إلى (الدين) و (الغيبيات) وتصوراته عن الكون والإنسان والحياة عموماً؛ حيث إن الدين والغيبيات لا يمكن للعقل المجرد إدراك مسائلهما، وعليه: فهي نسبية وغير يقينية ولا يستطيع أحد الزعم بأحقية تصوره وإبطال تصور الآخرين، ولذا: فهي متروكة لاعتقاد كل فرد، ومن ثَم: ينبغي على كل إنسان أن يفسح المجال لاعتقادات الآخرين وأن يتسامح معهم في معتقداتهم؛ لأنها ببساطة متساوية مع اعتقاداته في نسبتها إلى الحقيقة، أو بالأحرى: في افتقارها إلى الحقيقة. وعندما صادروا الدين والغيبيات من دائرة العقل والحواس فإنهم وضعوهما في دائرة العواطف والضمير الإنساني، وهي الدائرة التي لا ينبغي لأحد أن يتدخل فيها أو يصادرها، وفي أقصى الافتراضات: فهي عاطفة تقوم على الإقناع وليس على الإلزام.. كما أثر ذلك على نظرة الغرب إلى كيفية بحث الإنسان عن أهدافه وغاياته وعن طرق الوصول إلى تحقيق هذه الأهداف والغايات.. كما أثر ذلك أيضاً في النظرة إلى الأخلاق، حيث لا توجد أخلاق مقدسة أو مؤبدة أو مطلقة؛ فالحُسن والسوء ليسا مطلقين ولا كليين، كما أن تحديد الخير والشر والحسن والقبح يختلف من إنسان إلى آخر، ومن ثَم: لا ينبغي أن تُفرض هذه الأخلاق من سلطة عليا أيّاً كانت. وإذا كان الأمر كذلك فإن السلوك الإنساني سيتحدد من خلال الرغبات والميول البشرية، وعندها سيكون الحَسَن هو ما يحبه الأفراد أنفسهم ويرغبون فيه، والقبيح والسيئ هو ما ينفر منه هؤلاء الأفراد ويتعارض مع الرغبات الإنسانية.
لم يكن هذا هو التأثير السلبي الوحيد للكنيسة على منظومة الغرب في حقوق الإنسان وحرياته؛ فلقد أدت نظرة الكنيسة إلى الإنسان على أنه يحمل خطيئة أبدية ورثها من أبيه آدم، أي: إنه مذنب بالأصالة حتى يخلصه المسيح، أدى ذلك إلى رد فعل عكسي عند الليبراليين تمثل في تمحورهم حول الإنسان، فهو البداية وهو النهاية وهو الغاية. وإذا نظرنا إلى هذا الإنسان وفق المنظور العقلي والحسي فإنه يتجرد من (الروح) ولا يبقى منه إلا الأبعاد الذاتية والنفعية، أي: الغرائز والشهوات والماديات.
والخلاصة: أن الغرب لم يُخرج تصوراته عن منظومته في حقوق الإنسان وحرياته - في الربع الأخير من القرن الثامن عشر - إلا بعد قطيعة حادة مع الدين ممثلاً في الكنيسة الكاثوليكية - التي أذعنت في النهاية لهذه القطيعة رافعة شعار (دعوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله) - ثم تجسدت هذه القطيعة في أكبر تجلياتها على أرض الواقع عبر الثورة الفرنسية عام 1789م بشعارها الماسوني المثلث (حرية - مساواة - إخاء)، وهو الشعار الذي يعد أصل كافة حقوق الإنسان في المنظور الغربي، تأسيساً على أنها حقوق عامة تشمل جميع الأفراد بموجب (الحق الطبيعي) الذي يسبق جميع الثقافات والحضارات - حسب هذا الفكر - وعليه: صدر في العام نفسه (إعلان حقوق الإنسان والمواطن).
فواضح أن المرجعية في الغرب ـ بعد انقطاعه عن الكنيسة في مجالات الحياة ـ تحولت إلى العقل إضافة إلى الحس التجريبي، ومن هذه المرجعية انبثقت هذه الحقوق والحريات، مع مراعاة البعد الاقتصادي في تطور المجتمع الغربي آنذاك، وواضح أيضاً أن المنهجية التي تأسست عليها هذه الحقوق والحريات هي العلمانية.
وإذا رصدنا ترتيب الهرم القيمي الذي استقر عليه الغرب بناءً على هذه المرجعية وهذه المنهجية نجد أن (الحرية) و (المساواة) تتبوآن قمة هذا الهرم، وعليه: فتحقيق هاتين القيمتين - حسب المفهوم المستقر لديهم - له الأولوية المطلقة التي ينبغي أن تخضع له، أو تتقيد به، أو تنتظم معه قيم المجتمع الأخرى، ومن هنا: أصبحت (الحرية) و(المساواة) على رأس (الثوابت) و(المقدسات) التي لا يمكن المساس بهما، والتي يمكن - أيضاً - التضحية بالقيم الأخرى والحقوق الأخرى من أجل المحافظة عليهما.
وعلى هــذا الأسـاس انتظـمت (الحقوق) و (الحريات) و (العلاقات). ففي العلاقات بين الأفراد نجد أن (حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين)، وفي العلاقة بين الفرد والمجتمع برزت نظرية (العقد الاجتماعي) التي نضجت قبيل الثورة الفرنسية في فكر (جان جاك روسو)، والتي بمقتضاها يتنازل كل فرد في المجتمع عن بعض إطلاقات حقوقه وحرياته للجماعة التي ينتمي إليها، والتي تجسدها الدولة، مقابل (تنظيم) هذه الدولة لممارسة تلك الحقوق والحريات بين جميع الأفراد وحمايتها لها، وهكذا تحولت هذه الحقوق والحريات (الطبيعية) إلى حقوق (مدنية) لا يسمح بالخروج عليها؛ حيث تحميها سلطة المجتمع (الدولة)، وهو الأساس الذي قامت عليه الدولة الحديثة في الغرب.
وبانتشار الفلسفة التحررية (الليبرالية) واستقرارها في غرب أوروبا في القرن التاسع عشر.. أخذت الحريات والحقوق الفردية بُعداً جديداً، عندما أصبحت هذه الفلسفة هي الأساس النظري للتنظيم السياسي والاقتصادي والقانوني للمجتمعات الغربية، فنادت الليبرالية - في الفكر السياسي - بالوقوف ضد كل أشكال التمييز الاجتماعي أو القانوني بين البشر (مساواة)، وطالبت بإطلاق كل الحريات لكل الناس (حرية)، ولكن في حدود قانون واحد يحكمهم ويحتكمون إليه دون تمييز، أو بتعبير الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: «من الضروري أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان لكي لا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم»، فأصبح القانون هو الذي يجسد حقوق الإنسان في نهاية الأمر - حسب الرؤية الغربية - كما نادت الليبرالية بأقل قدر ممكن من القيود التي قد يفرضها المجتمع على تصرفات الأفراد (فردية منهجية).
وتوج ذلك بإصدار الغرب، المنتصر عام 1948م والمتأثر بما أشيع عن حجم المذابح التي تعرض لها اليهود في هذه الحرب، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بموافقة 48 دولة وامتناع 8 دول عن التصويت - معظمها من دول ما كان يسمى بالكتلة الاشتراكية، ثم تلاه مواثيق وعهود دولية متعددة لحقوق الإنسان، وقد جاء هذا الإعلان مهملاً لقيم لا يزنها الغرب بميزان الحقوق (حق الارتباط الأسري، حق الجوار، حق المسافر «ابن السبيل».. إلخ)، وفي الوقت نفسه: مارس - وما يزال - فرض وجهة نظره في هذه الحقوق على المجتمعات الضعيفة بلا أدنى مراعاة لحرية الاختيار وحق الاختلاف، حيث يرى الغرب في كل زمن وصوله إلى مرحلة النضج والكمال في هذا الزمن، ويرى تخلف غيره من المجتمعات، ويرى أن عليه رسالة سامية، هي (تحضير) هذه المجتمعات المتخلفة بفرض رؤيته (الحضارية) عليها.
وهكذا نرى أن ملامح الإطار الفكري والفضاء القيمي الذي خرجت منه الحريات والحقوق في الغرب تتمثل في أن:
1 - العقل المجرد هو مرجعية هذا الحقوق والحريات، حتى وإن اقتبس هذا العقل بعض قيم الدين ـ كما في تأثر الليبرالية بالبروتستانتية ـ فإن العقل المجرد يبقى هو الحاكم على هذه القيم بالرفض والقبول.
2 - العلمانية (فصل الدين عن الحياة وعن الدولة) هي المنهجية التي تنتظم فيها هذه الحقوق والحريات.
3 - (الحرية) و (المساواة) هما أعلى قيم المجتمع التي تخضع لها وتنتظم معها قيم المجتمع الأخرى، فهما (ثوابت) و (مقدسات) لا يمكن المساس بهما.
4 - إعلاء قيمة (الفرد) ومصالحه مقابل تقليص دور المجتمع ومصالحه.
وعلى هذه الأسس نستطيع رد الأحداث الجزئية إلى أصولها وتفسيرها تفسيراً منطقياً:
ففي الغرب يحق لأي شخص اعتناق الدين الذي يروق له سواء أكان سماوياً أو غير سماوي أو أن يكون ملحداً أو أن يغير دينه (انظر: المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)؛ لأن ذلك يدخل في إطار حق (حرية الاعتقاد)، وهو حق (شخصي / فردي) لا يجوز التدخل فيه. وواضح هنا أن تصور (الاعتقاد، أو الدين) جاء منسجماً مع النظرة العلمانية الغربية للدين التي تفصل بين الدين والحياة؛ فالدين عندهم لا علاقة له بالعقل ـ أي: لا يوزن بمعيار الصحة والخطأ ـ أو بنظام المجتمع، ولكنه عاطفة أو ضمير يكنه الشخص داخل نفسه فقط.
وعلى ذلك: فلو أن شخصاً ما كان من دينه الذي (يعتقده) إباحة تعدد الزوجات مثلاً وأراد ممارسة ذلك فإن الدولة تتدخل لـ (تقييد) هذه الحرية وتمنعه من ذلك؛ لأن تلك الممارسة خارجة عن حقه في (حرية الاعتقاد)؛ إذ إنها خرجت عن إطار (العاطفة والضمير الشخصي)، ولأن في ذلك خرقاً للقانون وللعقد الاجتماعي وللنظام الذي ارتضاه معظم الأفراد (فصل الدين عن الحياة)، ولأن فيه تعدياً على حقوق أفراد آخرين (المرأة، حتى ولو كانت راضية) حسب زعمهم، ولكن في الوقت نفسه: يباح لهذا الشخص معاشرة نساء أخريات خارج إطار الزوجية، ما دام ذلك يتم برضاهن ـ حتى لو كان ذلك مخالفاً لدينه الذي ينتسب إليه - لأن في ذلك إشباعاً لحاجات غريزية يمارسها أفراد بمقتضى (حريتهم) الشخصية التي لم يقيدها القانون؛ فالمسلم في هذه البلاد يستطيع أن (يعتقد) و (يعبر) بحرية عما يعتقد ـ وذلك افتراضاً؛ فتداعيات أحداث سبتمبر كشفت قشرة التجمل الديمقراطية ـ ولكنه لا يستطيع أن يمارس بالحرية نفسها تطبيق ما يعتقده ويعبر عنه (تأمل أيضاً قضية حجاب الفتيات المسلمات في فرنسا، ومنع الذبح الشرعي في أكثر من دولة أوروبية، ومصادرة كتب إسلامية لأكثر من كاتب في أحد معارض الكتب بباريس «عاصمة النور!»، وتأمل معها في الوقت نفسه: الموقف من سلمان رشدي وأمثاله).
وفي الغرب رُفعت قضايا عديدة ضد أكثر من مفكر وكاتب ومؤرخ لمجــرد أنه (عبــر عن رأيه) بالتشكــيك في محارق النــازية لليهــود (الهولوكــست) نفياً لوجودها أو تقليلاً من عدد ضحاياها، وقد كانت حجج اليهود أن في ذلك معاداة للسامية، وهي عنصرية تعمل على إشاعة الكراهية ومضادة (الإخـاء) و (المسـاواة)، وهي (ثوابت) و (مقدسات) في المجتمع الغربي، يجب المحافظة عليها حتى ولو اقتضى ذلك تقييد (حرية الرأي) ومصادرة (حرية التعبير) لأفراد مفكرين، يمكن أن يكون مآلهم السجن (عكس الحرية تماماً) أو الحكم بالغرامة المالية، بـدلاً من تشـجيعهم عـلى البــحث الحــر والرأي الحر.
في الغرب يقوم نظام الحكم على الديمقراطية (وهي من أكبر عمليات النصب الفكري في التاريخ، ولهذا حديث آخر) التي قوامها القبول بالتعددية، وضماناً لإعمال هذا المبدأ تقوم أنظمة الحكم الغربية بإطلاق (حرية تكوين الأحزاب السياسية والتكتلات) ومع ذلك نجد أن بعض هذه الدول تشترط عدم خروج الأحزاب على بعض المبادئ الأساسية في المجتمع (تقييد هذا الحق وتوجيهه) فلا تسمح بقيام حزب جمهوري في بلد ملكي، أو قيام حزب ملكي في بلد جمهوري، أو قيام حزب انفصالي في بلد اتحادي، أو قيام حزب شيوعي في بلد رأسمالي (كما في أمريكا مثلاً)، أو قيام حزب نازي أو فاشي في بلد ليبرالي - وخاصة ألمانيا وإيطاليا - ولو حدث اختراق لبعض هذه الشروط والقيود تحت مسميات ومظلات أخرى فإن العقوبات تكون بالمرصاد لهذا الاتجاه ولزعيمه ولبلده، وحالة حزب الحرية (القومي النمساوي) وزعيمه (يورج هايدر) ليست ببعيدة.
وأسباب ذلك التقييد والتضييق قريبة من الأسباب المذكورة في النقطة السابقة.
وباختصار: ماذا لو خرج في الغرب ـ مِن منطلق الحريات ـ مَن يطالب بهدم (ثابت) الحرية (المقدسة) وإسقاطه؟ الرد الفوري الجاهز من أنصار الحرية سيكون الشعار المعروف: (لا حرية لأعداء الحرية) بدعوى أن هؤلاء (سيستخدمون الحرية لقتل الحرية).
وبالطبع فإنهم لا يعدون هذه القيود انتقاصاً للحقوق والحريات، بل يعدونها حماية لهذه المكتسبات التي أصبحت ثوابت (مقدسة) وضبطاً لها؛ حتى لا تتحول إلى فوضى يضيع معها نظام المجتمع.
* الحريات في الإسلام بين الحق والضبط:
وفي مقابل المنظومة الغربية في الفكر والقيم نجد في الإسلام و (المجتمع الإسلامي) منظومة مختلفة تماماً: مختلفة في المرجعية والمنهجية، وفي الثوابت والمقدسات، وفي الغايات والأهداف، وحتى في الوسائل والأدوات القانونية والاقتصادية والسياسية لتحقيق هذه الغايات.
فمقابل (العقل المجرد) و (الحس التجريبي) نجد في الإسلام أن (الوحي) هو المرجعية الأولى للفكر والقيم، مع عدم إهمال أهمية المرجعية المعرفية للعقل والحس، ولكن وضعهما في إطارهما واستعمالهما في مجالاتهما.
ومقابل (العلمانية) نجد في الإسلام أن (الشريعة) وانتظام الدين مع الدنيا هو المنهجية التي يقوم عليها المجتمع.
ومقابل (الفردية) نجد في الإسلام المسؤولية المتبادلة بين الفرد والمجتمع والتآلف بينهما من غير جور أو تعدي أي منهما على الآخر (حقوق شخصية، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر)، وهو ما يؤكده حديث السفينة التي استهمها ركابها، وهذا المفهوم يرقى بحريتي الرأي والتعبير ـ وفق التصور الإسلامي ـ من مرتبة (الحق الشخصي) إلى مرتبة (المسؤولية الاجتماعية).
ومقابل (الحرية) و (المساواة) نجد في الإسلام أن (العبودية) لله رب العالمين و (العدل) بين البشر (ليس بالضرورة أن يكون العدل هو المساواة كما يفهمها بعض البشر) يتربعان على قمة الهرم القيمي في المجتمع الإسلامي، فهما أكبر (الثوابت) و (المقدسات) في المجتمع، وتحقيق هاتين القيمتين وعدم المساس بهما له الأولوية المطلقة التي ينبغي أن تخضع له أو تتقيد به أو تنتظم معه قيم المجتمع الأخرى بما فيها الحقوق والحريات.
وأعني بـ (العبودية) لله ـ عز وجل ـ: الخضوع والدينونة العامة له (سبحانه)، {وَمَا خَلَقْتُ الْـجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْـحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، وفي هذا الإطار نلاحظ أن تحقيق (العبودية) لله ـ عز وجل ـ يتناسب طردياً مع (التحرر) من المخلوقات؛ فكلما عظمت حقيقة العبودية لله ـ تعالى ـ وارتفعت في نفس المسلم، كلما ازداد تحرره من المخلوقين. كما نلاحظ أن هذا التحرر يكون داخلياً وخارجيّاً؛ فالعبودية لله ـ سبحانه ـ تجعل المسلم يتحرر حتى من سيطرة (الأشياء) والتعلق بها؛ «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أُعطي رضي وإن لم يُعْطَ لم يرضَ»(1). وتأمل موقف سلطان العلماء (العز بن عبد السلام) عندما أغلظ في القول جهراً مناصحة للملك الصالح نجم الدين أيوب، لما رأى الأمراء يقبِّلون الأرض بين يديه. يقول تلميذه الباجي: «سألت الشيخ لمَّا جاء من عند السلطان ـ وقد شاع هذا الخبر ـ: يا سيدي! كيف الحال؟ فقال: يا بني! رأيته في تلك العظمة فأردت أن أهينه؛ لئلا تكبر نفسه فتؤذيه، فقلت: يا سيدي! أما خِفتَه؟ فقال: والله! يا بني! استحضرتُ هيبة الله ـ تعالى ـ فصار السلطان قدامي كالقط».
أما (العدل) فإنه من أبرز خصائص هذه الأمة {وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15]، {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، والوسط هو العدل - كما جاء في تفسيرها-.
وضمن هذا الإطار تنتظم (الحقوق) و (الحريات) الشخصية، وليعذرني القارئ في استعراض بعض هذه الحقوق والحريات حسب شكل الإطار الغربي:
فـ (حق المعرفة) مكفول في الإسلام، ولكن تحت ظروف معينة جاز تضييقه بعض الشيء لأجل الارتقاء بمستوى (العبودية) والمحافظة عليها، كما في حديث معاذ عندما أخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن «ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرَّمه الله على النار»، فقال معاذ: «يا رسول الله! أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا؟»، قال: «إذن يتكلوا»(1)، وهو ما يسميه العلماء: جواز كتم العلم للمصلحة.
و (حرية العقيدة) في المجتمع الإسلامي مكفولة (في إطار) مراعاة الثابت الأعلى لهذا المجتمع (العبودية والدينونة لله عز وجل)، ومن هنا اتسع المجتمع الإسلامي لوجود التعدد الديني فيه، عندما قَبِلَ أن يتعايش فيه أفراد يعتنقون اليهودية والنصرانية - وقد يلحق بهما المجوس كما جاء في بعض الروايات، باعتبار أن لهم شبهة كتاب - وترك لهم حرية تنظيم شؤونهم الشخصية، بينما لم يتسع لغيرهما من الديانات الوثنية أو الإلحاد، وذلك باعتبار أن اليهودية والنصرانية ديانتان ذواتا أصل سماوي ويعلنان انتسابهما إلى مظلة تلك العبودية والدينونة في الجملة؛ فالقاعدة في ذلك: قبول المجتمع الإسلامي أن ينضوي تحت مظلته كل من يعلن قبوله لسلطان الله عليه في الجملة، ونبذه لكل من يعلن تمرده وخروجه على هذا السلطان.
ولكن الانحراف والتحريف الطارئ على تلكما الديانتين - والذي يتصادم مع حقيقة (ثابت) العبودية - يجعل دائرة (حرية التعبير) أضيق في حقهما من دائرة (حرية الاعتقاد)، فلا يحق لهما الدعوة - أو التبشير ـ بدينهما، ولا إظهار شعائر عباداتهما ـ المعبرة عن انحرافهما ـ خارج دائرة معتنقيهما. فخروج (حرية التعبير) عن هذه الدائرة يخرق نظام المجتمع ويهدم الثابت الأساس والمقدس الأول في الهرم القيمي للمجتمع. وهنا يضاف ـ في حق هؤلاء ـ إلى قبول سلطان الله: قبول شريعة الإسلام باعتبارهما المرجعية والنظام اللذين يقوم عليهما المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية.
ويتعلق بـ (حرية الاعتقاد) مسألة المرتد عن الإسلام: ففي حين أن الإسلام لا يعاقب من لم يدخل فيه ابتداء، كما أنه لا يُكره أحداً على اعتناقه والدخول فيه، {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، {وَقُلِ الْـحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]، كما لا يمنع ولا يعاقب من انتقل من دين إلى آخر أو من مذهب عقدي في هذه الأديان (التي تعيش في ظله) إلى آخر - وفي ذلك خلاف فقهي ضعيف -.. نجد أنه في الوقت نفسه يمنع و (يعاقب) من ينتقل منه إلى غيره، ولا ينفع في هذا المقام محاولات بعض المتكلفين إبراز آراء فقهية شاذة تنفي عقوبة القتل عن المرتد، بغية التطابق مع المفهوم الغربي لـ (حرية الاعتقاد) لأن التهديد والوعيد الأخروي الثابت في القرآن {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] يأبى إضفاء شرعية هذه الصفة (حرية الاعتقاد) لهذه الفعلة (الردة عن الإسلام) في المجتمع المسلم، وبحسب المفهوم الليبرالي الذي يتمحلون في موافقته؛ فإن ذلك الوعيد يعد ترهيباً معنويّاً لا يتفق مع الدعوة إلى حرية الاعتقاد.
ونستطيع فهم موقف الإسلام من المرتد عنه، في ضوء أن ذلك الانتقال عنه يعد طعناً في القيمة العليا والأساس التي يقوم عليها المجتمع، أو بعبارة أخرى: إنه يعد ذلك إعلاناً بالطعن في صحة هذا الدين، أو في عدم حاجة الإنسان إليه، وذلك غير مقبول في مجتمع يستمد شرعيته ومرجعيته بالأساس من اعتقاد صحة هذا الدين ومن الحاجة إليه.
ولا يقتصر (التضييق) على (حرية التعبير) على أهل الكتاب والمرتدين فقط، بل يشمل كل متطاول وطاعن في ثوابت المجتمع ومقدساته، سواء أكان منتسباً إلى الإسلام أم غير منتسب، بل إن ذلك الطعن من سمات (الإمامة في الكفر) كما في قوله ـ تعالى ـ: {وَإن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12]، وبالطبع فإن بعض المنتسبين إلى المنظومة الغربية قد يعدون الطعن في الدين (حرية إبداع) و (حرية رأي) و (حرية تعبير).
ولكننا نرى أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يعتدَّ بـ (إبداع) ولا (حرية تعبير) اليهودي كعب بن الأشرف عندما شن حملة إعلامية (شعرية) هجا فيها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وآذاه، كما لم يأبه القرآن الكريم ولا الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا مجتمع الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ بـ (حرية الرأي) عندما أبدى بعض المنافقين - في سياق التهكم والسخرية بدعوى التسلية واللعب - رأيهم في (قرَّاء) الصحابة (أي: فقهاؤهم وعُبَّادهم) بأنهم أرغب بطوناً وأكذب ألسنة وأجبن عند اللقاء(1)، وهو ما عده القرآن استهزاءً بالله وآياته ورسوله، استلزم أن يكون كفراً بعد إيمان لا يقبل فيه الاعتذار باللعب؛ فما بالنا بمن يهزأ صراحة ويعلن جديته في ذلك؟
وهنا نقطة يرددها كثيرون بدعوى أنها دليل على السماح بحرية الرأي المتضمن لنشر آراء كفرية في المجتمع الإسلامي... حيث يدعي بعض الكتاب أنه في مسألة مثل مسألة التعرض إلى الذات الإلهية وإنكار وجودها ابتداءً، نجد أن القرآن الكريم أورد وحفظ ما يصعب حصره من دعاوى غير المسلمين وآرائهم ومقولاتهم واتهاماتهم أياً كانوا في هذا الباب.
هذا الكلام وأمثاله يحمل في طياته خلطاً كبيراً بين مفهوم (حرية التعبير) الذي يستدلون له، ومفهوم (الحوار والجدل) الذي وردت في سياقه الآيات والآراء والمقولات التي أشاروا إليها. والحقيقة أن بين المفهومين فرقاً كبيراً؛ فحرية التعبير تقتضي ترك صاحب الرأي يعرض وجهة نظره وحججه بدون أي تعقيب أو تعليق مباشر، وقد لا يوجد تعقيب بالمرة، وهذا ما لم يحدث في القرآن ولا في غيره من المرجعيات الإسلامية؛ بينما الحوار والجدل عملية إلقاء حجة على حجة ورأي على رأي لإظهار الحق؛ ففي هذا المقام نلحظ أن إيراد القرآن لأقوال أهل الشرك والكفر لم يكن بقوة الحق الممنوح لهم (حرية التعبير)، بل كان بقوة الفعل الذي صدر منهم وأصبح واقعاً لا يمكن تجاهله، فأوردها في محاورات ومجادلات غاية في الدقة والأمانة والرقي، ونلحظ أيضاً أن (الحوار والمجادلة) بهذه الصورة يعد من أوسع الممارسات الفكرية في الحقل الإسلامي.
ورغم هذا (التضييق) على حرية الرأي وحرية التعبير (الرأي يكون سابقاً للتعبير عنه) إذا تصادم هذا الرأي أو التعبير مع ثوابت المجتمع ومقدساته وأخلَّ بنظام الهرم القيمي فيه.. نرى في الوقت نفسه تسامحاً ومرونة واتساعاً في (حرية الرأي) و (حرية التعبير) حتى لو صدر من غير المسلم - وحتى لو كان هذا الرأي خاطئاً ومخالفاً لما هو راسخ، بل لو كان يحمل شبهة التطاول الضمني - وذلك إذا كان مستظلاً بمظلة ثوابت المجتمع ومقدساته: فهذا يهودي آخر يتقاضى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مالاً فيجبذه من منكبه ويقول له: «إنكم يا بني عبد المطلب أصحاب مطل وإني بكم لعارف» ويرد الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما انتهر عمرُ اليهوديَّ، فيقول له: «يا عمر! أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج: أن تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي»(2)، وهذا رائد الخوارج يقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- - بعدما قسّم بعض مال في المؤلفة قلوبهم -: «يا رسول الله! اتق الله!» أو «يا رسول الله! اعدل!»(3)؛ ففي هذه المواقف آراء تحمل شبهة تطاول ضمني على شخص الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولكن هذا التطاول ليس على مقام النبوة والرسالة، ومن حق الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يعفو ويتنازل عن حقه الشخصي، وإن لم يكن من حق أمته التنازل عن هذا الحق. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن هذه الآراء كانت مستظلة بمظلة ثوابت المجتمع (العدل في الحالة الأولى، والعدل والعبودية لله ـ تعالى ـ في الحالة الثانية) ولذلك كان تذكير الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتصحيحه بأنه هو أول من يتمثل هذه الثوابت ويحميها: «ومن يعدل إن لم أعدل؟»، «أوَلست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟».
وتتسع هذه الحريات (حرية الرأي وحرية التعبير) كلما تأكد استظلالها بمظلة هذه الثوابت، حتى ولو أدت إلى (اختلاف) و (تنوع) و (تعدد)، وفي اختلاف الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ ومَنْ بعدهم من مدارس فقهية ومناهج كلامية ما يتعذر حصره في هذا الصدد.
وهنا نقطة جديرة بالذكر، وهي: أن التاريخ يشهد بأن مساحة (التنوع) و (حرية الرأي الآخر) و (حرية التعبير) كانت دائماً في أقصى مداها في ظل السيادة الثقافية والسياسية لأهل السنة والجماعة، بينما كانت هذه المساحة تتقلص دائماً - وأحياناً إلى حد الاختناق - مع تملك الفرق الأخرى لأزِمَّة الأمور، ومحنة خلق القرآن التي أراد فيها المعتزلة (أهل العقل) امتحان الأمة وحملها فرداً فرداً على اعتناق رأيها في هذه المسألة العقدية.. خير شاهد على ذلك.
وعلى النسق نفسه ينتظم حق تكوين الأحزاب والتكتلات؛ فمانعو الزكاة وأتباع مسيلمة الكذاب كوَّنوا تكتلات بناءً على (آراء) تبنوها، ولكن لما كانت هذه الآراء مصادمة لثوابت المجتمع ومقدساته لم يكن لها مكان في هذا المجتمع؛ فكان الصدام معها والقضاء عليها واستئصال آرائها، بخلاف الخوارج الذين تكتلوا على (رأي) أيضاً؛ فلم يقاتَلوا ابتداءً، بل لم يقاتلوا إلا عندما نابذوا الدولة الإسلامية بالقتال، فقوتلوا على جريمتهم السياسية وليس على آرائهم، واستمرت آراؤهم سيارة بعد ذلك في أتباع مذهبهم، يشملهم الانتساب إلى عموم الأمة بمصطلح (أهل القبلة)، وكذلك التكتلات الفكرية الأخرى، بل والتكتلات الاجتماعية كالقبائل، بل كالمهاجرين والأنصار، وهي تكتلات كانت مكونة تحت لواء (انتماء) وليس تحت راية (ولاء) الذي ظل دوماً معقوداً للقيم والمقدسات العليا في المجتمع الإسلامي.
فهل بعد ذلك يمكن القول إن الإسلام يدعو إلى الحريات والحقوق كما تدعو إليها الليبرالية، ويمكن الجمع بينهما بلا غضاضة؟.. أم أن إضافة الليبرالية إلى الإسلام ليست إضافة بيان أو ترادف، بل لإكمال نقص وسد خَلة في الإسلام؟
نبرئ إخواننا أن يكون ذلك قولهم..
هكذا يقيم الإسلاميون الفكر الغربي ورموزه ..
لا نستطيع فهم التيارات الفكرية في المنطقة العربية من دون الوعي بخطابها ومنهجها في رؤية المنتج الحضاري الغربي، وتقييم فكره العلمي والفلسفي. وقد تعددت هذه الرؤى وفقا للمرحلة التاريخية والمؤثر الديني والسياسي. ولا توجد صعوبة في تحديد شكل وأدبيات النظر للغرب عند كثير من التيارات والأحزاب القومية والليبرالية باستثناء التيار الاسلامي، لحضور العامل الديني الذي يحكم هذه الرؤية، فقد وجدت اختلافات بارزة على مدار أكثر من قرن، وتشكلت مدارس متعددة داخل التيار الاسلامي، تتفاوت نظرتها للمنتج الفكري الغربي، من التشدد الجامد إلى انفتاح كبير مقارب لرؤية التيارات القومية والليبرالية وغيرها.
ومع النجاح الجماهيري الذي حققته التيارات الاسلامية خلال العقود الماضية، فقد كان لهذا النمط انتشار واسع ومؤثر في رؤية الآخر، ولم تظهر دراسات مختصة لرصد وفهم طبيعة هذه الرؤية ومحدداتها الدينية والعقلية، وتأثير كل مرحلة تاريخية في القرن الماضي. وجدت مجموعة انطباعات متناثرة عبر مؤلفات تعرضت للظاهرة الاسلامية، تحتاج لشيء من التركيز والتدقيق العلمي، ولهذا كانت أهمية ما كتبه السيد ولد أباه في جريدة «الشرق الأوسط» عبر سلسلة من الانتقاءات لكتب هامة، للوعي بشيء من ملامح خطاب ورؤية سائدة لبعض أطياف التيار الاسلامي، وكان آخرها في الخميس الماضي تناوله لبعض ما طرحه محمد قطب.
إن تعرض باحث ومثقف عربي لمثل هذه الكتب والدراسات المنتشرة والمؤثرة على الخطاب الديني في أوساط التيارات الاسلامية ظاهرة نادرة في هذا المجال، في عرض نقد علمي وتصحيح لبعض المعلومات. قدم محمد جابر الانصاري شيئا من هذه الظاهرة النادرة عندما تعرض لكتابات الباحث في علم الاجتماع احمد ابراهيم خضر، في كتاب مساءلة الهزيمة، واستعراضه أيضا لبعض ما طرحه جمال سلطان. وتكمن أهمية هذه الرؤى أنها تأتي من شخصيات فكرية لها قيمتها العلمية، وليست متهمة بالصراع والصدام مع التيارات الاسلامية.
فالنقد الذي قدمته التيارات الاخرى للتيار الاسلامي يغلب عليه البحث عن نتائج هذا الخطاب ودوره في نشوء التطرف والعنف، أو اتهامه في تكريس التخلف الحضاري، وليس النظر في آليات رؤيته العلمية والدينية، وما كتبه السيد ولد اباه لا يخلو من بعض اشكاليات التعامل مع الخطابات الاسلامية، وفهم منظومتها ومنطقها الداخلي في ترتيب أولوياتها وفق المنظور الفقهي والدعوي المحكوم برؤى خاصة.
ومع أهمية ما قدمه من ملاحظات ذكية في كشف التناقض المنهجي، وعدم دقة الاستشهادات نتيجة الاعتماد على مراجع غير معتبرة في رؤية النظريات والمنتج الفلسفي الغربي، والتعرف على رموزه الفكرية المؤثرة، حيث نجح في كشف خطأ العديد من الاستدلالات الشهيرة في الخطاب الديني، في رؤية النظريات الغربية ورموزها الفلسفية. لكن كشف بعض الأخطاء المحددة ليست هي القضية، طالما أنه يمكن تقديم انتقاءات واستدلالات أكثر منهجية في تشويه الرموز الفلسفية ورموزها، فالبدائل كثيرة في اثبات مخالفة هؤلاء وإنتاجهم للمفاهيم الدينية.
إن من السهل التوسع في كشف خلل بعض التصورات الاسلامية نتيجة تناسخ الأمثلة غير الدقيقة في فهم الحضارة الغربية عبر الخطابات الاسلامية السائدة، لتشويه قيمة النظريات الغربية ورموزها الفكرية والعلمية، عن طريق اتهامهم بالإلحاد والبعد عن الدين أو الانطلاق من ارث تاريخي ديني، وبالذات حينما تكون الشخصية يهودية، واعتبار مجمل الفكر الغربي في الاقتصاد والاجتماع والسياسة مصادم للدين. وهذه التهم تتنوع وفقا للحاجة الأيديولوجية، وليست خاضعة للمساءلة العلمية في مدى صدقيتها طالما أنها تحقق هدف الدعوة الاسلامية في تحصين الشباب من التأثر بالغرب، ولهذا يستشهد الكتاب والخطباء في وجود حقيقة البعد الديني وتمسك الغربيين بيهوديتهم أو مسيحيتهم، حينما يراد استنهاض الروح والغيرة الدينية عند المسلم، فكما أن الآخرين يعملون لدينهم ويحافظون عليه، فلماذا لا تفعل مثلهم. ويتم استحضار البعد المادي والإلحادي والأمثلة حولها حينما يأتي الحديث عن عيوب الحضارة المعاصرة وخوائها الروحي نتيجة البعد عن الأديان، فالهم التبشيري يمتص مثل هذه التناقضات التي تبدو غير مفهومة للبعض.
إن عدم دقة هذه الاستدلالات وانتقائيتها في اثبات البعد الديني والإلحادي في الفكر الغربي المعاصر منذ أكثر من ثلاثة قرون، لا يعني في الحقيقة عدم وجود بعض مظاهرها في الواقع، ولهذا كان الاشكال الذي يقع فيه الكثير من المفكرين العرب هو حضور البعد التبشيري والوعظي، منظور معاكس كمحاولة لتقديم وجه مشرق لهذه الفلسفات وفق مقاييس الرؤية الشرقية وقيمهم المحافظة، والزعم أنها لا تناقض المفاهيم الدينية، ومحاولة تلميع الشخصيات الفلسفية لتقريبها من الذهنية الشرقية. تعدد أوجه هذا المسار ومحاولاته في طرح عدة مفكرين عرب، ولم يخل طرح السيد ولد أباه من بعض هذه الاشكالية وإن كان طرحه أكثر منهجية وعلمية من غيره في هذه الكتابة، فخطأ استشهادات الخطاب الاسلامي في رؤية الحداثة وما بعدها لا يعني طهرانيتها الروحية، وعدم مصادمتها للعقلية الدينية في ثوابت كثيرة. فالتنوير الحقيقي لا يأتي من محاولة طرف التشويه المبالغ فيه وآخر التلميع لها بدعوى أنها لا تصادم المفاهيم الدينية.
من المعلوم عند المختصين أن هناك إشكاليات كبرى في التعامل مع مجمل الأفكار والنظريات الفلسفية القديمة والمعاصرة عند استحضار البعد الديني، وليس هذا مكان تناولها، والواقع أن الذين يطلقون مثل هذه الدعاوى التلفيقية، إما أن لديهم اشكالا في ادراك المفهوم الديني، أو خللا في تصور المفاهيم الفلسفية.
وهذا لا يعني عدم امكانية التوافق في كثير من الأسس والمفاهيم، لكن استحضار اختلاف المنطق الديني عن المنطق الفلسفي لا يمكن تجاهله، أما محاولة البحث في مدى تدين أو الحاد رموز النظريات الفلسفية من أجل اسقاط قيمتهم العلمية أو تلميعها فيدخل في خانة بعيدة عن الهموم المعرفية، ولا قيمة لها في تحديد الصواب العلمي حتى لو قال به الشيطان. ليست هناك حاجة لإنكار وجود الانحرافات الدينية والسلوكية عند رموز فلسفية كبرى، أو انكار خطورتها في تفكيك بنية العقلية الدينية السائدة من أجل ابعاد هاجس الخوف والريبة عند المحافظين، والاتجاه في هذا المسار، مهما حسنت النيات، خطأ تنويري كبير، وترسيخ في اللاوعي العام والشعبي لمعايير بعيدة عن الصلابة العلمية المفترضة في أية أطروحات تنويرية. هذا العزل ضروري للفكرة العلمية والدينية للمحافظة على قيمة كل مجال، جاك دريدا فيلسوف مثير للجدل نشر له حوار أخيرا قبل وفاته في مجلة كتابات معاصرة العدد (56) 2005، اجراه ف. جسبير نقلا عن مجلة لوبوان الاسبوعية الفرنسية، حينما سئل هل تؤمن بالله في كل وقت أو في أوقات متقطعة ؟ قال: إن في داخله يوجد على الأرجح طفل مازال يؤمن بالله، لكن ذلك ليس شأن الفيلسوف الكهل.
فهل سيؤثر رأيه هنا على الذهنية المتدينة في التعامل مع انتاجه وأطروحاته كأبرز فيلسوف معاصر في تحديد قيمة أفكاره في هذا العالم، ولو أجاب بعكس ذلك هل ستتغير قيمة هذا الانتاج، لهذا تبدو اشكالية هذه النظرة في اشغال العقلية العربية والإسلامية في معايير غير معرفية تتعدد بتعدد الرؤى والأفكار، وفقا لقيم ومعايير مذاهب وتيارات مختلفة.
إن غرس الاحترام العلمي للأفكار الفلسفية ورموزها مهما كانت انتماءاتهم، وبغض النظر عن الاتفاق معها أو مخالفتها، لن يكون بمثل هذه التوفيقية الضعيفة، أما الاحترام الديني فله معايير أخرى لها قيمتها في انشاء تصورات قيمية خاصة لكل فرد وفقا لمذهبه وعقيدته. وللأسف أن هشاشة التصورات العلمية المبكرة في الثقافة العربية المعاصرة عند التيارات الاسلامية وغيرها، أدت لخلط لم تنج من اثاره السلبية المعايير المعرفية ولا القيم الدينية. ولهذا تظهر انتكاسات ثقافية مختلفة بين وقت وآخر، نتيجة التحولات في الاتجاه الايديولوجي أو التطور الفكري، حتى في داخل الاتجاه الفكري ذاته يتراجع البعض عن مظهر علمي جيد قام به، فمحمد قطب مثلا في كتابة الانسان بين المادية والإسلام في مقدمة الطبعة الرابعة، ندم على احترامه العلمي المبكر لهذا الفكر فيقول: «إنه أعطى فرويد والتفكير الغربي عامة أكثر مما ينبغي من «التوقير العلمي»، وأن هذا التفكير الغربي بما فيه فرويد بالذات لا يستحق كل هذا التوقير..».
في مسألة أسلمة المعرفة قدم السيد ولد أباه بعض الاشارات ليست دقيقة، ونتركها حتى يستكمل ما وعد هو في عرضه في هذا الشأن.
التعليــقــــات
عقيل علي، «كندا»، 13/06/2005
أتفق مع الأستاذ بأن اسلوب محمد قطب وسفر الحوالي في نقد الفكر الغربي أتبع مغالطة منطقية تسمى Ad Hominem وهي بدلا من انتقاد الفكرة يتم انتقاد صاحب الفكرة. على كل حال لا يمكن التعويل على نقد محمد قطب أو غيره على أنه رأي جميع الإسلاميين في الموروث الفلسفي الغربي لأن هناك فلاسفة اسلاميين معاصرين أبدعوا في مجال قراءة الفكر الفلسفي الغربي ونقده وخاصة محمد إقبال لاهوري في كتابه إعادة بناء الفكر الديني في الإسلام و المفكر الإيراني علي شريعتي في كتبه الشهيرة كنقد الذات والفيلسوف الإيراني مرتضى مطهري في كتابه أصول الفلسفة وأخيرا الفيلسوف العراقي محمد باقر الصدر في كتابه الأسس المنطقية للإستقراء وفلسفتنا وإقتصادنا. هؤلاء الفلاسفة يمثلون أصحاب النظرة الموضوعية الإسلامية للفكر الغربي وتقييمه.
محسن محمد مهدي دومة، «المملكة العربية السعودية»، 13/06/2005
اتفق مع الكاتب قلبا وقالبا مع كل ما قاله في توصيفاته في مقاله وتفنيده للحركات الأصولية. لكني أختلف معه حول توصيفهم بالإسلاميين، واعتراضي ليس عليه فقط ولكن على كل من يصف ويطلق عليهم مصطلح إسلاميين فهذا التوصيف يسهل على الغرب أن يشمل به كل المسلمين دون استثناء. ألسنا مسلمون أيضا؟
هذه المقالة للكاتب عبد العزيز الخضر بالشرق الاوسط الدولية بتاريخ الاثنين 13/يونيو 2005
ومع النجاح الجماهيري الذي حققته التيارات الاسلامية خلال العقود الماضية، فقد كان لهذا النمط انتشار واسع ومؤثر في رؤية الآخر، ولم تظهر دراسات مختصة لرصد وفهم طبيعة هذه الرؤية ومحدداتها الدينية والعقلية، وتأثير كل مرحلة تاريخية في القرن الماضي. وجدت مجموعة انطباعات متناثرة عبر مؤلفات تعرضت للظاهرة الاسلامية، تحتاج لشيء من التركيز والتدقيق العلمي، ولهذا كانت أهمية ما كتبه السيد ولد أباه في جريدة «الشرق الأوسط» عبر سلسلة من الانتقاءات لكتب هامة، للوعي بشيء من ملامح خطاب ورؤية سائدة لبعض أطياف التيار الاسلامي، وكان آخرها في الخميس الماضي تناوله لبعض ما طرحه محمد قطب.
إن تعرض باحث ومثقف عربي لمثل هذه الكتب والدراسات المنتشرة والمؤثرة على الخطاب الديني في أوساط التيارات الاسلامية ظاهرة نادرة في هذا المجال، في عرض نقد علمي وتصحيح لبعض المعلومات. قدم محمد جابر الانصاري شيئا من هذه الظاهرة النادرة عندما تعرض لكتابات الباحث في علم الاجتماع احمد ابراهيم خضر، في كتاب مساءلة الهزيمة، واستعراضه أيضا لبعض ما طرحه جمال سلطان. وتكمن أهمية هذه الرؤى أنها تأتي من شخصيات فكرية لها قيمتها العلمية، وليست متهمة بالصراع والصدام مع التيارات الاسلامية.
فالنقد الذي قدمته التيارات الاخرى للتيار الاسلامي يغلب عليه البحث عن نتائج هذا الخطاب ودوره في نشوء التطرف والعنف، أو اتهامه في تكريس التخلف الحضاري، وليس النظر في آليات رؤيته العلمية والدينية، وما كتبه السيد ولد اباه لا يخلو من بعض اشكاليات التعامل مع الخطابات الاسلامية، وفهم منظومتها ومنطقها الداخلي في ترتيب أولوياتها وفق المنظور الفقهي والدعوي المحكوم برؤى خاصة.
ومع أهمية ما قدمه من ملاحظات ذكية في كشف التناقض المنهجي، وعدم دقة الاستشهادات نتيجة الاعتماد على مراجع غير معتبرة في رؤية النظريات والمنتج الفلسفي الغربي، والتعرف على رموزه الفكرية المؤثرة، حيث نجح في كشف خطأ العديد من الاستدلالات الشهيرة في الخطاب الديني، في رؤية النظريات الغربية ورموزها الفلسفية. لكن كشف بعض الأخطاء المحددة ليست هي القضية، طالما أنه يمكن تقديم انتقاءات واستدلالات أكثر منهجية في تشويه الرموز الفلسفية ورموزها، فالبدائل كثيرة في اثبات مخالفة هؤلاء وإنتاجهم للمفاهيم الدينية.
إن من السهل التوسع في كشف خلل بعض التصورات الاسلامية نتيجة تناسخ الأمثلة غير الدقيقة في فهم الحضارة الغربية عبر الخطابات الاسلامية السائدة، لتشويه قيمة النظريات الغربية ورموزها الفكرية والعلمية، عن طريق اتهامهم بالإلحاد والبعد عن الدين أو الانطلاق من ارث تاريخي ديني، وبالذات حينما تكون الشخصية يهودية، واعتبار مجمل الفكر الغربي في الاقتصاد والاجتماع والسياسة مصادم للدين. وهذه التهم تتنوع وفقا للحاجة الأيديولوجية، وليست خاضعة للمساءلة العلمية في مدى صدقيتها طالما أنها تحقق هدف الدعوة الاسلامية في تحصين الشباب من التأثر بالغرب، ولهذا يستشهد الكتاب والخطباء في وجود حقيقة البعد الديني وتمسك الغربيين بيهوديتهم أو مسيحيتهم، حينما يراد استنهاض الروح والغيرة الدينية عند المسلم، فكما أن الآخرين يعملون لدينهم ويحافظون عليه، فلماذا لا تفعل مثلهم. ويتم استحضار البعد المادي والإلحادي والأمثلة حولها حينما يأتي الحديث عن عيوب الحضارة المعاصرة وخوائها الروحي نتيجة البعد عن الأديان، فالهم التبشيري يمتص مثل هذه التناقضات التي تبدو غير مفهومة للبعض.
إن عدم دقة هذه الاستدلالات وانتقائيتها في اثبات البعد الديني والإلحادي في الفكر الغربي المعاصر منذ أكثر من ثلاثة قرون، لا يعني في الحقيقة عدم وجود بعض مظاهرها في الواقع، ولهذا كان الاشكال الذي يقع فيه الكثير من المفكرين العرب هو حضور البعد التبشيري والوعظي، منظور معاكس كمحاولة لتقديم وجه مشرق لهذه الفلسفات وفق مقاييس الرؤية الشرقية وقيمهم المحافظة، والزعم أنها لا تناقض المفاهيم الدينية، ومحاولة تلميع الشخصيات الفلسفية لتقريبها من الذهنية الشرقية. تعدد أوجه هذا المسار ومحاولاته في طرح عدة مفكرين عرب، ولم يخل طرح السيد ولد أباه من بعض هذه الاشكالية وإن كان طرحه أكثر منهجية وعلمية من غيره في هذه الكتابة، فخطأ استشهادات الخطاب الاسلامي في رؤية الحداثة وما بعدها لا يعني طهرانيتها الروحية، وعدم مصادمتها للعقلية الدينية في ثوابت كثيرة. فالتنوير الحقيقي لا يأتي من محاولة طرف التشويه المبالغ فيه وآخر التلميع لها بدعوى أنها لا تصادم المفاهيم الدينية.
من المعلوم عند المختصين أن هناك إشكاليات كبرى في التعامل مع مجمل الأفكار والنظريات الفلسفية القديمة والمعاصرة عند استحضار البعد الديني، وليس هذا مكان تناولها، والواقع أن الذين يطلقون مثل هذه الدعاوى التلفيقية، إما أن لديهم اشكالا في ادراك المفهوم الديني، أو خللا في تصور المفاهيم الفلسفية.
وهذا لا يعني عدم امكانية التوافق في كثير من الأسس والمفاهيم، لكن استحضار اختلاف المنطق الديني عن المنطق الفلسفي لا يمكن تجاهله، أما محاولة البحث في مدى تدين أو الحاد رموز النظريات الفلسفية من أجل اسقاط قيمتهم العلمية أو تلميعها فيدخل في خانة بعيدة عن الهموم المعرفية، ولا قيمة لها في تحديد الصواب العلمي حتى لو قال به الشيطان. ليست هناك حاجة لإنكار وجود الانحرافات الدينية والسلوكية عند رموز فلسفية كبرى، أو انكار خطورتها في تفكيك بنية العقلية الدينية السائدة من أجل ابعاد هاجس الخوف والريبة عند المحافظين، والاتجاه في هذا المسار، مهما حسنت النيات، خطأ تنويري كبير، وترسيخ في اللاوعي العام والشعبي لمعايير بعيدة عن الصلابة العلمية المفترضة في أية أطروحات تنويرية. هذا العزل ضروري للفكرة العلمية والدينية للمحافظة على قيمة كل مجال، جاك دريدا فيلسوف مثير للجدل نشر له حوار أخيرا قبل وفاته في مجلة كتابات معاصرة العدد (56) 2005، اجراه ف. جسبير نقلا عن مجلة لوبوان الاسبوعية الفرنسية، حينما سئل هل تؤمن بالله في كل وقت أو في أوقات متقطعة ؟ قال: إن في داخله يوجد على الأرجح طفل مازال يؤمن بالله، لكن ذلك ليس شأن الفيلسوف الكهل.
فهل سيؤثر رأيه هنا على الذهنية المتدينة في التعامل مع انتاجه وأطروحاته كأبرز فيلسوف معاصر في تحديد قيمة أفكاره في هذا العالم، ولو أجاب بعكس ذلك هل ستتغير قيمة هذا الانتاج، لهذا تبدو اشكالية هذه النظرة في اشغال العقلية العربية والإسلامية في معايير غير معرفية تتعدد بتعدد الرؤى والأفكار، وفقا لقيم ومعايير مذاهب وتيارات مختلفة.
إن غرس الاحترام العلمي للأفكار الفلسفية ورموزها مهما كانت انتماءاتهم، وبغض النظر عن الاتفاق معها أو مخالفتها، لن يكون بمثل هذه التوفيقية الضعيفة، أما الاحترام الديني فله معايير أخرى لها قيمتها في انشاء تصورات قيمية خاصة لكل فرد وفقا لمذهبه وعقيدته. وللأسف أن هشاشة التصورات العلمية المبكرة في الثقافة العربية المعاصرة عند التيارات الاسلامية وغيرها، أدت لخلط لم تنج من اثاره السلبية المعايير المعرفية ولا القيم الدينية. ولهذا تظهر انتكاسات ثقافية مختلفة بين وقت وآخر، نتيجة التحولات في الاتجاه الايديولوجي أو التطور الفكري، حتى في داخل الاتجاه الفكري ذاته يتراجع البعض عن مظهر علمي جيد قام به، فمحمد قطب مثلا في كتابة الانسان بين المادية والإسلام في مقدمة الطبعة الرابعة، ندم على احترامه العلمي المبكر لهذا الفكر فيقول: «إنه أعطى فرويد والتفكير الغربي عامة أكثر مما ينبغي من «التوقير العلمي»، وأن هذا التفكير الغربي بما فيه فرويد بالذات لا يستحق كل هذا التوقير..».
في مسألة أسلمة المعرفة قدم السيد ولد أباه بعض الاشارات ليست دقيقة، ونتركها حتى يستكمل ما وعد هو في عرضه في هذا الشأن.
التعليــقــــات
عقيل علي، «كندا»، 13/06/2005
أتفق مع الأستاذ بأن اسلوب محمد قطب وسفر الحوالي في نقد الفكر الغربي أتبع مغالطة منطقية تسمى Ad Hominem وهي بدلا من انتقاد الفكرة يتم انتقاد صاحب الفكرة. على كل حال لا يمكن التعويل على نقد محمد قطب أو غيره على أنه رأي جميع الإسلاميين في الموروث الفلسفي الغربي لأن هناك فلاسفة اسلاميين معاصرين أبدعوا في مجال قراءة الفكر الفلسفي الغربي ونقده وخاصة محمد إقبال لاهوري في كتابه إعادة بناء الفكر الديني في الإسلام و المفكر الإيراني علي شريعتي في كتبه الشهيرة كنقد الذات والفيلسوف الإيراني مرتضى مطهري في كتابه أصول الفلسفة وأخيرا الفيلسوف العراقي محمد باقر الصدر في كتابه الأسس المنطقية للإستقراء وفلسفتنا وإقتصادنا. هؤلاء الفلاسفة يمثلون أصحاب النظرة الموضوعية الإسلامية للفكر الغربي وتقييمه.
محسن محمد مهدي دومة، «المملكة العربية السعودية»، 13/06/2005
اتفق مع الكاتب قلبا وقالبا مع كل ما قاله في توصيفاته في مقاله وتفنيده للحركات الأصولية. لكني أختلف معه حول توصيفهم بالإسلاميين، واعتراضي ليس عليه فقط ولكن على كل من يصف ويطلق عليهم مصطلح إسلاميين فهذا التوصيف يسهل على الغرب أن يشمل به كل المسلمين دون استثناء. ألسنا مسلمون أيضا؟
هذه المقالة للكاتب عبد العزيز الخضر بالشرق الاوسط الدولية بتاريخ الاثنين 13/يونيو 2005
العولمة بين المنظور الغربي والإسلامي
عرض : امحمد برادة غزيول
يحظى موضوع العولمة باهتمام كبير على المستوى الأكاديمي، ومن طرف أجهزة الإعلام والرأي العام ومختلف التيارات السياسية والمحافل الدولية والهيئات والمنظمات الرسمية، على اختلاف تخصصاتها ومشاربها وطنيا ودوليا، فلا يخلو لقاء ثقافي اقتصادي، أو علمي أو سياسي أو اجتماعي من الحديث عن العولمة أو الكونية أو الأمركة، بمناسبة أو بدونها، وذلك من اجل تدعيم طرح ما، أو دحض فكرة، أو تبرير أو تفسير قرار صعب ويتجلى ذلك من خلال عدد اللقاءات التي طرحت فيها فكرة العولمة، فقد نشرت العديد من الأبحاث في الأدبيات التي تتحدث عن هذا الموضوع لدرجة أن جريدة Le monde نشرت خلال شهر فبراير 97، ملحقا خاصا عن العولمة، وأطلقت على سنة 1997 عام العولمة.
ولعل هذه العناية من طرف الباحثين والمهتمين بهذا الموضوع يرجع لخطاب العولمة الملتبس، الذي يحاول من جهة جعل سكان الكون المتنامي الأطراف والمتعدد الهويات واللغات والأديان والثقافة، ينصهرون في قالب واحد تنمحي معه كل الفوارق، بحيث يصبح سكان هذا الكون ا شبه بسكان القرية الكونية، في حين أثبتت الممارسة من جهة أخرى، أن هناك تباينا بين خطاب العولمة وواقع الأمر، وهو ما أدى الى تضارب آراء الباحثين والمهتمين، بين مطالب بالأخذ بها والانفتاح عليها والتفاعل معها، باعتبارها الوسيلة الوحيدة لمواكبة قاطرة التقدم. وبين معارضين لها منادين بالقطيعة التامة معها اعتمادا على ما أفرزته من تناقض بين الخطاب والواقع المعاش.
وانبرى فريق ثالث نادى بالأخذ بالعولمة مع الحذر التام، لكونها قدر لا مرد له. ووقف العلماء المسلمون يتأملون هذه الظاهرة ولم تتناولها الأدبيات الإسلامية بما تستحقه من عناية رغم وجود كل الدلائل على أن الإسلام كدين وكفكر وتوجه يحمل ما ينبغي أن يكون عليه العالم وما ننتظره جميعا من العولمة في حقيقتها.
وهكذا سنتناول في هذه الدراسة تعريف العولمة وعومل تعميقها كمدخل عام، ثم سنقسم الموضوع الى قسمين:
القسم الأول : سنتناول فيه المنظور الغربي للعولمة حيث سنتعرف على مواقف كل من المتحمسين لها والمعارضين لها والمعتدلين الذين ينادون بالأخذ منها بحذر.
أما القسم الثاني من هذه الدراسة فسنخصصه للمنظور الإسلامي للعولمة على ضوء ما جاء به القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.
تعريف العولمة:
لم يستطع أي واحد من رجال السياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع الخ... وضع تعريف واضح لمصطلح العولمة نظرا لكونها تهم كل المجالات الحياتية الشيء الذي يطرح صعوبة في تعريفها.
وهكذا فقد عرفها معجم sاwiber بأنها اكتساب الشيء طابع العالمية وبخاصة جعل نطاق الشيء أو تطبيقه عالميا) 1. وهذا التعريف الذي أورده هذا المعجم يعتبر بعيدا كل البعد عن دلالة اللفظ والمقصود منه اعتمادا على ما هو متعارف عليها اليوم.
أما تعريفها اقتصاديا فيعني "استقطاب النشاط السياسي والاقتصادي في العالم حول إرادة مركز واحد من مراكز القوة في العالم " .
وعلى مستوى الترجمة فإن مصطلح“ La globalisation “ الإنجليزية و“La mondialisation” الفرنسية تمت ترجمتها الى العولمة. وترجمها البعض الآخر بالكونية أو الكوكبة. إلا أن مصطلح العولمة هو الراجع في الاستعمال.
ويثير مصطلح العولمة أو الكونية على غرار مجموعة من المصطلحات التي أصبحت متداولة الكثير من التساؤلات والإشكاليات بين الباحثين والمهتمين على اعتبار أن مفهوم العولمة ما زال مفهوما هشاملا في أغلب المجالات التي وظف فيها هذا المصطلح، ( لأنها مجرد إرادة تتجه للتحقيق الفعلي أو أفق قادم حتى يتبلور بوثيرة سريعة ومطالبة ملحة بهذا التحقيق، وليس فعلا حاصلا) فهي بذلك مجرد مشروع لم يكتمل بعد بنيانه، وهو ما قد يشكل خلطا لدى بعض المتعاملين مع هذا المصطلح وجعل ( بعض النقاد والمبدعين المحللين الاجتماعيين يذهبون مذاهب مختلفة في فهمها وتعريفها وتفسيرها ولذلك تأتي أحكامهم أحيانا غامضة ومتباعدة بسبب غموض منطلقاتهم واختلاف هذه المنطلقات حتى أصبح الباحثون في هذا الموضوع والمتحدثون عنه يتساءلون هل من الأفضل أن تترك هذه الألفاظ والمصطلحات وأمثالها تحديد ربما لأنها بطبيعتها غير قابلة للتحديد> وأن يتحدث عن بعض مظاهرها ونتائجها وعلاقاتها بغيرها اعتمادا على وجود قدر مشترك من الفهم بين المتحدثين عن هذه الألفاظ والمصطلحات يتيح توصيل الآراء والتحليلات إلى الآخرين مهما اختلفوا في التفصيلات والفروع)2.
ومن بين التعاريف التي أعطيت للعولمة أو الكونية ما قاله عنها “MARTIN WALTER” من أنها عملية اجتماعية تتوارى فيها القيود والحواجز الجغرافية والأوضاع الثقافية والاجتماعية وبالتالي فإن الظاهرة لن تحدث بصورة مطلقة مرة واحدة ولكن سوف يتدرج حدوثها من المشاكل التي أخذت صفة العالمية).
يعرفها محمد عابد الجابري بأنها ( ما بعد الاستعمار، باعتبار أن آل-ما بعد - في مثل هذه التعابير لا يعني القطيعة مع آل-ما قبل- بل يعني الاستمرار فيه بصورة جديدة ) 3.
كما يعرفها أيضا نفس الباحث المغربي بأنها ( ليست مجرد آلية من آليات التطور الرأسمالي بل هي أيضا وبالدرجة الأولى إيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم)4.
ويعتبرها صادق جلال العظم بأنها ( حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ )5.
أما الباحث "على حرب" فيرى أننا ( إزاء حدث هو من الغنى والكثافة والتعقيد ما يجعله ينفتح على غير معنى واتجاه، ويفتح غير مكان ومجال، بقدر ما يطلق قوى اجتماعية جديدة أو يتيح انبثاق تشكيلات ثقافية مغايرة. والواقع أن من يتابع ما يكتب أو يقال حول العولمة سواء في الصحافة أو في الندوات الفكرية، يجد تعارضا في المواقف هو تجسيد للاختلاف في القراءة والتشخيص)6.
وقد حاول الدكتور محمد عابد الجابري وضع مقاربة للعولمة معتبرا بأنها ( نظام أو نسق ذو أبعاد تتجاوز دائرة الاقتصاد وأنها نظام عالمي يشمل المال والتسويق والمبادلات والاتصال كما يشمل أيضا مجال السياسة والفكر والإيديولوجيا)7.
أما الدكتور صبري إسماعيل فيرى ( أن العولمة ظاهرة تتداخل فيها أمور الاقتصاد والسياسة والثقافة والاجتماع والسلوك يكون الانتماء فيها للعالم كله عبر الحدود السياسية الدولية وتحدث فيها تحولات على مختلف الصعد تؤثر على حياة الإنسان في كوكب الأرض أينما كان. ويسهم في صنع هذه التحولات ظهور فعاليات جديدة هي الشركات متعددة الجنسيات “s’tnc” التي تتسم بالضخامة وتنوع الأنشطة والانتشار الجغرافي والاعتماد على المدخرات العالمية وتعبئة الكفاءات من مختلف الجنسيات وتبرز بفعل هذه التحولات قضايا لها صفة " العالمية " مثل قضية الممتلكات العامة البشرية من بحار وفضاء وقارة قطبية جنوبية وقضية صيانة البيئة وتحركات سكان الأرض وقضية الفقر في العالم وقضية الجريمة المنظمة كما تثور تساؤلات لها صفة العالمية حول دور الدولة في ظل هذه التحولات ودور الجماعات الأهلية في أوطانها ودور المنظمات الأهلية متعددة الجنسيات التي قامت مؤخرا في إطار العولمة في الغرب خاصة فضلا عن دور منظمة الأمم المتحدة والمنظمات المتخصصة المنبثقة عنها) 8.
والحقيقة أن كل التعاريف التي أعطيت للعولمة تعتبر صالحة لان كل واحد منها يلامس الواقع في أحد جوانبه لأنها واقعة مركبة ومعقدة وتنطبق عليها كل المواصفات التي أشرنا إليها سابقا .
وهكذا يتجلى أن العولمة هي مولود جديد جاء نتيجة تلاحق ظاهرتين اثنتين سبقتها: ظاهرة التدويل " internationalisation " وظاهرة تعدد الجنسيات "mutinationalisation " وفي هذا السياق يرى Perla, R بان ( العولمة هي مجموع المراحل التي تمكن من إنتاج وتوزيع واستهلاك السلع والخدمات:
- لفائدة أسواق عالمية " أو ستنظم " وفق مقاييس ومعايير عالمية من طرف منظمات ولدت أو تعمل على أساس قواعد عالمية بثقافة تنظيم منفتحة على العالم وتخضع لاستراتيجية عالمية من الصعب تحديد فضائها " القانوني والاقتصادي والتكنولوجي " بحكم تعدد ترابطات وتدخلات عناصرها في مختلف العمليات "الإنتاجية" قبل الإنتاج وحتى بعده)9.
- ومواكبة لهذه العولمة الاقتصادية والمؤسسات الإنتاجية عرف العالم عولمة الرموز والمؤسسات التي تنتج هذه ألا لآت في مجال الإعلاميات والاتصالات السمعية البصرية حيث أصبح ( إرسال المعطيات بسرعة الضوء 300000 كيلومتر في الساعة ورقمنه النصوص والصورة والصوت والالتجاء لأقمار الاتصالات وثورة الهاتف وتعميم المعلوميات في قطاعات إنتاج السلع والخدمات وتصغير الحواسب وربطها داخل شبكات قد مكنت من خلق انقلاب في نظام العالم)10.
- فعولمة راس المال كما يقول "ريكاروبتريلا" (سارعت وتيرة تدويل الاستثمارات والقطاع الإنتاجي موازاة مع تداخل التيارات التجارية عبر الجهات العالمية الكبرى وقد مكن هذا التداخل بدوره -عبر التنمية الخارجية- من تحفيز عولمة المؤسسات والاستراتيجيات والأسواق من استثمارات مباشرة بالخارج ونقل الصناعات وتحالفات واختصاصات الخ...وهكذا فكل مجموعة صناعية ومالية مهمة تتبع استراتيجية في كل جهات العالم وخصوصا بأمريكا الشمالية وأوربا الغربية وشرق وكذا جنوب شرق آسيا)11.
- ويقاسم نفس الرأي الصحفي المغربي يحيى اليحياوي عندما اعتبر (الغازين الجدد " ذوو قدرات مالية هائلة يتصرفون بفضلها في تخصيص وتوزيع الموارد العالمية يحددون القيم والرهانات والأولويات " ويفبركون " على مزاجهم قواعد اللعبة: " أسياد العالم هم اليوم قلة تتمثل في بضعة مئات أشخاص رؤساء وأعضاء لجن تسيير لمؤسسات قليلة العدد تعمل في ميادين الإلكترونيات والمعلوميات والاتصالات والبرامج والسمعي-البصري والصحافة والنشر والتوزيع ربعهم متمركز في اروبا ومثيل له في آسيا والباقي في أمريكا. وعلى اعتبار التحالفات التي يبرمونها بينهم يمكن القول أن عشرة شبكات عالمية متداخلة وضخمة فقط هي التي تسير الاقتصاد وترسم معالمه المستقبلية على أساس أنه قليلة هي المؤسسات التي تستطيع لوحدها فرض منطقها وسلطتها على السوق العالمي بل حتى مفهوم الأقطاب لم يعد ذو قوة تفسيرية ذات بال فقد انصرف عنه لصالح مصطلح شبكات التحالفات المتعددة الأقطاب لم يعد السوق العالمي في ظل العولمة مجرد فضاء مادي تتم من خلاله العمليات التجارية والمالية كما عهدناه في مرحلتي التدويل وتعدد الجنسية بل أصبح ملتقى إعلاميا كوكبيا يتم في إطاره تبادل المعطيات والتحكيمات المالية على حساب الاقتصاد الواقعي أو المادي " réelle économie ". وخرجت من صلبه مافيا نشيطة ذات خبرة واسعة في مجال المضاربات المالية (وحتى العقارية) واندرجت مفاهيم المنافسة الحرة وقيم الشفافية لصالح الممارسات الاحتكارية وثقافة الارتشاء والتهرب من الضرائب. والعولمة التي صنعتها وكرستها وسايرتها تكنولوجيا الإعلام والاتصال( من بين عوامل أخرى) لم تسحب السجاد من تحت إقدام مفاهيم القومية ( بمعنى القطرية) والسوق الوطني والحدود الجغرافية فحسب بل سحبته أيضا من تحت أقدام الدولة ( أو الدولة/الأمة) بتشريعاتها ومعاييرها ونظم تسييرها فتحولت الدولة الى مجرد متفرج على قرارات تتخذ داخلها من طرف شبكات المال والأعمال العالمية النشاط فأفرغت بذلك من دورها كفاعل رئيسي في عملية تحديد السياسة الاقتصادية وحتى من سلطتها الجبائية على الموارد " المارة " عبر كيانها الجغرافي)12.
ومن خلال التعريفات التي سقناها يتضح أن العولمة واقع يتميز بتزايد الارتباط والاعتماد المتبادل بين المجتمعات البشرية في المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية والإعلامية وغيرها من المجالات ساهمت في ترسيخها كتوجه عالمي الثورة التكنولوجيا في مجال المعلومات والتواصل التي منحت للبشرية فرصا وفوائد كبيرة لكنها في نفس الوقت تتضمن أخطارا لا يستهان بها خصوصا إذا لم يتم التعامل معها بحذر.
لقد دق الأمين العام السابق للأمم المتحدة ناقوس الخطر في إحدى محاضراته معلنا " أننا نعيش في غمرة ثورة شملت المعمورة بأجمعه مضيفا بأن كوكبنا يخضع لضغط تفرزه قوتان عظيمتان متضادتان/ انهما العولمة والتفكك ".
والوقع الذي ينبغي أن نومن به هو أن ( العولمة أصبحت ظاهرة معاشة تعبر عن تكتل العالم وتثير أخطر قضايا الساعة كالتشغيل وحدة المسالة الاجتماعية وبعض الجوانب من حقوق الإنسان. وإذا كانت قد توسعت فيها الاستفادة من حجم المبادلات والمواصلات فإن الهوة بين الفقر والغنى ربما تزداد عمقا واتساعا هي الأخرى. ولعل مفهوم العولمة قد ارتبط أساسا بالنمو السريع والكبير الذي عرفه الاقتصاد العالمي منذ أواخر السبعينات. كما أن الشركات المتعددة لجنسيات ساهمت في إشاعة هذا المفهوم لأنها كانت المستفيدة بالدرجة الأولى مما يسمى بالأنماط الشمولية التي تنطبق على مجمل الأبعاد سواء الاقتصادية أو المالية أو الثقافية أو الإنسانية وكذا على مستوى البنى سواء كانت وطنية أم جهوية أم عالمية. وبذلك فان العولمة تكون ظاهرة ناتجة عن تعميم اقتصاد السوق حيث شكلت السوق النقدية منذ بداية السبعينات وبدأت مع عولمة التجارة في إطار " الغات " واستمرت مع المنظمة العالمية للتجارة. وفي نفس السياق استفاد الفاعلون الاقتصاديون من الإجراءات ذات التوجه الليبرالي بإدراكهم أن السوق أكثر أهمية من الدولة في تحفيز الصناعة والزيادة في الإنتاج وضمان النمو) 13.
ونستنتج مما ذكرناه أعلاه أن العولمة أصبحت متعددة الأبعاد ولم تبق منحصرة في المجال الاقتصادي بل امتدت الى المجال الثقافي بمختلف فروعه والى المجال القانوني والتواصلي والإعلامي. وحتى الإجرامي وفي هذا السياق يقول الدكتور بطرس غالي " ليست هناك عولمة واحدة بل ثمة عولمات عديدة فعلى سبيل المثال هناك عولمة في مجال المعلومات والمخدرات والأوبئة والبيئة وطبعا وقبل هذا وذلك في مجال المال أيضا. ومما يزيد الأمر تعقيدا أن العولمة قد صارت تتعاظم في المجالات المختلفة بسرعة متباينة " .
ويمكننا القول بأن العولمة الحقيقية التي ينبغي تبنيها والدفاع عنها هي تلك التي تهدف جعل سكان العالم أشبه بسكان القرية الكونية. ولتحقيق هذا الهدف ينبغي أن يكون هناك وعي بين مختلف طبقات المجتمع المدني العالمي بقضايا هذا العالم في إطار شمولي وموحد يساهم في بنائها وبلورتها وقولبتها المجتمع العالمي بكامله لا أن ينفرد به قطب معين على حساب مصالح الآخرين أو فرض سيطرة جهة على أخرى. وأن يقوم زارعو نبتة العولمة والمدافعين عنها بتغيير لغتهم وخطاباتهم وحوارهم السياسي والأيديولوجي الاستراتيجي مع شعوب العالم وفتح أواصر جديدة للإخاء والتعاطف.
عوامل تعميق العولمة :
العولمة باعتبارها واقع اقتصادي اجتماعي وتقني تعمق منذ نهاية الثمانينات بسبب مجموعة من العوامل نذكر منها :
1- تظافر مجموعة من الأحداث التي عملت على تغيير الخريطة السياسية والتجارية الدولية والمتمثلة في انهيار الكتلة الشرقية بنموذجها السياسي والاقتصادي والقانوني وعلاقتها الدولية.
2- هيمنة أيديولوجية اللبرالية واقتصاد السوق والمؤسسات المالية والتجارية.
3- زيادة دمج الاقتصاديات الوطنية في الاقتصاد الدولي على أسس لبرالية.
4- ظهور التكتلات الاقتصادية الدولية التي أصبح معها العالم ينتظم حول ثلاثة أقطاب: أولها أوربا التي تعمل بوثيرة سريعة على بناء قارة جديدة " أوربا القران الواحد والعشرين " وثانيها " أمريكا الشمالية " حيث يتشكل فضاء اقتصادي هائل قائم على قاعدة التبادل الحر وثالثها " الفضاء الأسيوي الهادي " الذي برز فيه عمالقة جدد في الاقتصاد لعالمي ويقوم الآن ببناء سوق عملاقة تتكون من اليابان قائدة القاطرة ومن الصين باعتبارها طاقة اقتصادية صاعدة.
5- انخراط قوى عظمى في منظومة اللبرالية الاقتصادية رغم احتفاظها بنموذجها السياسي ونعني بها الصين الشعبية.
6- التطور السريع في تقنيات التواصل والإعلام ووسائل المواصلات.
7- نقل القواعد اللبرالية للدول الرأسمالية وتعميمها على مختلف الدول عبر المؤسسات الدولية ولاسيما المؤسسات المالية الدولية والمنظمة العالمية للتجارة التي حلت محلها لتقوم بضبط حركة وإيقاع التجارة العالمية وتشجيع الحرية التجارية وإزالة الحواجز الجمركية.
8- ظهور المنظمات الدولية والإقليمية حكومية وغير حكومية التي تعمل في أنشطة متعددة على نطاق لم يسبق للمجتمع الدولي أن شهده في أية مرحلة سابقة ولم تعد معها الدولة هي القوة الوحيدة التي تصدر القرارات في العلاقات الدولية، كما أن هذه المنظمات الدولية تهدف تخفيف التوترات وتعميق مجالات التعاون بين الدول وتنظيم شؤون المجتمع الدولي.
9- تشجيع تنقل الرساميل من بورصة مالية إلى أخرى خلال فترة وجيزة لا تتعدى الثانية وذلك في إطار البحث عن أحسن توظيف وأعلى نسبة من الربح . فقد ( أدت ثورة المعلومات والاتصالات من ناحية والحاجة إلى غزو الأسواق من ناحية أخرى إلى " ثورة مالية " لا تقل خطورة وأهمية عن الثورة الصناعية في مراحلها الأولى. فإلى جانب الثورة العينية من أراضي ومناجم ومصانع وبنية أساسية أصبحت الثورة المالية في شكل أسهم وسندات وأوراق مالية متعددة تمثل حقوقا ومطالبات على هذه الثروة العينية وتسهل من حركتها وانتقالها. وقد ساعد على ذلك وارتبط به تعدد الأوراق والأصول المالية فظهرت أشكال وتطورت الأشكال القائمة من خيارات أو حقوق أو رخص في عدد متزايد من المشتقات المالية وثورة المعلومات والاتصالات ساعدت في نقل هذه الأصول والثروات في لمح البصر دون أن تدركها عين أو تلحظها يد رقيب. فأصول المالية تتداول الآن على مستوى العالم وهي تنتقل من مكان إلى آخر أو من عملة إلى أخرى في شكل ومضة كهربائية أو نبضة إلكترونية. وهكذا أدت هذه الثورة المالية الجديدة إلى تقريب أجزاء المعمورة قفزا على الحدود السياسية وتجاوزا للمكان واختصارا للزمن. ولكن السيولة العالية للاقتصاد العالمي وهذا الإفراط في التداول المالي على حساب الثورة العينية وان أديا إلى درجة كبيرة من التقارب والاندماج فانهما قد ساعدا بالمقابل على زيادة حدة الاضطراب وعدم الاستقرار في الأسواق العالمية )10م.
10- تدويل المؤسسات أي أن المقاولة اليوم يمكنها أن تصنع جزءا من هذا المنتوج أو ذاك في هذا البلد أو ذاك وجزءا آخر في بلد آخر وأجزاء أخرى في بلد آخر وهكذا دواليك ثم تقوم بتجميع هذه الأجزاء فيما بعد في منتوج عالمي من أجل سوق هي نفسها عالمية.
11- ظهور الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات كقوة اقتصادية رئيسية تمتلك قدرات تنظيمية ومادية وتقنية وإيديولوجية تؤهلها لإدارة العالم كوحدة مترابطة وتمهد لإلغاء دور الدولة. فهي قائمة في الأساس على فكرة تحويل العالم إلى سوق واحدة وتدويل المجتمع الإنساني والتخطيط المركزي للإنتاج والاستهلاك العالمي، وتهدف هذه الشركات العملاقة السيطرة الكاملة على النشاط الاقتصادي وتحويله إلى نشاط عالمي يتعدى حدود السلطة المحلية للدول. كما تتميز هذه الشركات بضخامتها وتنوع نشاطها وانتشارها الجغرافي.
القسم الأول
المنظور الغربي للعولمة:
سنتناول في هذا القسم المنظور الغربي للعولمة من خلال مختلف الآراء التي ناقشت هذا الموضوع ونادت بإلزامية الانخراط في هذه المنظومة أو الابتعاد عنه ونادت بمحاربة هذا التوجه كما سنتناول أيضا موقف المعتدلين من العولمة.
1- المتحمسون للعولمة
يرى المتحمسون للعولمة أنها( قدر لا مرد له، وأنها ستصيب أمم المعمور، التي لم يعد أمامها إلا الخضوع والاستسلام لها)14. ولذلك يعتبرونها فرصة ينبغي أن لا تضيع، لأنها حسب رأي هؤلاء المفتاح السحري لكل قضايا البشر الذي سيتمكن من خلاله العالم من فتح بوابة القرن الواحد والعشرين المقبل، بثورته التكنولوجيا والتواصلية على مصراعيه وأنها جنة الأرض الموعودة، ويلوح أنصار العولمة بالتهديد بالدمار الشامل، في حالة عدم الانخراط في هذه المنظومة الكونية(لأنها سوف تقرر ليس مصير حضارة معينة، أو أمم محددة بل مصير البشرية كلها)15. باعتبارها ( ظاهرة العصر وسيمته، وإن الوقوف في وجهها ومحاولة تجنبها، أو العزلة عنها إنما هو خروج على العصر وتخلف وراءه)16. فخبراء الاقتصاد العلمي سواء منهم العاملون في منظمة التنمية التعاون الاقتصادي أو في البنك الدولي أو في صندوق النقد الدولي يشجعون الدول على المضي قدما في عملية التكامل على المستوى العالمي. ( فهؤلاء الخبراء يلحون على أن إزالة الحدود أمام السوق يعبد الطرق أمام العلم الثالث للخروج من مأزق الفقر والتخلف معتبرين أن العولمة تحسن من فرص البلدان النامية للحاق اقتصاديا بركب الدول الصناعية. (فمن خلال العولمة فقط سيكون بوسع ستة مليار مواطن في العالم المشاركة في تلك الانتصارات التي لم ينعم بها حتى الثمانينيات سوى ستمائة مليون في البلدان الصناعية القديمة لا غير)17.
وإذا نظرنا إلى العولمة من زاوية أخرى، فإننا نجد المناصرين لها يؤكدون على(أنها فرصة تاريخية لكسر طوق التخلف عن الدول النامية)18.
ويركز الخطاب الأمريكي على القول: (بأن العولمة ليست مجرد خيار قابل للتبني والرفض، بل هي حتمية لا مناص عنها في توجه النظام العالمي الجديد. ولا خيار للعالم النامي غيرها آلا خيار بقائه محبوسا في تخلفه.ويضيف هذا الخطاب أن العولمة هي اقرب الطرق وأجداها لتحقيق الحداثة السياسية والاجتماعية والفكرية للعالم المتخلف وهي أنجع الوسائل لطيها بسرعة مراحل التنمية الشاملة لأنها وحدها الكفيلة بتأهيله اقتصاديا. وبالتالي فكريا واجتماعيا. بل يذهب الخطاب إلى قول أن تغيير العالم إلى أفضل مرهون بتطبيقها)19.
لقد تبنى هذه الطموحات ودافع عنها بحماس كبير نخبة من المثقفين (الذين كانوا إلى عهد قريب من غلاة الاشتراكيين الذين يستقطب الشباب في الجامعة من تلامذته للفكر الاشتراكي أو الماركسي ويدافع عنه في المؤتمرات الحزبية والجماهيرية فإذا به فجأة ينقلب إلى لبرالي متحمس للبرالية والاندماج في السوق الرأسمالي العالمي والتبشير بالعولمة الجديدة ويشيد بشبكة الانترنيت أو يقدمها كدليل على مصداقية العولمة ومظهرها الحداثي أو ما بعد الحداثة أو يتحول إلى محاضر نشيط عن العولمة داخل بلاده وخارجها. فهذا الفريق الذي يدافع عن العولمة يضم صفوة النخبة الثقافية لدينا أو من يوصفون بذلك من أساتذة جامعيين وسياسيين وصحافيين في دول العالم الثالث والذين تستهدف العولمة الإبقاء على شعوبهم راسخة في أغلال الفقر والاستغلال والتبعية ومع ذلك يدافعون عنها بحرارة مطالبين شعوبهم بالاندماج فيها حتى لا يفوتهم قطارها والتأقلم مع ما يعتبرونه من شروطها ومتطلباتها من الانفتاح عليها والاستسلام لها وإطلاق لحرية التجارة ورفع القدرة التنافسية وينسبون لها الفضل بتحقيق الأمل في الديموقراطية وترسيخ مبادئ حقوق الإنسان وحل أزمة البطالة والإسكان والقضاء على الفقر والتخلف وتحرير المرأة حتى أصبحت في نظرهم الدواء الشافي من كل داء)20.
والواقع أن العولمة التي هي الآن في طور البناء ليست حتمية كما يدعي المتحمسون لها وأن الحتمية التي يدعونها هي في نظرنا مجرد تكريس وترويج لمذهب وسياسة خاصة لا ترتكز على أي أساس لأن العولمة ليست أمرا محققا فعلا ومكتملة البنيان وإنما هي إرادة تتوجه نحو التحقيق الفعلي وليست بالشيء المنتهي حتى نكون ملزمين ومرغمين بالخضوع لها.
لكن إذا كانت العولمة كما ينادي بها المتحمسون لها ستعمل على إسعاد البشرية ورفاهيتها وإخراج الدول الفقيرة من فقرها وستعمل على طي مراحل التنمية فإن الانخراط فيها سيكون تلقائيا وعن طواعية لأنها علاج يبتغيه الجميع ومنظومة سينخرط فيها الجميع.
2-المعارضون للعولمة:
وعلى النقيض من ذلك فإن المعارضين للأخذ بالعولمة لا يفتأ ون يحذرون من هذه العولمة ويطالبون بمقاومتها لأنها حسب رأيهم وان بدت براقة إلا أنها لاتحمل في جوانبها قدسية البراءة فهي تعمق الفوارق وتضاعف من عجز الدول أمام ديكتاتورية الأسواق المالية(التي تحصر النشاط الاقتصادي في عدد من الشركات العالمية في الدول الصناعية الكبرى ولما تفرضه من اتجاهات وقوانين تقلص الصناعات الوطنية وتزيد فقر الفقراء وتشييع البطالة)21.
فالأساس الذي اعتمدته العولمة في انطلاقتها هو تآخي وشمول شعوب العالم بالرفاهية ووضع حد لظاهرة الفقر المزرية. في حين أن ما تمت عولمته هو البؤس والفقر وزيادة الهوة بين الدول الفقيرة والغنية وزيادة البطالة والخوف والقلق من المستقبل وتعميق ظاهرة الفساد والاتجار في المخدرات والجريمة المنظمة والحرب وعدم السلام والأمن وزيادة ثراء لدا طبقة محصورة.
فقد أصبح مصطلح العولمة يعني اتساع الفرق بين البشر وبين الدول وهكذا نجد مثلا أن عدد الأثرياء في العلم يصل إلى 358 ملياردير فهؤلاء يمتلكون ثروة توازي ما يملكه مليارين ونصف من سكان المعمور وأن عددا قليلا من دول العالم تستغل %80 من الناتج العالمي الإجمالي و%84 من التجارة العلمية ويمتلك سكانها %85 من مجموع المدخرات العالمية.
ومن بين الناقمين الكارهين للعولمة الوزير الأمريكي " روبير ريتش" الذي يأخذ على العولمة(مضيها في إنشاء نظام من الطبقة السفلة داخل الديموقراطية الصناعية يتسم بالفقر وانعدام الأمل)22.
لقد أدت العولمة ( إلى إعدام بعض المصطلحات المهمة التي شغلت ساحات الفكر والسياسة لفترة طويلة مثل مصطلح" العالم الثالث" " ومصطلح التحرر" " والتقدم " "وحوار الشمال والجنوب" والتنمية الاقتصادية. وهناك من اعتبر أن أيديولوجيتها تتميز بفقرها الرمزي والتصويري ولا ترضي التطلعات البشرية الدفينة ولا تتوفر على عناصر الحكم والأمل التي تلازم الرؤى الجماعية لضبط العلم وتغييره)23.
فالعولمة في رأي المعارضين لها تبتلع السياسة وتحل محل الدولة في ميادين المال والاقتصاد والإعلام الخ....ويترتب على ما تفرزه العولمة من نتائج " تضاءل إمكانات الدول المختلفة على التدخل أكثر فأكثر في حين يتعاظم أكثر فاكثر تجاوز اللاعبين الدوليين حدود اختصاصهم من دون رقيب يذكر. ولعل القطاع العام خير دليل على ذلك كما يقول بطرس غالي الأمين العام السابق لهيئة الأمم المتحدة مضيفا بأن قادة الدول بصفتهم هذه فإنهم لا يزالون يتصورون بأن السيادة الوطنية ما فتئت في أيديهم وأن بمقدورهم السيطرة على العولمة في النطاق الوطني وأن القادة السياسيين لم يعودوا يمتلكون الكثير من مجالات السيادة الفعلية التي تمكنهم من اتخاذ القرار. إلا أنهم يتصورون بأنهم قادرون على حل المسائل الرئيسية. إني أقول أنهم يتوهمون إنهم يتخيلون أن هذا بوسعهم.
( والواقع أن دور الدولة في عصر العولمة قد تقلص في القيام بدور الدركي لنظام العولمة نفسه. وإذا تقلصت مهام الدولة انحصر مجال السياسة. فالعولمة تقتضي الخوصصة أي نزع ملكية الأمة ونقلها للخواص في الداخل والخارج وهكذا تتحول الدولة إلى جهاز لا يملك ومن لا يملك لا يراقب ولا يوجه.وبالفعل فدور الدولة في المراقبة والتوجيه في المجال الاقتصادي يتقلص في نضام العولمة إلى درجة الصفر أو على الأقل يراد منه ذلك. أما في مجال الاتصال والإعلام والثقافة فالمراقبة أصبحت مستحيلة عمليا إذ لم يعد للدولة في هذا المجال سوى خيار واحد وهو تسهيل الاتصال وسريان الإعلام لفائدة الشبكات العالمية .أما السياسة الخارجية في نضام العولمة فتتولاها بصورة مباشرة أو غير مباشرة مؤسسات ما يسمى " المجتمع الدولي " وعلى رأسها مجلس الأمن. هذا فضلا عن التأثير التي تمارسه المؤسسات الاقتصادية " العالمية " مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي. جميع هذه الشؤون التي تنتزعها العولمة من الدول تنتزعها أيضا من السياسة فتتركها بدون موضوع لأن العولمة تفرض طريقا واحدا وفكرا وحيدا: اللبرالية ولا شيء غير اللبرالية تعني اليوم الخوصصة والعولمة.
أما المواطنون في عالم العولمة فهم صنفان : المستهلكون للعولمة المندمجون فيها والمشددون إلى " الخارج " خارج الدولة والأمة والوطن هؤلاء مشغولون ومستلبون في عالمهم الا مرئي عالم الاتصال الذي لا يسمح بالانفصال وإمكانيات الاستقلال بالرأي وهؤلاء إذا يعيشون في عالم اللا نسانية. أما الصنف الثاني من المواطنين فهم جموع المحرومين المنبوذين من عاطلين عن العمل ومسرحين ومهمشين ومقهورين الخ....هؤلاء تتركهم العولمة لقانون اصطفاء الأنواع)24. بل إن هناك من يذهب أبعد من ذلك ويعتبر أن %20 من السكان العاملين ستكفي في القرن القادم للحفاظ على النشاط الاقتصادي الدولي. وإنه سيسود العالم مبدأ " إما أن تأكل أو تؤكل ".
ويضيف المعارضون لركوب هذه القاطرة بأنها جرافة المعلوميات والتكنولوجيا الجبارة وإنها ستؤدي إلى تدمير منهجي لثقافة الشعوب باعتبارها قوة استعمارية جديدة أو أصولية جديدة أخطر من أي أصولية ثقافية أو دينية.
وهناك من يرى (إن العولمة عبارة عن القولبة الكلية للأحادية الأكثر اتساعا وشمولية تنجرف إليها الأوضاع الدولية مدفوعة نحوها بالثورتين الاقتصادية والمعلوماتية المذهلة)25.
واعتمادا على ما ذكر ينبغي في نظر هؤلاء المعارضين الانغلاق على الذات والانكماش داخل بوثقة ضيقة. ولعل لهؤلاء ما يشفع لهم في مواقفهم هذه خصوصا عندما نقرأ أقوالا كتلك التي وردت في كتاب " المشكلون لسلوك الشعب لمؤلفه نانس باكاد " الذي اعتبر في مؤلفه ( أنه من الممكن استخدام معارفنا المتطورة لاستعباد الناس بطريقة لم يحلم بها أحد من قبل بإلغاء شخصياتهم المتميزة والسيطرة على عقولهم بوسائل يتم اختيارها بعناية بحيث لا يدركون أنهم فقدوا شخصياتهم) .أو عندما نسمع العالم الأمريكي "سكنير " يقول (نحن نحتاج إلى تقنية جديدة لتغيير السلوك البشري ولا نحتاج لأجيال متعاقبة من "السوبرمان" تملك الوسائل القادرة على زرع السلوك الذي نريده).
وهكذا نرى أن مفهوم العولمة حسب رأي المعارضين لها هو توسيع الهيمنة الأمريكية وأمركة العالم كله وهو ما أعلنه بالفعل فريدمان ( نحن أمام معركة سياسية وحضارية فظيعة. العولمة هي الأمركة والولايات المتحدة قوة مجنونة نحن قوة ثورية خطيرة وأولئك الذين يخشوننا على حق إن صندوق النقد قطة أليفة بالمقارنة مع العولمة. في الماضي كان الكبير يأكل الصغير أما الآن فالسريع يأكل البطيء)26.
و يرى المهتمون بالشؤون الاقتصادية أن النهج الذي تسير فيه الولايات المتحدة راعيةالعولمة اخذ ينهار بسبب ما يلاحظ من انتشار الجريمة في هذا البلد. ففي ولاية كاليفورنية فقط التي تحتل بمفردها المرتبة السابعة في قائمة القوى المخصصة لقطاع التعليم إن هناك 28 مليون مواطن أمريكي أي ما يشكل عشر السكان قد حصنوا أنفسهم في أبنية وأحياء سكنية محروسة. ومن هنا فليس من الغريب أن ينفق المواطنون الأمريكيون على حراسهم المسلحين ضعف ما تنفقه الدولة على الشرطة لكونها تخفي من ورائها أضرارا خطيرة. فهي كما صورها "كرولين طوماس وتبيستر ولكين" في كتابهما الذي صدر سنة 1997 تحت عنوان " العولمة والجنوب " بانما" ليست فقط تكرس الفروقات وانعدام العدالة الاجتماعية والمساواة بين الشمال المتخم بالغنى والجنوب المدقع بالفقر، وإنها تضاعف هذه الفروقات وتجعل من الصعب إن لم يكن من المستحيل ردم الفجوة التي اتسعت وسوف تتسع مع العولمة ليست في دول الجنوب فحسب، وإنما سوف تعمق جيوب الفقر داخل الغرب نفسه بل إن الخوف امتد إلى عدم تخوف الجناح المتطرف من العولمة يرجع لعدم وضوح الرؤيا بالنسبة لخطاب العولمة في الاقتصاد العالمي " فهي لا تتبع بالضرورة مبدءا واحدا يسري على كل أرجاء المعمورة. ففي حين تدعو بلدان الرفاهية القديمة إلى ضرورة تراجع دور الدولة وإعطاء قوى السوق مجالا أوسع تطبق على البلدان الصاعدة حديثا العكس من ذلك. كما أن قادة المؤسسات أنفسهم الذين يرفضون في الولايات المتحدة الأمريكية أو ألمانيا كل أنواع التدخل الحكومي في قراراتهم الاستثمارية رفضا قاطعا نعم هؤلاء أنفسهم يخضعون في آسيا صاغرين استثمارات تبلغ المليارات للشروط التي يضعها البيروقراطيون الحكوميون الذين لا يتهيبون من تسمية عملهم بالتخطيط الاقتصادي المركزي. ولكن على ما يبدو ترسي الأرباح المتحققة في سياق معدلات نمو تتكون من خانتين كل التحفظات الأيديولوجية".
والخلاصة التي يمكن أن نستنتجها من مواقف المعارضين للأخذ بالعولمة هو أن الغرب مبدع هذا المصطلح ومهندس مضامينها وهويتها ومرتكزاتها الفكرية والاقتصادية: يحاول الاستبداد بها وجعلها قاصرة على حضارته هو فقط دون غيره من سكان المعمور كما يفهم ذلك من مختلف الخطابات التي يروج لها من "نهاية التاريخ " التي لا تؤمن بكل الحضارات السابقة وإنما تؤمن بحضارة الغرب وخطاب " صدام الحضارات " التي يعمل الغرب على خنق أنفاسها وتشتيت صفوفها. ومن هنا فإن المعارضين للأخذ بالعولمة يطلقون صيحاتهم بعدم الأخذ بها ويعارضون الدخول في منظومتها بكل شدة.وصدق أحد الفلاسفة المعاصرين في الغرب عندما أعلن محذرا من العولمة الحديثة " إذا كانت الملائكة الأبرياء تظهر في عموميات العولمة فان الشياطين تختبئ في تفاصيلها ."
3- المعتدلون الذين ينادون بالأخذ بالعولمة بحذر:
ومن المتحمسين لفكرة ركوب قاطرة هذه المنظومة الكونية والمعارضين لها جاء فريق وسط واعتبرها قدرا محتوما ينبغي التعامل معها وتطويعها لخدمة مصالح المجتمع أو الحد من أخطارها لكون التحولات الجوهرية التي يعرفها المسرح العالمي تتطلب المزيد من الحذر والانتباه إلى المفهوم الحقيقي لنوع العلاقة مع الآخرين حينما نكون بصدد وضع الخيارات والتوجهات العامة لأي بلد. ويمكننا القول بأن العولمة الحقيقية التي ينبغي تبنيها والدفاع عنها هي تلك التي تهدف جعل سكان العالم أشبه بسكان القرية الكونية. ولتحقيق هذا الهدف ينبغي أن يكون هناك وعي بين مختلف طبقات المجتمع المدني العالمي بقضايا هذا العالم في إطار شمولي وموحد يساهم في بنائها وبلورتها وقولبتها المجتمع العالمي بكامله لا أن ينفرد به قطب معين على حساب مصالح الآخرين أو فرض سيطرة جهة على أخرى. وأن يقوم زارعو نبتة العولمة والمدافعين عنها بتغيير لغتهم وخطاباتهم وحوارهم السياسي والأيديولوجي الاستراتيجي مع شعوب العالم وفتح أواصر جديدة للإخاء والتعاطف.
وهذا الاتجاه الوسطي هو الذي تبنته بلادنا (عندما انخرط المغرب عن وعي في عصر العولمة واتبع منطق وقواعد اقتصاد السوق منذ عدة عقود وقد كانت الظروف التي فضل فيها هذا الخيار ذات طبيعة معقدة سواء على الصعيد المحلي أو الدولي إذ تميزت بإعادة توزيع المتدفقات الاقتصادية والتجارية والمالية التي غالبا ما تخضع لتفسيرات التوجهات الأيديولوجية وأحكام القمة التي تضيفها عليها.. لقد انحاز المغرب لصف المنخرطين في عولمة مضبوطة ومعقلنة تمر لزاما عبر تقوية وإعادة تأهيل سلطاته الإدارية وهو خيار أوجبته الثورة التكنولوجية التي أصبحت تؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد والمبادلات والاستثمار.و تتسم مقاربة المغرب للعولمة بالواقعية القائمة على أساس مشروع مجتمعي متكامل تتكاثف داخله جميع العناصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كما تتسم بالواقعية أيضا على المستوى الإقليمي فسواء تعلق الأمر بالمغارب العربي أو الشرق الأوسط أو أوروبا أو منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، يظل التقدم على مستوى التعاون الإقليمي مسألة ضرورية لا محيد عنها لإضفاء طابع التفاؤل على الوضع الذي نشأ نتيجة تسارع مسار العولمة وتعميقه)27.
ولعل وعي المغرب بالأخذ بالعولمة مع الحذر التام تمثل في انخراطه عن وعي في مسلسل العولمة بانتقاله من منطق طلب المساعدة إلى منطق طلب الشراكة مع الاتحاد الأوروبي القائمة على أساس الحقوق والواجبات وأصبح شريكا معه بعد مؤتمر ألا ورو متوسطي وبعد احتضان بلادنا الميلاد الرسمي لسياسة العولمة حيث احتضنت مدينة مراكش مؤتمر الغات في ربيع 1994 الذي تولد عنه ميلاد المنظمة العالمية للتجارة كما احتضنت بلادنا أيضا في أكتوبر1994 التظاهرة الاقتصادية الكبرى التي شكلت منعطفا هاما في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط بصفة عامة والمتمثلة في مؤتمر القمة الاقتصادية حول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
القسم الثاني
المنظور الإسلامي للعولمة
رأينا أثناء الحديث عن المنظور الغربي للعولمة كيف أن هذه الأخيرة لا تنطوي على فلسفة أو توجه أخلاقي أو عقائدي تنسجم وتتفاعل مع قيمنا الروحية وهويتنا الثقافية وكيف أنها تنادي بتدمير كل ثقافة ذات طابع إنساني أو أخلاقي وتؤمن بالمادة ووحدة العقل ووحدة القطبية وتدافع عن مرتكزاتها التي هي تضخيم الليبرالية والهيمنة المطلقة على السوق بتقنيات عالية وبشركات متعدد الجنسيات وعابرة للقارات كقوة رئيسية وفعالة في الساحة الدولية وتنادي بحرية التبادل في المعاملات التجارية ممهدة بذلك لتمكين الغرب من فرض سيطرته المادية والتكنولوجية على الدول الفقيرة من خلال ما تؤدي إليه هذه العملية من بطالة وتقليص دور الدولة في المراقبة والتخطيط ومن تدمير ثقافة الشعوب وفرض ثقافة واحدة بواسطة وسائل الإعلام والاتصال.
كما رأينا أيضا من خلال المعارضين للعولمة كيف أن" العولمة بالمفاهيم السالفة الذكر تتعارض -تعارضا تاما- مع قواعد القانون الدولي، ومع طبيعة العلاقات الدولية، بل إنها تتعارض كليا مع الاقتصاد الوطني، ومع السيادة الوطنية، ومع قانون التنوع الثقافي، وإن العولمة إذا صارت في الاتجاه المرسوم لها ستكون إنذارا بانهيار وشيك للاستقرار العالمي، ( لأن العولمة بهذا المضمون تضرب الهوية الثقافية والحضارية في الصميم وتنسف أساس التعايش الثقافي بين الشعوب. كما أن العولمة بهذا المفهوم الشمولي ذي الطابع القسري، ستؤدي إلى فوضى على مستوى العالم في الفكر والسلوك، وفي الاقتصاد والتجارة، وفي الفنون والآداب، وفي العلوم والتكنولوجيا أيضا) 28.
فالعولمة عند الغرب لا تقوم على التآخي وشمول شعوب العالم بالرفاهية، والقضاء على الفقر كما تصورها واضعوها ومصمموها في بداية الأمر بل أصبحت تكرس الطبقية والفقر والبؤس وزيادة البطالة والخوف والقلق وارتفاع الجريمة وزيادة الفساد الأخلاقي والاتجار في المخدرات والتطاحن والحروب فهل من بديل لهذا الوضع والرجوع بالعولمة إلى حقيقتها التي ينبغي أن تكون عليها ؟ .
أعتقد أن الفكر الإسلامي هو الملجأ الوحيد لإرجاع السكة الى قاطرتها، ومن هنا فإن على الأدبيات الإسلامية وعلمائنا أن يخرجوا من قوقعتهم وأن يواجهوا الواقع المعاش في هذه المنضومة مادام الرصيد الفكري والثقافي للإسلام يتوفر على ثوابت وقيم أخلاقية ومادام الإسلام قائم على التفاعل مع الآخرين الحق ضالته ولايتعمد إلغاء الآخرين ولذلك يعتبر الحل الأنجح والبديل للعولمة التي يريد الغرب فرضها على سكان المعمور.
" إن الإسلام يوجد في كل مكان من المعمور ويمتد عبر القارات، ويتوزع بين الحضارات والثقافات، ويشكل حزاما مترابطا متينا ويتوفر على كبير طاقات وعظيم إمكانات وكل شيء فيه يؤهله ليقدم عطاءاته واهتماماته لخدمة العلم في تعاون مخلص نزيه مع المجموعة العالمية الأخرى، ذلك أن الإسلام ليس دينا فحسب بل هو دين ودنيا " .
والواقع أن الدين الإسلامي يتضمن مجموعة من القيم الأخلاقية والتشريعية والحضارية ، التي يخاطب بها القرآن والسنة كل الناس دون تمييز أو تفاضل في اللون أو الجنس وهو ما اربك الغرب الذي اصبح ينظرللاسلام باعتباره العدو الأول للنظام الرأسمالي وأخذ يحسب له ألف حساب، خصوصا بعد انهيار الجناح الشيوعي .
فالا سلام يضم الآن أكثر من خمسين دولة متنوعة الدخل وبحصيلة سكان تزيد عن المليار نسمة متوفرة على كل المؤهلات التي تجعل منها قوة منافسة للغرب إذا اتحد بسكانه الذين يصل %50 منهم سن العمل والإنتاج ويتوفر على رأسمال كبير وعلى دول تتوفر على ثروات نفطية ومعدنية واستثمارات تصل إلى 620 مليار دولار وبودائع في بنوك دولية غربية أكثر من 280 مليار دولار يستثمر %25 منها في مشروعات قصيرة الأجل وبمناخ وتضاريس متنوعة وسعة في أراضيه التي تبلغ 1500 مليون هكتار وبسدود ومياه وأطر عالية يجمعهم دين واحد.
كل هذه المؤشرات تجعل من الإسلام الذي هو دعوة إنسانية موجهة للبشرية، جمعاء مصدر تخوف من طرف الغرب الذي وصل تخوفه إلى درجة أنه أخذ يروج إشاعات متعددة تمس من قيمته كدين حضاري وتشوه صورته عن طريق تمرير بعض الأفكار من مثل " الرعب في الإسلام " أو ما يسمونه ب:
la mophobia. بل إن بعضهم وصلت به العداوة للإسلام لدرجة جعلته يعتبره خطرا يهدد الغرب والسلام العالمي ويربط الإسلام ببعض الظواهر التي عرفتها بعض جهاته من تطرف وتخريب وقتل وقمع للرأي ويعممون هذه الظواهر على الدين الإسلامي ومعتنقيه. ومن هنا نجد المعادين للإسلام يركزون في إطار خطاب العولمة على تشتيت رأي الدول الإسلامية والصين، واستغلال أي خلاف ينشأ بينهما.
لقد وصلت الخطورة التي يتصورها الغرب من الإسلام أن اخذ بعض المفكرين من الغرب ينبهون القيادة الأمريكية الى ضرورة احتلال حيز هام في التفكير الاستراتيجي الأمريكي لقضية الصين والعالم الإسلامي ومن بين هؤلاء المفكرين نذكر الباحث Muravchik الذي أشار في كتابه المعنون ب " حتمية الزعامة الأمريكية" الى أن دخول التيارات الإسلامية معترك السلطة في الدول الإسلامية سوف يشكل خطرا كبيرا على المصالح الأمريكية مطالبا سلطات هذه الأخيرة بإبلاء هذا الموضوع ما يستحق من العناية وعدم ترك الفرصة لاتحاد هذه الدول.
ونعتقد أن ما أشار إليه هذا الباحث من تخوف من الإسلام يرجع لانهيار القيم الأخلاقية بالغرب الذي أصبح يأله العلم ويؤمن بالمادة. وقد انعكس هذا التخوف للسبب الذي ذكرناه سالفا وتجلى من خلال ما أشار أليه باحث آخر من الغرب ويتعلق الأمر " سبينجلير " الذي نادى من خلال كتابه " أفول الغرب " من أن موت حضارة تقودها الصناعة الآلية وتقودها الأموال موت حتمي في نظر هذا المفكر. ولكن يبقى انبعاث روح خلاقة جديدة يبقى في نظره ممكنا.
كما انعكس نفس الانطباع عند " منتنجتون " من خلال مقال نشرته له مجلة " شؤون خارجية " خلال شهر" نونبر دجنبر 96 " تحت عنوان " الغرب متفرد وليس عالميا " والذي أشار فيه إلى أن شعوب العالم غير الغربية لايمكن لها أن تدخل في النسيج الحضاري للغرب، حتى وإن استهلكت البضائع الغربية، وشاهدت الأفلام الأمريكية واستمتعت إلى الموسيقى الغربية، فروح أي حضارة هي اللغة والدين والقيم والعادات والتقاليد، وحضارة الغرب تتميز بكونها وريثة الحضارات اليونانية والرومانية والمسيحية والغربية، والأصول اللاتينية للغات شعوبها، والفصل بين الدين والدولة وسيادة القانون، والتعددية في ضل المجتمع المدني والهياكل السياسية، والحرية الفردية "ويضيف نفس الباحث " أن التحديث والنمو الاقتصادي لايمكن أن يحقق التغريب الثقافي في المجتمعات الغير الغربية بل على العكس، يؤديان إلى مزيد من التمسك بالقافات الأصلية لتلك الشعوب ولذلك فإن الوقت قد حان لكي يتخلى الغرب عن وهم العولمة، وان ينمي قوة حضارته وانسجامها وحيويتها في مواجهة حضارات العالم.وهذا الأمر يتطلب وحدة الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ورسم حدود العالم الغربي في إطار التجانس الثقافي".
وهكذا نلاحظ أن علماء الغرب أصبحوا يؤمنون بأن فكرة العولمة المتوحشة التي تنادي بالهيمنة والقضاء على ثقافة الآخرين وهوياتهم ومحاربة الفكر الديني ليست بالعولمة الموصلة الى ما يبتغيه المجتمع الإنساني المتواجد في كوكبنا والذي ينادي بتقارب البشر واعتبارهم بمثابة سكان القرية الكوكبية.
ونعتقد أن الظرف الحالي الذي لم تكتمل فيه بعد ملامح العولمة كافي لاستغلاله وإبراز معالم الفكر الإسلامي كدين وكفكر وكتوجه مناسب لمتطلبات المجتمع الدولي وطموح جميع الدول حتى يسود الود والتآخي بين سكان كوكبنا الأرضي.
كما نعتقد أن الفرصة مواتية من جهة أخرى لحث علمائنا للمشاركة في هذا الحوار الدائر بشأن العولمة ومساهمة الأدبيات الإسلامية في هذا الموضوع ومواكبة ما يدور في الساحة الدولية من نقاش مع تقديم آرائهم وتمرير الخطاب القرآني والأحاديث النبوية التي تعتبر سباقة في المناداة بالحقوق التي يطالب بها المجتمع الدولي وسكان المعمور،و أن لا يتركوا أعداء الإسلام يستغلون هذا السكوت والنيل من ديننا الحنيف. خصوصا وأن هذا الدين يلح على الانفتاح والمساواة بين البشر دون تمييز عرقي.
إن سبب حثنا على مشاركة علمائنا في هذا الموضوع راجع لما نقرأ لبعض الباحثين الذين يصفون الإسلام بالتخلق وعدم مواكبته لما تفرزه الحضارة والتقدم العلمي مثل ما أشار إليه مشونبي في كتابه الذي صدر له في أواسط هذا القرن والذي عنونه ب " الحضارة في الامتحان " خصوصا في الفصل الذي سماه " الإسلام والغرب والمستقبل " بان الإسلام اصبح مرة مغلوبا، وصفة المغلوب التي يتحملها اليوم اشد بكثير من الانكسار الذي حملته إياه الصليبيات، وذلك لان الغرب أقوى من الإسلام عسكريا وتقنيا واقتصاديا وثقافيا وروحيا. ونعني بالروح تلك الطاقة الداخلية الخلاقة التي تنتج عنها تحقيقات كل مظاهر الحضارة " ويضيف قائلا " بأن الإسلام يقاوم الآن بطريقتين كلاهما مقاومة ضعف لا ينتفع منهما لا الإسلام ولا الحضارة العلمية. فالطريقة الأولى هي طريقة الغيرة على الذات، والطريقة الثانية هي المسايرة والانصياع ".
إن أفكارا من هذا النوع تقتضي تدخل علماء الإسلام للرد على هذه الأطروحات التي لا تنبني على أسس علمية أو منطقية وقد شاءت الصدف وأنا أراجع العرض الذي قدمه السيد محمد مزيان بمناسبة انعقاد دورة الأكاديمية للمملكة المغربية تحت عنوان العولمة والهاوية أن وجدت ما يشفي غليلي في الرد على الذي قام بتقديمه هذا الباحث المغربي في عرضه المعنون " واقع العولمة من الصراع الحضاري الى التقاء الحضارات " وقد أورد بهذا الشان بان الصراع بين الحضارتين الغربية والإسلامية بان واقع الحضارة الإسلامية وواقع الحضارة العالمية التي لا يتزعمها الغرب لا يفسر بهذه البساطة وذلك للأسباب التالية:
أولا: لأن العولمة لازالت تخترع وتحقق مكتسباتها الأولى منذ نهاية الحرب العلمية الثانية ونهاية الاستثمار ومنذ تحرير الشعوب وصعودها الى مستوى المشاركة في صنع الأحداث العلمية.
ثانيا:لأن العالم الأسيوي الإفريقي تحقق الآن، أي في مرحلة ما بعد العرقية تحولا ذهنيا إنسانيا له آثاره في العالمية الجديدة. وبهذه الذهنية يراجع الغرب تصوراته عما كان يسمى بالإنسانية الأخرى المختـفلة، والخارجة عن الحضارة.
ثالثا: لأن العولمة لن تتحقق من الآن فصاعدا بمحو الهويات المختلفة في هوية الأقوياء، بل أصبح من الضروري أن تتصف المكتسبات المدنية والأخلاقية بالإجماع، مع محافظة الحضارات والوطنيات المختلفة على خصوصياتها.
ولنا في هذا دروس من فلسفة التاريخ، يرى التونبي نفسه وهو التكاثر بالجدلية الهيجيلية عن الغالب والمغلوب بأنه لابد من الصراع من الوصول الى أوضاع تركيبية، كما وقع ذلك بين الشرق الديني والغرب المدني، وكما يقع اليوم في التقاء الحضارات العالمية المختلفة، وخصوصا بين الغرب والإسلام في تأثير أعمق وأكثر تعميما من التطرف الى المحافظة المنكمشة أو الانصياع بانتحار الهوية.
ومن الاحتمالات التي يفترضها تونيبي أن الغرب الغالب والإسلام يمكن بعد قرون أن يتساووا في المظاهر المادية والتقنية، ولكن زبدة الحضارة التي هي الروحيات أي الأديان والأخلاق بالدرجة الأولى مع أهم تطبيقاتها المدنية، مشروع ما بعيد، وهو العالمية الحقة، وهو الحلم الكبير الذي تعبر عنه المسيحية " بمدينة الله " ويسميه الإسلام " ارض العدل بعد الجور " وينهي الأستاذ عبد المجيد مزيان رده على مقولة تونبي بأن هذا الأخير يرى أن المسار الإنساني نحو العالمية ينتفع بكل تأكيد من عطاءات الإسلام في موضوعين، الأول والأهم منها هو القضاء على العرقية بجميع تفرعاتها، والثاني هو التخلص من مظاهر الانحطاط التي أحدثتها مجتمعات الكحول والملاهي.
إننا نضم صوتنا الى التحليل الذي قدمه هذا الباحث المغربي في رده على طروحات تونبي ونرى أنه على الدول الإسلامية أن تنخرط في هذه المنظومة لتواكب التطور التكنولوجي والإعلامي و تقوم بتوظيف رصيدها الثقافي والديني في حماية الفكر الإسلامي والمسلمين مع تمرير الخطاب الى غيرهم من سكان الكون ونشر هذا الإشعاع الإسلامي الحضاري بين سكان الكون وتدعيم الفكر الحر البناء لمقاومة التيارات الهدامة والمتطرفة لأنه بقدر ما يتسع الفراغ الروحي وتهتز القيم الروحية ويشع التطرف في أي اتجاه ويسود النظام الاستبدادي بقدر ما يدل على فطرته وينقده من المادية العمياء ومن الأنانية الهوجاء وبهذا المنهج قد تتحول تحديات العولمة الى استنهاض الإرادات نحو النضال من اجل سعادة حرية الإنسان في أن مع هويته ويحقق فيها ذاته عن طريق الإبداع والتمييز والاختلاف.
أن ما جاء به القرآن الكريم من تعاليم وأصول فكرية وقوة روحية من شانها أن تساهم في تحريك العالم الاقتصادي نحو التخليق وإخراجه من الفوضى التي يجتازها والوصول الى ما تنشده البشرية من كرامة إنسانية.
كما أن ما جاءت به السنة النبوية من أحكام وقواعد شرعية من شانها أن تعمل على ترسيخ كل الثوابت الإيجابية التي تؤدي إلى الحفاظ على تماسك المجتمع والأخذ بيد الضعيف والمعاملة الحسنة ولو مع غير المسلم.
فعلاقة المسلم بغيره مبنية على الانفتاح لأن الخطاب القرآني موجه الى عباد الله في إطار التعددية والود والتعاون على الخير والبر انطلاقا من قوله تعالى # ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستسقوا الخيرات # وقوله تعالى # لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا# .
إن القرآن الكريم يخاطب الناس كافة وهكذا فالآية 13 من سورة الحجرات جاء فيها : # يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا # مع مراعاة أن هذا التعارف ينبغي أن ينصب على احترام حق الغير في الاختلاف. كما جاء ذلك في الآية 48 من سورة المائدة# لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجهلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم فاستبقوا الخيرات # وقوله تعالى في الآية 22 من سورة الروم # ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم #.
وجاءت الرسالة المحمدية لتدعيم السلوك الحسن لكل البشر كما عبر عن ذلك رسول الله r في الحديث النبوي الذي رواه مالك في الموطأ وابن حنبل في سنده عن أبي هريرة :" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وقوله w في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم والترمدي وأنس :" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" .
إن الإسلام يدعو الى الخير والتواصي بالحق ومقاومة كل ظالم وإزالة الأذى. وفي هذا السياق ورد عن رسول الله r :" مثل المدمن في حدود الله (القائم عليها) والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها فكان الذين في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به، فأخذ فأسان فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه فقالوا ما لك؟ قال تأذيتم بي، ولابد لي من الماء، فان أخذوا على يده أنجوه ونجوا بأنفسهم وان تركوه أهلكوه واهلكوا أنفسهم" .
فالقرآن الكريم يخاطب الناس كافة وهكذا جاء في فالآية 13 من سورة الحجرات: # يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا # مع مراعاة أن هذا التعارف ينبغي أن ينصب على احترام حق الغير في الاختلاف كما جاء ذلك في الآية 48 من سورة المائدة# لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجهلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم فاستبقوا الخيرات # وقوله تعالى في الآية 22 من سورة الروم # ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم #.
كما أن الإسلام يعتبر أن قيام الحضارة رهين بالتواصل مع اعترافه بوجود الصراع والحوار ويعتبرهما المنفذ الحقيقي لإقامة الحضارة كما جاء ذلك في الآية 251 من سورة البقرة # ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض# والآية 20 من سورة الحج # ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا # .
كما أن الإسلام يركز على الأسلوب الحضاري في الخطاب والحوار بدون قوة أو عنف #وقولوا للناس حسنى# وقوله تعالى في الآية 53 من سورة الإسراء # وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن# وفي الآية 125 من سورة النحل # ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن # وفي الآية 46 من سورة العنكبوت# ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن# .
والإسلام لا يقيم الفوارق بين البشر وإنما يقر للإنسان بإنسانيته وأنه إنما وجد فوق هذه البسيطة للخلافة في الأرض #كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى#.
كما أن التكريم للإنسان جاء في الآية 70 من سورة الإسراء # ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا# لأن الناس في نظر الله سبحانه وتعالى أمة واحدة # يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة# .
وبالإضافة الى الثوابت التي نص عليها القرآن الكريم بشأن الانفتاح والتآخي فإنه كان سباقا في الحث على التعاون وإسعاد البشرية وهكذا فقد جاء في الآية 21 من سورة المائدة # وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان# فهذه الآية تلح على التعاون خلافا لما يوصف به الإسلام من طرف المعادين له. وجاءت السنة النبوية لتدعيم مبدأ التعاون بين بني البشر حيث جاء في حديث رسول الله r " الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه".
وأمر القرآن المسلم بالتسامح والتآخي والسلم ونشر الطمأنينة والسكينة بين سكان المعمور حيث قال تعالى # ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم#.وفي الآية 208 من سورة البقرة # يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة # ويعتبر أن قتل النفس بغير حق أو القيام بالفساد في الأرض بمثابة من قتل الناس جميعا كما جاء ذلك في الآية 92 من سورة المائدة # من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا# وفي الآية 87 من نفس السورة # ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين # .
وجاءت عدة أحاديث تلح على عدم ظلم غير المسلم من ذلك قولهr :" من ظلم هذا أو نقص حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة " وقوله عليه السلام " من أذى ذميا فقد أذاني، ومن أذاني أذى الله "
وهكذا نلاحظ أن الإسلام لا يضع أي تمييز بين بني البشر بل يجعل الناس متساوين في الحقوق والواجبات ولا يحمل ما ينادي به أنصار العولمة من تمييز عرقي واحتكار السوق وإنما ينادي بالتآخي وأخذ القوي بيد الضعيف وبرفاهية البشرية وتحسين ظروف العيش بين سكان المعمور محاربة الفقر وعدم التسول ويعطي للإنسان قيمته ويركز على إنسانية الإنسان ويحارب استعباد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا كما أنه ينادي بعدم الإكراه في الدين في الآية 156 من سورة البقرة # لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي # وفي الآية 64 من سورة آل عمران # قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فان تولوا فقولوا اشهدوا بانا مسلمون# .
كما أن الإسلام ينادي بالاتحاد وعدم التفرقة # واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا# ، وبدون تمييز بين البشر # يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير# .
وهكذا يتضح من خلال سياق هذه الآيات وغيرها من الآيات الكثيرة أن الإسلام قائم على ثوابت هامة تتجلى في التآخي فأتوادد وحب الخير للجميع والأخذ بيد الضعيف والتساوي بين بني البشر والأمانة والإحسان وإصلاح المجتمع وخلافة الإنسان في الأرض مما يجعل المبادئ الإسلامية والتعاليم القرآنية والأحاديث النبوية أرضية صالحة لبناء عولمة جديدة ليس فيها تمييز، تلتقي فيها كل الحضارات وتعزز فيها الديمقراطية وتعيد الثقة والمصداقية في نفوس سكان القرية الكونية ( في ظروف تجتاز فيها حياة البشر ظروفا عسيرة وعصيبة بما يتلاحق من مشاكل، ويتفجر من أزمات، ويتجهم الخلق من سحاب، ويتطاول سماءه من نفوذ، ويتضاءل من جاه للرق وسلطان، ويشيع في النفوس من قلق وخوف، ويتوالى على الألسنة والقلوب من أسئلة لا يطرحها التفاؤل والاستبشار. وما أشد حاجة الإنسان، والظروف التي تحيط بحياته لا تنبش الاطمئنان ولا تزهر بالأمان، الى حظ كبير من الدعة، ونصيب وفير من التفكير فيما يعيد البشاشة، ويفيض الانشراح ويرد عازب الأصل).كما أعلن عن ذلك صاحب الجلالة المغفور له الحسن الثاني في خطابه السامي الذي ألقاه بمناسبة افتتاح أكاديمية المملكة المغربية في أبريل 1980.
ولن يتأتى للمجتمع الدولي الوصول الى عولمة حقيقية إلا إذا تمتنت أواصر الصلة بين سكان هذا الكون وساد الود والتآخي وغيرت دول الغرب لغتها وخطاباتها وحوارها السياسي والإيديولوجي والستراتيجي مع شعوب العالم ولم يعد هناك قطب منفرد بالهيمنة على الآخرين.
هــــوامــــــش
1 -Webster nuth New collegiate dictionary 1991 p521
2- ناصر الدين الأسد مرجع
3- د.محمد عابد الجابري- قضايا في الفكر المعاصر بيروت: مركز الدراسات الوحدة العربية 1997.
4- د.محمد الجابري - العولمة والهوية الثقافية- عشر أطروحات: دار المستقبل العربي بيروت العدد 228- 2/1998.
5- صادق جلال
6- على حرب - صدمة العولمة في خطاب النخبة - السفير، لبنان 6 يونيو 1998.
7- محمد عابد الجابري مقال منشور له بجريدة الشرق الأوسط تحت عنوان" أسئلة يجب الوعي بها 2-2-1997
8- أحمد صدقي الدجاني نقلا عن إسماعيل صبري عبد الله " الكوكبة"
9- la mondialisation de l'économie et de la société, une hypothèse prospective (in futuribles ) septembre 1989
10- Ramonet,1es pouvoirs fin de siècle in, le monde diplomatique Mai 1995
11- LE RETOUR DES CONQUERANT IN LE MONDE DIPLOMATIQUE MAI 1995
12- يحيى اليحياوي " العولمة ورهانات الإعلام " سلسة شراع العدد 33 .
13- مقتطف من العرض الذي ألقاه السيد محمد علال سيناصر بمناسبة أعمال الدورة الربيعية لأكاديمية المملكة المغربية ماي 1997.
14- ناصر الدين الأسد: الهوية والعولمة عرض القي في ندوة أكاديمية المملكة المغربية خلال دورتها المنعقدة في ماي 1997 تحت عنوان" العولمة والهوية "
15 - موقف سألوف كوستا عن مقال منشور بجريدة الحياء 22\1\97
16 - ناصر الاسد مرجع سابق
17 - فخ العولمة الاعتداء على الديموقراطية والرفاهية تأليف بيتر مارتن وهارالدشومار ترجمة عدنان عباس علي"عالم المعرفة " عدد238
18 - يتبنى هذا الرأي " هولسترثرو"كما وقعت الإشارة إليها بمقال منشور بجريدة الشرق الأوسط بتاريخ 2-3-1997
19 - عبد الهادي بوطالب عرض قدمه في ندوة أكاديمية المملكة المغربية في دورة ماي 1997 تحت عنوان"لابد من تكامل العولمة والهوية ليكون العالم واحدا ومتعددا"
20 - عن مقال منشور بجريدة السياسة الجديدة فاتح أكتوبر 1997 تحت عنوان "العولمة هل هي قدر محتوم" للباحث فوزي منصور الحلقة الثانية
21 - ناصر الدين أسد مرجع سابق
22 -جريدة ليكونومست بتاريخ 1-2-1996
23 -جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 2-2-1997
24 -محمد عابد الجابري مقال منشور له بجريدة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 8-2-1997 تحت عنوان " العولمة نظام وإيديولوجيا الحلقة الخامسة
25 -السيد ولد أباه مأزق إيديولوجية العولمة مقال منشور بجريدة الشرق الأوسط بتاريخ 2-2-1997
26 -جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 2-3-1997
27 -André Azoulay : la mondialisation ne peut pas être un jeu a somme-nulle عرض قدم في الندوة المشار إليها أعلاه
28 - عبد العزيز بن عثمان التويجري - الهوية من منظور حق التنوع الثقافي في ضوء فلسفة حوار الأديان والحضارات- عرض قدم في ندوة أكاديمية المملكة المغربية في <<ندوة العولمة والهوية>>
29 - محمد الكتاني - أي منظور لمستقبل الهوية في مواجهة العولمة عرض ألقي في نفس الندوة.
يحظى موضوع العولمة باهتمام كبير على المستوى الأكاديمي، ومن طرف أجهزة الإعلام والرأي العام ومختلف التيارات السياسية والمحافل الدولية والهيئات والمنظمات الرسمية، على اختلاف تخصصاتها ومشاربها وطنيا ودوليا، فلا يخلو لقاء ثقافي اقتصادي، أو علمي أو سياسي أو اجتماعي من الحديث عن العولمة أو الكونية أو الأمركة، بمناسبة أو بدونها، وذلك من اجل تدعيم طرح ما، أو دحض فكرة، أو تبرير أو تفسير قرار صعب ويتجلى ذلك من خلال عدد اللقاءات التي طرحت فيها فكرة العولمة، فقد نشرت العديد من الأبحاث في الأدبيات التي تتحدث عن هذا الموضوع لدرجة أن جريدة Le monde نشرت خلال شهر فبراير 97، ملحقا خاصا عن العولمة، وأطلقت على سنة 1997 عام العولمة.
ولعل هذه العناية من طرف الباحثين والمهتمين بهذا الموضوع يرجع لخطاب العولمة الملتبس، الذي يحاول من جهة جعل سكان الكون المتنامي الأطراف والمتعدد الهويات واللغات والأديان والثقافة، ينصهرون في قالب واحد تنمحي معه كل الفوارق، بحيث يصبح سكان هذا الكون ا شبه بسكان القرية الكونية، في حين أثبتت الممارسة من جهة أخرى، أن هناك تباينا بين خطاب العولمة وواقع الأمر، وهو ما أدى الى تضارب آراء الباحثين والمهتمين، بين مطالب بالأخذ بها والانفتاح عليها والتفاعل معها، باعتبارها الوسيلة الوحيدة لمواكبة قاطرة التقدم. وبين معارضين لها منادين بالقطيعة التامة معها اعتمادا على ما أفرزته من تناقض بين الخطاب والواقع المعاش.
وانبرى فريق ثالث نادى بالأخذ بالعولمة مع الحذر التام، لكونها قدر لا مرد له. ووقف العلماء المسلمون يتأملون هذه الظاهرة ولم تتناولها الأدبيات الإسلامية بما تستحقه من عناية رغم وجود كل الدلائل على أن الإسلام كدين وكفكر وتوجه يحمل ما ينبغي أن يكون عليه العالم وما ننتظره جميعا من العولمة في حقيقتها.
وهكذا سنتناول في هذه الدراسة تعريف العولمة وعومل تعميقها كمدخل عام، ثم سنقسم الموضوع الى قسمين:
القسم الأول : سنتناول فيه المنظور الغربي للعولمة حيث سنتعرف على مواقف كل من المتحمسين لها والمعارضين لها والمعتدلين الذين ينادون بالأخذ منها بحذر.
أما القسم الثاني من هذه الدراسة فسنخصصه للمنظور الإسلامي للعولمة على ضوء ما جاء به القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.
تعريف العولمة:
لم يستطع أي واحد من رجال السياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع الخ... وضع تعريف واضح لمصطلح العولمة نظرا لكونها تهم كل المجالات الحياتية الشيء الذي يطرح صعوبة في تعريفها.
وهكذا فقد عرفها معجم sاwiber بأنها اكتساب الشيء طابع العالمية وبخاصة جعل نطاق الشيء أو تطبيقه عالميا) 1. وهذا التعريف الذي أورده هذا المعجم يعتبر بعيدا كل البعد عن دلالة اللفظ والمقصود منه اعتمادا على ما هو متعارف عليها اليوم.
أما تعريفها اقتصاديا فيعني "استقطاب النشاط السياسي والاقتصادي في العالم حول إرادة مركز واحد من مراكز القوة في العالم " .
وعلى مستوى الترجمة فإن مصطلح“ La globalisation “ الإنجليزية و“La mondialisation” الفرنسية تمت ترجمتها الى العولمة. وترجمها البعض الآخر بالكونية أو الكوكبة. إلا أن مصطلح العولمة هو الراجع في الاستعمال.
ويثير مصطلح العولمة أو الكونية على غرار مجموعة من المصطلحات التي أصبحت متداولة الكثير من التساؤلات والإشكاليات بين الباحثين والمهتمين على اعتبار أن مفهوم العولمة ما زال مفهوما هشاملا في أغلب المجالات التي وظف فيها هذا المصطلح، ( لأنها مجرد إرادة تتجه للتحقيق الفعلي أو أفق قادم حتى يتبلور بوثيرة سريعة ومطالبة ملحة بهذا التحقيق، وليس فعلا حاصلا) فهي بذلك مجرد مشروع لم يكتمل بعد بنيانه، وهو ما قد يشكل خلطا لدى بعض المتعاملين مع هذا المصطلح وجعل ( بعض النقاد والمبدعين المحللين الاجتماعيين يذهبون مذاهب مختلفة في فهمها وتعريفها وتفسيرها ولذلك تأتي أحكامهم أحيانا غامضة ومتباعدة بسبب غموض منطلقاتهم واختلاف هذه المنطلقات حتى أصبح الباحثون في هذا الموضوع والمتحدثون عنه يتساءلون هل من الأفضل أن تترك هذه الألفاظ والمصطلحات وأمثالها تحديد ربما لأنها بطبيعتها غير قابلة للتحديد> وأن يتحدث عن بعض مظاهرها ونتائجها وعلاقاتها بغيرها اعتمادا على وجود قدر مشترك من الفهم بين المتحدثين عن هذه الألفاظ والمصطلحات يتيح توصيل الآراء والتحليلات إلى الآخرين مهما اختلفوا في التفصيلات والفروع)2.
ومن بين التعاريف التي أعطيت للعولمة أو الكونية ما قاله عنها “MARTIN WALTER” من أنها عملية اجتماعية تتوارى فيها القيود والحواجز الجغرافية والأوضاع الثقافية والاجتماعية وبالتالي فإن الظاهرة لن تحدث بصورة مطلقة مرة واحدة ولكن سوف يتدرج حدوثها من المشاكل التي أخذت صفة العالمية).
يعرفها محمد عابد الجابري بأنها ( ما بعد الاستعمار، باعتبار أن آل-ما بعد - في مثل هذه التعابير لا يعني القطيعة مع آل-ما قبل- بل يعني الاستمرار فيه بصورة جديدة ) 3.
كما يعرفها أيضا نفس الباحث المغربي بأنها ( ليست مجرد آلية من آليات التطور الرأسمالي بل هي أيضا وبالدرجة الأولى إيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم)4.
ويعتبرها صادق جلال العظم بأنها ( حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ )5.
أما الباحث "على حرب" فيرى أننا ( إزاء حدث هو من الغنى والكثافة والتعقيد ما يجعله ينفتح على غير معنى واتجاه، ويفتح غير مكان ومجال، بقدر ما يطلق قوى اجتماعية جديدة أو يتيح انبثاق تشكيلات ثقافية مغايرة. والواقع أن من يتابع ما يكتب أو يقال حول العولمة سواء في الصحافة أو في الندوات الفكرية، يجد تعارضا في المواقف هو تجسيد للاختلاف في القراءة والتشخيص)6.
وقد حاول الدكتور محمد عابد الجابري وضع مقاربة للعولمة معتبرا بأنها ( نظام أو نسق ذو أبعاد تتجاوز دائرة الاقتصاد وأنها نظام عالمي يشمل المال والتسويق والمبادلات والاتصال كما يشمل أيضا مجال السياسة والفكر والإيديولوجيا)7.
أما الدكتور صبري إسماعيل فيرى ( أن العولمة ظاهرة تتداخل فيها أمور الاقتصاد والسياسة والثقافة والاجتماع والسلوك يكون الانتماء فيها للعالم كله عبر الحدود السياسية الدولية وتحدث فيها تحولات على مختلف الصعد تؤثر على حياة الإنسان في كوكب الأرض أينما كان. ويسهم في صنع هذه التحولات ظهور فعاليات جديدة هي الشركات متعددة الجنسيات “s’tnc” التي تتسم بالضخامة وتنوع الأنشطة والانتشار الجغرافي والاعتماد على المدخرات العالمية وتعبئة الكفاءات من مختلف الجنسيات وتبرز بفعل هذه التحولات قضايا لها صفة " العالمية " مثل قضية الممتلكات العامة البشرية من بحار وفضاء وقارة قطبية جنوبية وقضية صيانة البيئة وتحركات سكان الأرض وقضية الفقر في العالم وقضية الجريمة المنظمة كما تثور تساؤلات لها صفة العالمية حول دور الدولة في ظل هذه التحولات ودور الجماعات الأهلية في أوطانها ودور المنظمات الأهلية متعددة الجنسيات التي قامت مؤخرا في إطار العولمة في الغرب خاصة فضلا عن دور منظمة الأمم المتحدة والمنظمات المتخصصة المنبثقة عنها) 8.
والحقيقة أن كل التعاريف التي أعطيت للعولمة تعتبر صالحة لان كل واحد منها يلامس الواقع في أحد جوانبه لأنها واقعة مركبة ومعقدة وتنطبق عليها كل المواصفات التي أشرنا إليها سابقا .
وهكذا يتجلى أن العولمة هي مولود جديد جاء نتيجة تلاحق ظاهرتين اثنتين سبقتها: ظاهرة التدويل " internationalisation " وظاهرة تعدد الجنسيات "mutinationalisation " وفي هذا السياق يرى Perla, R بان ( العولمة هي مجموع المراحل التي تمكن من إنتاج وتوزيع واستهلاك السلع والخدمات:
- لفائدة أسواق عالمية " أو ستنظم " وفق مقاييس ومعايير عالمية من طرف منظمات ولدت أو تعمل على أساس قواعد عالمية بثقافة تنظيم منفتحة على العالم وتخضع لاستراتيجية عالمية من الصعب تحديد فضائها " القانوني والاقتصادي والتكنولوجي " بحكم تعدد ترابطات وتدخلات عناصرها في مختلف العمليات "الإنتاجية" قبل الإنتاج وحتى بعده)9.
- ومواكبة لهذه العولمة الاقتصادية والمؤسسات الإنتاجية عرف العالم عولمة الرموز والمؤسسات التي تنتج هذه ألا لآت في مجال الإعلاميات والاتصالات السمعية البصرية حيث أصبح ( إرسال المعطيات بسرعة الضوء 300000 كيلومتر في الساعة ورقمنه النصوص والصورة والصوت والالتجاء لأقمار الاتصالات وثورة الهاتف وتعميم المعلوميات في قطاعات إنتاج السلع والخدمات وتصغير الحواسب وربطها داخل شبكات قد مكنت من خلق انقلاب في نظام العالم)10.
- فعولمة راس المال كما يقول "ريكاروبتريلا" (سارعت وتيرة تدويل الاستثمارات والقطاع الإنتاجي موازاة مع تداخل التيارات التجارية عبر الجهات العالمية الكبرى وقد مكن هذا التداخل بدوره -عبر التنمية الخارجية- من تحفيز عولمة المؤسسات والاستراتيجيات والأسواق من استثمارات مباشرة بالخارج ونقل الصناعات وتحالفات واختصاصات الخ...وهكذا فكل مجموعة صناعية ومالية مهمة تتبع استراتيجية في كل جهات العالم وخصوصا بأمريكا الشمالية وأوربا الغربية وشرق وكذا جنوب شرق آسيا)11.
- ويقاسم نفس الرأي الصحفي المغربي يحيى اليحياوي عندما اعتبر (الغازين الجدد " ذوو قدرات مالية هائلة يتصرفون بفضلها في تخصيص وتوزيع الموارد العالمية يحددون القيم والرهانات والأولويات " ويفبركون " على مزاجهم قواعد اللعبة: " أسياد العالم هم اليوم قلة تتمثل في بضعة مئات أشخاص رؤساء وأعضاء لجن تسيير لمؤسسات قليلة العدد تعمل في ميادين الإلكترونيات والمعلوميات والاتصالات والبرامج والسمعي-البصري والصحافة والنشر والتوزيع ربعهم متمركز في اروبا ومثيل له في آسيا والباقي في أمريكا. وعلى اعتبار التحالفات التي يبرمونها بينهم يمكن القول أن عشرة شبكات عالمية متداخلة وضخمة فقط هي التي تسير الاقتصاد وترسم معالمه المستقبلية على أساس أنه قليلة هي المؤسسات التي تستطيع لوحدها فرض منطقها وسلطتها على السوق العالمي بل حتى مفهوم الأقطاب لم يعد ذو قوة تفسيرية ذات بال فقد انصرف عنه لصالح مصطلح شبكات التحالفات المتعددة الأقطاب لم يعد السوق العالمي في ظل العولمة مجرد فضاء مادي تتم من خلاله العمليات التجارية والمالية كما عهدناه في مرحلتي التدويل وتعدد الجنسية بل أصبح ملتقى إعلاميا كوكبيا يتم في إطاره تبادل المعطيات والتحكيمات المالية على حساب الاقتصاد الواقعي أو المادي " réelle économie ". وخرجت من صلبه مافيا نشيطة ذات خبرة واسعة في مجال المضاربات المالية (وحتى العقارية) واندرجت مفاهيم المنافسة الحرة وقيم الشفافية لصالح الممارسات الاحتكارية وثقافة الارتشاء والتهرب من الضرائب. والعولمة التي صنعتها وكرستها وسايرتها تكنولوجيا الإعلام والاتصال( من بين عوامل أخرى) لم تسحب السجاد من تحت إقدام مفاهيم القومية ( بمعنى القطرية) والسوق الوطني والحدود الجغرافية فحسب بل سحبته أيضا من تحت أقدام الدولة ( أو الدولة/الأمة) بتشريعاتها ومعاييرها ونظم تسييرها فتحولت الدولة الى مجرد متفرج على قرارات تتخذ داخلها من طرف شبكات المال والأعمال العالمية النشاط فأفرغت بذلك من دورها كفاعل رئيسي في عملية تحديد السياسة الاقتصادية وحتى من سلطتها الجبائية على الموارد " المارة " عبر كيانها الجغرافي)12.
ومن خلال التعريفات التي سقناها يتضح أن العولمة واقع يتميز بتزايد الارتباط والاعتماد المتبادل بين المجتمعات البشرية في المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية والإعلامية وغيرها من المجالات ساهمت في ترسيخها كتوجه عالمي الثورة التكنولوجيا في مجال المعلومات والتواصل التي منحت للبشرية فرصا وفوائد كبيرة لكنها في نفس الوقت تتضمن أخطارا لا يستهان بها خصوصا إذا لم يتم التعامل معها بحذر.
لقد دق الأمين العام السابق للأمم المتحدة ناقوس الخطر في إحدى محاضراته معلنا " أننا نعيش في غمرة ثورة شملت المعمورة بأجمعه مضيفا بأن كوكبنا يخضع لضغط تفرزه قوتان عظيمتان متضادتان/ انهما العولمة والتفكك ".
والوقع الذي ينبغي أن نومن به هو أن ( العولمة أصبحت ظاهرة معاشة تعبر عن تكتل العالم وتثير أخطر قضايا الساعة كالتشغيل وحدة المسالة الاجتماعية وبعض الجوانب من حقوق الإنسان. وإذا كانت قد توسعت فيها الاستفادة من حجم المبادلات والمواصلات فإن الهوة بين الفقر والغنى ربما تزداد عمقا واتساعا هي الأخرى. ولعل مفهوم العولمة قد ارتبط أساسا بالنمو السريع والكبير الذي عرفه الاقتصاد العالمي منذ أواخر السبعينات. كما أن الشركات المتعددة لجنسيات ساهمت في إشاعة هذا المفهوم لأنها كانت المستفيدة بالدرجة الأولى مما يسمى بالأنماط الشمولية التي تنطبق على مجمل الأبعاد سواء الاقتصادية أو المالية أو الثقافية أو الإنسانية وكذا على مستوى البنى سواء كانت وطنية أم جهوية أم عالمية. وبذلك فان العولمة تكون ظاهرة ناتجة عن تعميم اقتصاد السوق حيث شكلت السوق النقدية منذ بداية السبعينات وبدأت مع عولمة التجارة في إطار " الغات " واستمرت مع المنظمة العالمية للتجارة. وفي نفس السياق استفاد الفاعلون الاقتصاديون من الإجراءات ذات التوجه الليبرالي بإدراكهم أن السوق أكثر أهمية من الدولة في تحفيز الصناعة والزيادة في الإنتاج وضمان النمو) 13.
ونستنتج مما ذكرناه أعلاه أن العولمة أصبحت متعددة الأبعاد ولم تبق منحصرة في المجال الاقتصادي بل امتدت الى المجال الثقافي بمختلف فروعه والى المجال القانوني والتواصلي والإعلامي. وحتى الإجرامي وفي هذا السياق يقول الدكتور بطرس غالي " ليست هناك عولمة واحدة بل ثمة عولمات عديدة فعلى سبيل المثال هناك عولمة في مجال المعلومات والمخدرات والأوبئة والبيئة وطبعا وقبل هذا وذلك في مجال المال أيضا. ومما يزيد الأمر تعقيدا أن العولمة قد صارت تتعاظم في المجالات المختلفة بسرعة متباينة " .
ويمكننا القول بأن العولمة الحقيقية التي ينبغي تبنيها والدفاع عنها هي تلك التي تهدف جعل سكان العالم أشبه بسكان القرية الكونية. ولتحقيق هذا الهدف ينبغي أن يكون هناك وعي بين مختلف طبقات المجتمع المدني العالمي بقضايا هذا العالم في إطار شمولي وموحد يساهم في بنائها وبلورتها وقولبتها المجتمع العالمي بكامله لا أن ينفرد به قطب معين على حساب مصالح الآخرين أو فرض سيطرة جهة على أخرى. وأن يقوم زارعو نبتة العولمة والمدافعين عنها بتغيير لغتهم وخطاباتهم وحوارهم السياسي والأيديولوجي الاستراتيجي مع شعوب العالم وفتح أواصر جديدة للإخاء والتعاطف.
عوامل تعميق العولمة :
العولمة باعتبارها واقع اقتصادي اجتماعي وتقني تعمق منذ نهاية الثمانينات بسبب مجموعة من العوامل نذكر منها :
1- تظافر مجموعة من الأحداث التي عملت على تغيير الخريطة السياسية والتجارية الدولية والمتمثلة في انهيار الكتلة الشرقية بنموذجها السياسي والاقتصادي والقانوني وعلاقتها الدولية.
2- هيمنة أيديولوجية اللبرالية واقتصاد السوق والمؤسسات المالية والتجارية.
3- زيادة دمج الاقتصاديات الوطنية في الاقتصاد الدولي على أسس لبرالية.
4- ظهور التكتلات الاقتصادية الدولية التي أصبح معها العالم ينتظم حول ثلاثة أقطاب: أولها أوربا التي تعمل بوثيرة سريعة على بناء قارة جديدة " أوربا القران الواحد والعشرين " وثانيها " أمريكا الشمالية " حيث يتشكل فضاء اقتصادي هائل قائم على قاعدة التبادل الحر وثالثها " الفضاء الأسيوي الهادي " الذي برز فيه عمالقة جدد في الاقتصاد لعالمي ويقوم الآن ببناء سوق عملاقة تتكون من اليابان قائدة القاطرة ومن الصين باعتبارها طاقة اقتصادية صاعدة.
5- انخراط قوى عظمى في منظومة اللبرالية الاقتصادية رغم احتفاظها بنموذجها السياسي ونعني بها الصين الشعبية.
6- التطور السريع في تقنيات التواصل والإعلام ووسائل المواصلات.
7- نقل القواعد اللبرالية للدول الرأسمالية وتعميمها على مختلف الدول عبر المؤسسات الدولية ولاسيما المؤسسات المالية الدولية والمنظمة العالمية للتجارة التي حلت محلها لتقوم بضبط حركة وإيقاع التجارة العالمية وتشجيع الحرية التجارية وإزالة الحواجز الجمركية.
8- ظهور المنظمات الدولية والإقليمية حكومية وغير حكومية التي تعمل في أنشطة متعددة على نطاق لم يسبق للمجتمع الدولي أن شهده في أية مرحلة سابقة ولم تعد معها الدولة هي القوة الوحيدة التي تصدر القرارات في العلاقات الدولية، كما أن هذه المنظمات الدولية تهدف تخفيف التوترات وتعميق مجالات التعاون بين الدول وتنظيم شؤون المجتمع الدولي.
9- تشجيع تنقل الرساميل من بورصة مالية إلى أخرى خلال فترة وجيزة لا تتعدى الثانية وذلك في إطار البحث عن أحسن توظيف وأعلى نسبة من الربح . فقد ( أدت ثورة المعلومات والاتصالات من ناحية والحاجة إلى غزو الأسواق من ناحية أخرى إلى " ثورة مالية " لا تقل خطورة وأهمية عن الثورة الصناعية في مراحلها الأولى. فإلى جانب الثورة العينية من أراضي ومناجم ومصانع وبنية أساسية أصبحت الثورة المالية في شكل أسهم وسندات وأوراق مالية متعددة تمثل حقوقا ومطالبات على هذه الثروة العينية وتسهل من حركتها وانتقالها. وقد ساعد على ذلك وارتبط به تعدد الأوراق والأصول المالية فظهرت أشكال وتطورت الأشكال القائمة من خيارات أو حقوق أو رخص في عدد متزايد من المشتقات المالية وثورة المعلومات والاتصالات ساعدت في نقل هذه الأصول والثروات في لمح البصر دون أن تدركها عين أو تلحظها يد رقيب. فأصول المالية تتداول الآن على مستوى العالم وهي تنتقل من مكان إلى آخر أو من عملة إلى أخرى في شكل ومضة كهربائية أو نبضة إلكترونية. وهكذا أدت هذه الثورة المالية الجديدة إلى تقريب أجزاء المعمورة قفزا على الحدود السياسية وتجاوزا للمكان واختصارا للزمن. ولكن السيولة العالية للاقتصاد العالمي وهذا الإفراط في التداول المالي على حساب الثورة العينية وان أديا إلى درجة كبيرة من التقارب والاندماج فانهما قد ساعدا بالمقابل على زيادة حدة الاضطراب وعدم الاستقرار في الأسواق العالمية )10م.
10- تدويل المؤسسات أي أن المقاولة اليوم يمكنها أن تصنع جزءا من هذا المنتوج أو ذاك في هذا البلد أو ذاك وجزءا آخر في بلد آخر وأجزاء أخرى في بلد آخر وهكذا دواليك ثم تقوم بتجميع هذه الأجزاء فيما بعد في منتوج عالمي من أجل سوق هي نفسها عالمية.
11- ظهور الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات كقوة اقتصادية رئيسية تمتلك قدرات تنظيمية ومادية وتقنية وإيديولوجية تؤهلها لإدارة العالم كوحدة مترابطة وتمهد لإلغاء دور الدولة. فهي قائمة في الأساس على فكرة تحويل العالم إلى سوق واحدة وتدويل المجتمع الإنساني والتخطيط المركزي للإنتاج والاستهلاك العالمي، وتهدف هذه الشركات العملاقة السيطرة الكاملة على النشاط الاقتصادي وتحويله إلى نشاط عالمي يتعدى حدود السلطة المحلية للدول. كما تتميز هذه الشركات بضخامتها وتنوع نشاطها وانتشارها الجغرافي.
القسم الأول
المنظور الغربي للعولمة:
سنتناول في هذا القسم المنظور الغربي للعولمة من خلال مختلف الآراء التي ناقشت هذا الموضوع ونادت بإلزامية الانخراط في هذه المنظومة أو الابتعاد عنه ونادت بمحاربة هذا التوجه كما سنتناول أيضا موقف المعتدلين من العولمة.
1- المتحمسون للعولمة
يرى المتحمسون للعولمة أنها( قدر لا مرد له، وأنها ستصيب أمم المعمور، التي لم يعد أمامها إلا الخضوع والاستسلام لها)14. ولذلك يعتبرونها فرصة ينبغي أن لا تضيع، لأنها حسب رأي هؤلاء المفتاح السحري لكل قضايا البشر الذي سيتمكن من خلاله العالم من فتح بوابة القرن الواحد والعشرين المقبل، بثورته التكنولوجيا والتواصلية على مصراعيه وأنها جنة الأرض الموعودة، ويلوح أنصار العولمة بالتهديد بالدمار الشامل، في حالة عدم الانخراط في هذه المنظومة الكونية(لأنها سوف تقرر ليس مصير حضارة معينة، أو أمم محددة بل مصير البشرية كلها)15. باعتبارها ( ظاهرة العصر وسيمته، وإن الوقوف في وجهها ومحاولة تجنبها، أو العزلة عنها إنما هو خروج على العصر وتخلف وراءه)16. فخبراء الاقتصاد العلمي سواء منهم العاملون في منظمة التنمية التعاون الاقتصادي أو في البنك الدولي أو في صندوق النقد الدولي يشجعون الدول على المضي قدما في عملية التكامل على المستوى العالمي. ( فهؤلاء الخبراء يلحون على أن إزالة الحدود أمام السوق يعبد الطرق أمام العلم الثالث للخروج من مأزق الفقر والتخلف معتبرين أن العولمة تحسن من فرص البلدان النامية للحاق اقتصاديا بركب الدول الصناعية. (فمن خلال العولمة فقط سيكون بوسع ستة مليار مواطن في العالم المشاركة في تلك الانتصارات التي لم ينعم بها حتى الثمانينيات سوى ستمائة مليون في البلدان الصناعية القديمة لا غير)17.
وإذا نظرنا إلى العولمة من زاوية أخرى، فإننا نجد المناصرين لها يؤكدون على(أنها فرصة تاريخية لكسر طوق التخلف عن الدول النامية)18.
ويركز الخطاب الأمريكي على القول: (بأن العولمة ليست مجرد خيار قابل للتبني والرفض، بل هي حتمية لا مناص عنها في توجه النظام العالمي الجديد. ولا خيار للعالم النامي غيرها آلا خيار بقائه محبوسا في تخلفه.ويضيف هذا الخطاب أن العولمة هي اقرب الطرق وأجداها لتحقيق الحداثة السياسية والاجتماعية والفكرية للعالم المتخلف وهي أنجع الوسائل لطيها بسرعة مراحل التنمية الشاملة لأنها وحدها الكفيلة بتأهيله اقتصاديا. وبالتالي فكريا واجتماعيا. بل يذهب الخطاب إلى قول أن تغيير العالم إلى أفضل مرهون بتطبيقها)19.
لقد تبنى هذه الطموحات ودافع عنها بحماس كبير نخبة من المثقفين (الذين كانوا إلى عهد قريب من غلاة الاشتراكيين الذين يستقطب الشباب في الجامعة من تلامذته للفكر الاشتراكي أو الماركسي ويدافع عنه في المؤتمرات الحزبية والجماهيرية فإذا به فجأة ينقلب إلى لبرالي متحمس للبرالية والاندماج في السوق الرأسمالي العالمي والتبشير بالعولمة الجديدة ويشيد بشبكة الانترنيت أو يقدمها كدليل على مصداقية العولمة ومظهرها الحداثي أو ما بعد الحداثة أو يتحول إلى محاضر نشيط عن العولمة داخل بلاده وخارجها. فهذا الفريق الذي يدافع عن العولمة يضم صفوة النخبة الثقافية لدينا أو من يوصفون بذلك من أساتذة جامعيين وسياسيين وصحافيين في دول العالم الثالث والذين تستهدف العولمة الإبقاء على شعوبهم راسخة في أغلال الفقر والاستغلال والتبعية ومع ذلك يدافعون عنها بحرارة مطالبين شعوبهم بالاندماج فيها حتى لا يفوتهم قطارها والتأقلم مع ما يعتبرونه من شروطها ومتطلباتها من الانفتاح عليها والاستسلام لها وإطلاق لحرية التجارة ورفع القدرة التنافسية وينسبون لها الفضل بتحقيق الأمل في الديموقراطية وترسيخ مبادئ حقوق الإنسان وحل أزمة البطالة والإسكان والقضاء على الفقر والتخلف وتحرير المرأة حتى أصبحت في نظرهم الدواء الشافي من كل داء)20.
والواقع أن العولمة التي هي الآن في طور البناء ليست حتمية كما يدعي المتحمسون لها وأن الحتمية التي يدعونها هي في نظرنا مجرد تكريس وترويج لمذهب وسياسة خاصة لا ترتكز على أي أساس لأن العولمة ليست أمرا محققا فعلا ومكتملة البنيان وإنما هي إرادة تتوجه نحو التحقيق الفعلي وليست بالشيء المنتهي حتى نكون ملزمين ومرغمين بالخضوع لها.
لكن إذا كانت العولمة كما ينادي بها المتحمسون لها ستعمل على إسعاد البشرية ورفاهيتها وإخراج الدول الفقيرة من فقرها وستعمل على طي مراحل التنمية فإن الانخراط فيها سيكون تلقائيا وعن طواعية لأنها علاج يبتغيه الجميع ومنظومة سينخرط فيها الجميع.
2-المعارضون للعولمة:
وعلى النقيض من ذلك فإن المعارضين للأخذ بالعولمة لا يفتأ ون يحذرون من هذه العولمة ويطالبون بمقاومتها لأنها حسب رأيهم وان بدت براقة إلا أنها لاتحمل في جوانبها قدسية البراءة فهي تعمق الفوارق وتضاعف من عجز الدول أمام ديكتاتورية الأسواق المالية(التي تحصر النشاط الاقتصادي في عدد من الشركات العالمية في الدول الصناعية الكبرى ولما تفرضه من اتجاهات وقوانين تقلص الصناعات الوطنية وتزيد فقر الفقراء وتشييع البطالة)21.
فالأساس الذي اعتمدته العولمة في انطلاقتها هو تآخي وشمول شعوب العالم بالرفاهية ووضع حد لظاهرة الفقر المزرية. في حين أن ما تمت عولمته هو البؤس والفقر وزيادة الهوة بين الدول الفقيرة والغنية وزيادة البطالة والخوف والقلق من المستقبل وتعميق ظاهرة الفساد والاتجار في المخدرات والجريمة المنظمة والحرب وعدم السلام والأمن وزيادة ثراء لدا طبقة محصورة.
فقد أصبح مصطلح العولمة يعني اتساع الفرق بين البشر وبين الدول وهكذا نجد مثلا أن عدد الأثرياء في العلم يصل إلى 358 ملياردير فهؤلاء يمتلكون ثروة توازي ما يملكه مليارين ونصف من سكان المعمور وأن عددا قليلا من دول العالم تستغل %80 من الناتج العالمي الإجمالي و%84 من التجارة العلمية ويمتلك سكانها %85 من مجموع المدخرات العالمية.
ومن بين الناقمين الكارهين للعولمة الوزير الأمريكي " روبير ريتش" الذي يأخذ على العولمة(مضيها في إنشاء نظام من الطبقة السفلة داخل الديموقراطية الصناعية يتسم بالفقر وانعدام الأمل)22.
لقد أدت العولمة ( إلى إعدام بعض المصطلحات المهمة التي شغلت ساحات الفكر والسياسة لفترة طويلة مثل مصطلح" العالم الثالث" " ومصطلح التحرر" " والتقدم " "وحوار الشمال والجنوب" والتنمية الاقتصادية. وهناك من اعتبر أن أيديولوجيتها تتميز بفقرها الرمزي والتصويري ولا ترضي التطلعات البشرية الدفينة ولا تتوفر على عناصر الحكم والأمل التي تلازم الرؤى الجماعية لضبط العلم وتغييره)23.
فالعولمة في رأي المعارضين لها تبتلع السياسة وتحل محل الدولة في ميادين المال والاقتصاد والإعلام الخ....ويترتب على ما تفرزه العولمة من نتائج " تضاءل إمكانات الدول المختلفة على التدخل أكثر فأكثر في حين يتعاظم أكثر فاكثر تجاوز اللاعبين الدوليين حدود اختصاصهم من دون رقيب يذكر. ولعل القطاع العام خير دليل على ذلك كما يقول بطرس غالي الأمين العام السابق لهيئة الأمم المتحدة مضيفا بأن قادة الدول بصفتهم هذه فإنهم لا يزالون يتصورون بأن السيادة الوطنية ما فتئت في أيديهم وأن بمقدورهم السيطرة على العولمة في النطاق الوطني وأن القادة السياسيين لم يعودوا يمتلكون الكثير من مجالات السيادة الفعلية التي تمكنهم من اتخاذ القرار. إلا أنهم يتصورون بأنهم قادرون على حل المسائل الرئيسية. إني أقول أنهم يتوهمون إنهم يتخيلون أن هذا بوسعهم.
( والواقع أن دور الدولة في عصر العولمة قد تقلص في القيام بدور الدركي لنظام العولمة نفسه. وإذا تقلصت مهام الدولة انحصر مجال السياسة. فالعولمة تقتضي الخوصصة أي نزع ملكية الأمة ونقلها للخواص في الداخل والخارج وهكذا تتحول الدولة إلى جهاز لا يملك ومن لا يملك لا يراقب ولا يوجه.وبالفعل فدور الدولة في المراقبة والتوجيه في المجال الاقتصادي يتقلص في نضام العولمة إلى درجة الصفر أو على الأقل يراد منه ذلك. أما في مجال الاتصال والإعلام والثقافة فالمراقبة أصبحت مستحيلة عمليا إذ لم يعد للدولة في هذا المجال سوى خيار واحد وهو تسهيل الاتصال وسريان الإعلام لفائدة الشبكات العالمية .أما السياسة الخارجية في نضام العولمة فتتولاها بصورة مباشرة أو غير مباشرة مؤسسات ما يسمى " المجتمع الدولي " وعلى رأسها مجلس الأمن. هذا فضلا عن التأثير التي تمارسه المؤسسات الاقتصادية " العالمية " مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي. جميع هذه الشؤون التي تنتزعها العولمة من الدول تنتزعها أيضا من السياسة فتتركها بدون موضوع لأن العولمة تفرض طريقا واحدا وفكرا وحيدا: اللبرالية ولا شيء غير اللبرالية تعني اليوم الخوصصة والعولمة.
أما المواطنون في عالم العولمة فهم صنفان : المستهلكون للعولمة المندمجون فيها والمشددون إلى " الخارج " خارج الدولة والأمة والوطن هؤلاء مشغولون ومستلبون في عالمهم الا مرئي عالم الاتصال الذي لا يسمح بالانفصال وإمكانيات الاستقلال بالرأي وهؤلاء إذا يعيشون في عالم اللا نسانية. أما الصنف الثاني من المواطنين فهم جموع المحرومين المنبوذين من عاطلين عن العمل ومسرحين ومهمشين ومقهورين الخ....هؤلاء تتركهم العولمة لقانون اصطفاء الأنواع)24. بل إن هناك من يذهب أبعد من ذلك ويعتبر أن %20 من السكان العاملين ستكفي في القرن القادم للحفاظ على النشاط الاقتصادي الدولي. وإنه سيسود العالم مبدأ " إما أن تأكل أو تؤكل ".
ويضيف المعارضون لركوب هذه القاطرة بأنها جرافة المعلوميات والتكنولوجيا الجبارة وإنها ستؤدي إلى تدمير منهجي لثقافة الشعوب باعتبارها قوة استعمارية جديدة أو أصولية جديدة أخطر من أي أصولية ثقافية أو دينية.
وهناك من يرى (إن العولمة عبارة عن القولبة الكلية للأحادية الأكثر اتساعا وشمولية تنجرف إليها الأوضاع الدولية مدفوعة نحوها بالثورتين الاقتصادية والمعلوماتية المذهلة)25.
واعتمادا على ما ذكر ينبغي في نظر هؤلاء المعارضين الانغلاق على الذات والانكماش داخل بوثقة ضيقة. ولعل لهؤلاء ما يشفع لهم في مواقفهم هذه خصوصا عندما نقرأ أقوالا كتلك التي وردت في كتاب " المشكلون لسلوك الشعب لمؤلفه نانس باكاد " الذي اعتبر في مؤلفه ( أنه من الممكن استخدام معارفنا المتطورة لاستعباد الناس بطريقة لم يحلم بها أحد من قبل بإلغاء شخصياتهم المتميزة والسيطرة على عقولهم بوسائل يتم اختيارها بعناية بحيث لا يدركون أنهم فقدوا شخصياتهم) .أو عندما نسمع العالم الأمريكي "سكنير " يقول (نحن نحتاج إلى تقنية جديدة لتغيير السلوك البشري ولا نحتاج لأجيال متعاقبة من "السوبرمان" تملك الوسائل القادرة على زرع السلوك الذي نريده).
وهكذا نرى أن مفهوم العولمة حسب رأي المعارضين لها هو توسيع الهيمنة الأمريكية وأمركة العالم كله وهو ما أعلنه بالفعل فريدمان ( نحن أمام معركة سياسية وحضارية فظيعة. العولمة هي الأمركة والولايات المتحدة قوة مجنونة نحن قوة ثورية خطيرة وأولئك الذين يخشوننا على حق إن صندوق النقد قطة أليفة بالمقارنة مع العولمة. في الماضي كان الكبير يأكل الصغير أما الآن فالسريع يأكل البطيء)26.
و يرى المهتمون بالشؤون الاقتصادية أن النهج الذي تسير فيه الولايات المتحدة راعيةالعولمة اخذ ينهار بسبب ما يلاحظ من انتشار الجريمة في هذا البلد. ففي ولاية كاليفورنية فقط التي تحتل بمفردها المرتبة السابعة في قائمة القوى المخصصة لقطاع التعليم إن هناك 28 مليون مواطن أمريكي أي ما يشكل عشر السكان قد حصنوا أنفسهم في أبنية وأحياء سكنية محروسة. ومن هنا فليس من الغريب أن ينفق المواطنون الأمريكيون على حراسهم المسلحين ضعف ما تنفقه الدولة على الشرطة لكونها تخفي من ورائها أضرارا خطيرة. فهي كما صورها "كرولين طوماس وتبيستر ولكين" في كتابهما الذي صدر سنة 1997 تحت عنوان " العولمة والجنوب " بانما" ليست فقط تكرس الفروقات وانعدام العدالة الاجتماعية والمساواة بين الشمال المتخم بالغنى والجنوب المدقع بالفقر، وإنها تضاعف هذه الفروقات وتجعل من الصعب إن لم يكن من المستحيل ردم الفجوة التي اتسعت وسوف تتسع مع العولمة ليست في دول الجنوب فحسب، وإنما سوف تعمق جيوب الفقر داخل الغرب نفسه بل إن الخوف امتد إلى عدم تخوف الجناح المتطرف من العولمة يرجع لعدم وضوح الرؤيا بالنسبة لخطاب العولمة في الاقتصاد العالمي " فهي لا تتبع بالضرورة مبدءا واحدا يسري على كل أرجاء المعمورة. ففي حين تدعو بلدان الرفاهية القديمة إلى ضرورة تراجع دور الدولة وإعطاء قوى السوق مجالا أوسع تطبق على البلدان الصاعدة حديثا العكس من ذلك. كما أن قادة المؤسسات أنفسهم الذين يرفضون في الولايات المتحدة الأمريكية أو ألمانيا كل أنواع التدخل الحكومي في قراراتهم الاستثمارية رفضا قاطعا نعم هؤلاء أنفسهم يخضعون في آسيا صاغرين استثمارات تبلغ المليارات للشروط التي يضعها البيروقراطيون الحكوميون الذين لا يتهيبون من تسمية عملهم بالتخطيط الاقتصادي المركزي. ولكن على ما يبدو ترسي الأرباح المتحققة في سياق معدلات نمو تتكون من خانتين كل التحفظات الأيديولوجية".
والخلاصة التي يمكن أن نستنتجها من مواقف المعارضين للأخذ بالعولمة هو أن الغرب مبدع هذا المصطلح ومهندس مضامينها وهويتها ومرتكزاتها الفكرية والاقتصادية: يحاول الاستبداد بها وجعلها قاصرة على حضارته هو فقط دون غيره من سكان المعمور كما يفهم ذلك من مختلف الخطابات التي يروج لها من "نهاية التاريخ " التي لا تؤمن بكل الحضارات السابقة وإنما تؤمن بحضارة الغرب وخطاب " صدام الحضارات " التي يعمل الغرب على خنق أنفاسها وتشتيت صفوفها. ومن هنا فإن المعارضين للأخذ بالعولمة يطلقون صيحاتهم بعدم الأخذ بها ويعارضون الدخول في منظومتها بكل شدة.وصدق أحد الفلاسفة المعاصرين في الغرب عندما أعلن محذرا من العولمة الحديثة " إذا كانت الملائكة الأبرياء تظهر في عموميات العولمة فان الشياطين تختبئ في تفاصيلها ."
3- المعتدلون الذين ينادون بالأخذ بالعولمة بحذر:
ومن المتحمسين لفكرة ركوب قاطرة هذه المنظومة الكونية والمعارضين لها جاء فريق وسط واعتبرها قدرا محتوما ينبغي التعامل معها وتطويعها لخدمة مصالح المجتمع أو الحد من أخطارها لكون التحولات الجوهرية التي يعرفها المسرح العالمي تتطلب المزيد من الحذر والانتباه إلى المفهوم الحقيقي لنوع العلاقة مع الآخرين حينما نكون بصدد وضع الخيارات والتوجهات العامة لأي بلد. ويمكننا القول بأن العولمة الحقيقية التي ينبغي تبنيها والدفاع عنها هي تلك التي تهدف جعل سكان العالم أشبه بسكان القرية الكونية. ولتحقيق هذا الهدف ينبغي أن يكون هناك وعي بين مختلف طبقات المجتمع المدني العالمي بقضايا هذا العالم في إطار شمولي وموحد يساهم في بنائها وبلورتها وقولبتها المجتمع العالمي بكامله لا أن ينفرد به قطب معين على حساب مصالح الآخرين أو فرض سيطرة جهة على أخرى. وأن يقوم زارعو نبتة العولمة والمدافعين عنها بتغيير لغتهم وخطاباتهم وحوارهم السياسي والأيديولوجي الاستراتيجي مع شعوب العالم وفتح أواصر جديدة للإخاء والتعاطف.
وهذا الاتجاه الوسطي هو الذي تبنته بلادنا (عندما انخرط المغرب عن وعي في عصر العولمة واتبع منطق وقواعد اقتصاد السوق منذ عدة عقود وقد كانت الظروف التي فضل فيها هذا الخيار ذات طبيعة معقدة سواء على الصعيد المحلي أو الدولي إذ تميزت بإعادة توزيع المتدفقات الاقتصادية والتجارية والمالية التي غالبا ما تخضع لتفسيرات التوجهات الأيديولوجية وأحكام القمة التي تضيفها عليها.. لقد انحاز المغرب لصف المنخرطين في عولمة مضبوطة ومعقلنة تمر لزاما عبر تقوية وإعادة تأهيل سلطاته الإدارية وهو خيار أوجبته الثورة التكنولوجية التي أصبحت تؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد والمبادلات والاستثمار.و تتسم مقاربة المغرب للعولمة بالواقعية القائمة على أساس مشروع مجتمعي متكامل تتكاثف داخله جميع العناصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كما تتسم بالواقعية أيضا على المستوى الإقليمي فسواء تعلق الأمر بالمغارب العربي أو الشرق الأوسط أو أوروبا أو منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، يظل التقدم على مستوى التعاون الإقليمي مسألة ضرورية لا محيد عنها لإضفاء طابع التفاؤل على الوضع الذي نشأ نتيجة تسارع مسار العولمة وتعميقه)27.
ولعل وعي المغرب بالأخذ بالعولمة مع الحذر التام تمثل في انخراطه عن وعي في مسلسل العولمة بانتقاله من منطق طلب المساعدة إلى منطق طلب الشراكة مع الاتحاد الأوروبي القائمة على أساس الحقوق والواجبات وأصبح شريكا معه بعد مؤتمر ألا ورو متوسطي وبعد احتضان بلادنا الميلاد الرسمي لسياسة العولمة حيث احتضنت مدينة مراكش مؤتمر الغات في ربيع 1994 الذي تولد عنه ميلاد المنظمة العالمية للتجارة كما احتضنت بلادنا أيضا في أكتوبر1994 التظاهرة الاقتصادية الكبرى التي شكلت منعطفا هاما في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط بصفة عامة والمتمثلة في مؤتمر القمة الاقتصادية حول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
القسم الثاني
المنظور الإسلامي للعولمة
رأينا أثناء الحديث عن المنظور الغربي للعولمة كيف أن هذه الأخيرة لا تنطوي على فلسفة أو توجه أخلاقي أو عقائدي تنسجم وتتفاعل مع قيمنا الروحية وهويتنا الثقافية وكيف أنها تنادي بتدمير كل ثقافة ذات طابع إنساني أو أخلاقي وتؤمن بالمادة ووحدة العقل ووحدة القطبية وتدافع عن مرتكزاتها التي هي تضخيم الليبرالية والهيمنة المطلقة على السوق بتقنيات عالية وبشركات متعدد الجنسيات وعابرة للقارات كقوة رئيسية وفعالة في الساحة الدولية وتنادي بحرية التبادل في المعاملات التجارية ممهدة بذلك لتمكين الغرب من فرض سيطرته المادية والتكنولوجية على الدول الفقيرة من خلال ما تؤدي إليه هذه العملية من بطالة وتقليص دور الدولة في المراقبة والتخطيط ومن تدمير ثقافة الشعوب وفرض ثقافة واحدة بواسطة وسائل الإعلام والاتصال.
كما رأينا أيضا من خلال المعارضين للعولمة كيف أن" العولمة بالمفاهيم السالفة الذكر تتعارض -تعارضا تاما- مع قواعد القانون الدولي، ومع طبيعة العلاقات الدولية، بل إنها تتعارض كليا مع الاقتصاد الوطني، ومع السيادة الوطنية، ومع قانون التنوع الثقافي، وإن العولمة إذا صارت في الاتجاه المرسوم لها ستكون إنذارا بانهيار وشيك للاستقرار العالمي، ( لأن العولمة بهذا المضمون تضرب الهوية الثقافية والحضارية في الصميم وتنسف أساس التعايش الثقافي بين الشعوب. كما أن العولمة بهذا المفهوم الشمولي ذي الطابع القسري، ستؤدي إلى فوضى على مستوى العالم في الفكر والسلوك، وفي الاقتصاد والتجارة، وفي الفنون والآداب، وفي العلوم والتكنولوجيا أيضا) 28.
فالعولمة عند الغرب لا تقوم على التآخي وشمول شعوب العالم بالرفاهية، والقضاء على الفقر كما تصورها واضعوها ومصمموها في بداية الأمر بل أصبحت تكرس الطبقية والفقر والبؤس وزيادة البطالة والخوف والقلق وارتفاع الجريمة وزيادة الفساد الأخلاقي والاتجار في المخدرات والتطاحن والحروب فهل من بديل لهذا الوضع والرجوع بالعولمة إلى حقيقتها التي ينبغي أن تكون عليها ؟ .
أعتقد أن الفكر الإسلامي هو الملجأ الوحيد لإرجاع السكة الى قاطرتها، ومن هنا فإن على الأدبيات الإسلامية وعلمائنا أن يخرجوا من قوقعتهم وأن يواجهوا الواقع المعاش في هذه المنضومة مادام الرصيد الفكري والثقافي للإسلام يتوفر على ثوابت وقيم أخلاقية ومادام الإسلام قائم على التفاعل مع الآخرين الحق ضالته ولايتعمد إلغاء الآخرين ولذلك يعتبر الحل الأنجح والبديل للعولمة التي يريد الغرب فرضها على سكان المعمور.
" إن الإسلام يوجد في كل مكان من المعمور ويمتد عبر القارات، ويتوزع بين الحضارات والثقافات، ويشكل حزاما مترابطا متينا ويتوفر على كبير طاقات وعظيم إمكانات وكل شيء فيه يؤهله ليقدم عطاءاته واهتماماته لخدمة العلم في تعاون مخلص نزيه مع المجموعة العالمية الأخرى، ذلك أن الإسلام ليس دينا فحسب بل هو دين ودنيا " .
والواقع أن الدين الإسلامي يتضمن مجموعة من القيم الأخلاقية والتشريعية والحضارية ، التي يخاطب بها القرآن والسنة كل الناس دون تمييز أو تفاضل في اللون أو الجنس وهو ما اربك الغرب الذي اصبح ينظرللاسلام باعتباره العدو الأول للنظام الرأسمالي وأخذ يحسب له ألف حساب، خصوصا بعد انهيار الجناح الشيوعي .
فالا سلام يضم الآن أكثر من خمسين دولة متنوعة الدخل وبحصيلة سكان تزيد عن المليار نسمة متوفرة على كل المؤهلات التي تجعل منها قوة منافسة للغرب إذا اتحد بسكانه الذين يصل %50 منهم سن العمل والإنتاج ويتوفر على رأسمال كبير وعلى دول تتوفر على ثروات نفطية ومعدنية واستثمارات تصل إلى 620 مليار دولار وبودائع في بنوك دولية غربية أكثر من 280 مليار دولار يستثمر %25 منها في مشروعات قصيرة الأجل وبمناخ وتضاريس متنوعة وسعة في أراضيه التي تبلغ 1500 مليون هكتار وبسدود ومياه وأطر عالية يجمعهم دين واحد.
كل هذه المؤشرات تجعل من الإسلام الذي هو دعوة إنسانية موجهة للبشرية، جمعاء مصدر تخوف من طرف الغرب الذي وصل تخوفه إلى درجة أنه أخذ يروج إشاعات متعددة تمس من قيمته كدين حضاري وتشوه صورته عن طريق تمرير بعض الأفكار من مثل " الرعب في الإسلام " أو ما يسمونه ب:
la mophobia. بل إن بعضهم وصلت به العداوة للإسلام لدرجة جعلته يعتبره خطرا يهدد الغرب والسلام العالمي ويربط الإسلام ببعض الظواهر التي عرفتها بعض جهاته من تطرف وتخريب وقتل وقمع للرأي ويعممون هذه الظواهر على الدين الإسلامي ومعتنقيه. ومن هنا نجد المعادين للإسلام يركزون في إطار خطاب العولمة على تشتيت رأي الدول الإسلامية والصين، واستغلال أي خلاف ينشأ بينهما.
لقد وصلت الخطورة التي يتصورها الغرب من الإسلام أن اخذ بعض المفكرين من الغرب ينبهون القيادة الأمريكية الى ضرورة احتلال حيز هام في التفكير الاستراتيجي الأمريكي لقضية الصين والعالم الإسلامي ومن بين هؤلاء المفكرين نذكر الباحث Muravchik الذي أشار في كتابه المعنون ب " حتمية الزعامة الأمريكية" الى أن دخول التيارات الإسلامية معترك السلطة في الدول الإسلامية سوف يشكل خطرا كبيرا على المصالح الأمريكية مطالبا سلطات هذه الأخيرة بإبلاء هذا الموضوع ما يستحق من العناية وعدم ترك الفرصة لاتحاد هذه الدول.
ونعتقد أن ما أشار إليه هذا الباحث من تخوف من الإسلام يرجع لانهيار القيم الأخلاقية بالغرب الذي أصبح يأله العلم ويؤمن بالمادة. وقد انعكس هذا التخوف للسبب الذي ذكرناه سالفا وتجلى من خلال ما أشار أليه باحث آخر من الغرب ويتعلق الأمر " سبينجلير " الذي نادى من خلال كتابه " أفول الغرب " من أن موت حضارة تقودها الصناعة الآلية وتقودها الأموال موت حتمي في نظر هذا المفكر. ولكن يبقى انبعاث روح خلاقة جديدة يبقى في نظره ممكنا.
كما انعكس نفس الانطباع عند " منتنجتون " من خلال مقال نشرته له مجلة " شؤون خارجية " خلال شهر" نونبر دجنبر 96 " تحت عنوان " الغرب متفرد وليس عالميا " والذي أشار فيه إلى أن شعوب العالم غير الغربية لايمكن لها أن تدخل في النسيج الحضاري للغرب، حتى وإن استهلكت البضائع الغربية، وشاهدت الأفلام الأمريكية واستمتعت إلى الموسيقى الغربية، فروح أي حضارة هي اللغة والدين والقيم والعادات والتقاليد، وحضارة الغرب تتميز بكونها وريثة الحضارات اليونانية والرومانية والمسيحية والغربية، والأصول اللاتينية للغات شعوبها، والفصل بين الدين والدولة وسيادة القانون، والتعددية في ضل المجتمع المدني والهياكل السياسية، والحرية الفردية "ويضيف نفس الباحث " أن التحديث والنمو الاقتصادي لايمكن أن يحقق التغريب الثقافي في المجتمعات الغير الغربية بل على العكس، يؤديان إلى مزيد من التمسك بالقافات الأصلية لتلك الشعوب ولذلك فإن الوقت قد حان لكي يتخلى الغرب عن وهم العولمة، وان ينمي قوة حضارته وانسجامها وحيويتها في مواجهة حضارات العالم.وهذا الأمر يتطلب وحدة الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ورسم حدود العالم الغربي في إطار التجانس الثقافي".
وهكذا نلاحظ أن علماء الغرب أصبحوا يؤمنون بأن فكرة العولمة المتوحشة التي تنادي بالهيمنة والقضاء على ثقافة الآخرين وهوياتهم ومحاربة الفكر الديني ليست بالعولمة الموصلة الى ما يبتغيه المجتمع الإنساني المتواجد في كوكبنا والذي ينادي بتقارب البشر واعتبارهم بمثابة سكان القرية الكوكبية.
ونعتقد أن الظرف الحالي الذي لم تكتمل فيه بعد ملامح العولمة كافي لاستغلاله وإبراز معالم الفكر الإسلامي كدين وكفكر وكتوجه مناسب لمتطلبات المجتمع الدولي وطموح جميع الدول حتى يسود الود والتآخي بين سكان كوكبنا الأرضي.
كما نعتقد أن الفرصة مواتية من جهة أخرى لحث علمائنا للمشاركة في هذا الحوار الدائر بشأن العولمة ومساهمة الأدبيات الإسلامية في هذا الموضوع ومواكبة ما يدور في الساحة الدولية من نقاش مع تقديم آرائهم وتمرير الخطاب القرآني والأحاديث النبوية التي تعتبر سباقة في المناداة بالحقوق التي يطالب بها المجتمع الدولي وسكان المعمور،و أن لا يتركوا أعداء الإسلام يستغلون هذا السكوت والنيل من ديننا الحنيف. خصوصا وأن هذا الدين يلح على الانفتاح والمساواة بين البشر دون تمييز عرقي.
إن سبب حثنا على مشاركة علمائنا في هذا الموضوع راجع لما نقرأ لبعض الباحثين الذين يصفون الإسلام بالتخلق وعدم مواكبته لما تفرزه الحضارة والتقدم العلمي مثل ما أشار إليه مشونبي في كتابه الذي صدر له في أواسط هذا القرن والذي عنونه ب " الحضارة في الامتحان " خصوصا في الفصل الذي سماه " الإسلام والغرب والمستقبل " بان الإسلام اصبح مرة مغلوبا، وصفة المغلوب التي يتحملها اليوم اشد بكثير من الانكسار الذي حملته إياه الصليبيات، وذلك لان الغرب أقوى من الإسلام عسكريا وتقنيا واقتصاديا وثقافيا وروحيا. ونعني بالروح تلك الطاقة الداخلية الخلاقة التي تنتج عنها تحقيقات كل مظاهر الحضارة " ويضيف قائلا " بأن الإسلام يقاوم الآن بطريقتين كلاهما مقاومة ضعف لا ينتفع منهما لا الإسلام ولا الحضارة العلمية. فالطريقة الأولى هي طريقة الغيرة على الذات، والطريقة الثانية هي المسايرة والانصياع ".
إن أفكارا من هذا النوع تقتضي تدخل علماء الإسلام للرد على هذه الأطروحات التي لا تنبني على أسس علمية أو منطقية وقد شاءت الصدف وأنا أراجع العرض الذي قدمه السيد محمد مزيان بمناسبة انعقاد دورة الأكاديمية للمملكة المغربية تحت عنوان العولمة والهاوية أن وجدت ما يشفي غليلي في الرد على الذي قام بتقديمه هذا الباحث المغربي في عرضه المعنون " واقع العولمة من الصراع الحضاري الى التقاء الحضارات " وقد أورد بهذا الشان بان الصراع بين الحضارتين الغربية والإسلامية بان واقع الحضارة الإسلامية وواقع الحضارة العالمية التي لا يتزعمها الغرب لا يفسر بهذه البساطة وذلك للأسباب التالية:
أولا: لأن العولمة لازالت تخترع وتحقق مكتسباتها الأولى منذ نهاية الحرب العلمية الثانية ونهاية الاستثمار ومنذ تحرير الشعوب وصعودها الى مستوى المشاركة في صنع الأحداث العلمية.
ثانيا:لأن العالم الأسيوي الإفريقي تحقق الآن، أي في مرحلة ما بعد العرقية تحولا ذهنيا إنسانيا له آثاره في العالمية الجديدة. وبهذه الذهنية يراجع الغرب تصوراته عما كان يسمى بالإنسانية الأخرى المختـفلة، والخارجة عن الحضارة.
ثالثا: لأن العولمة لن تتحقق من الآن فصاعدا بمحو الهويات المختلفة في هوية الأقوياء، بل أصبح من الضروري أن تتصف المكتسبات المدنية والأخلاقية بالإجماع، مع محافظة الحضارات والوطنيات المختلفة على خصوصياتها.
ولنا في هذا دروس من فلسفة التاريخ، يرى التونبي نفسه وهو التكاثر بالجدلية الهيجيلية عن الغالب والمغلوب بأنه لابد من الصراع من الوصول الى أوضاع تركيبية، كما وقع ذلك بين الشرق الديني والغرب المدني، وكما يقع اليوم في التقاء الحضارات العالمية المختلفة، وخصوصا بين الغرب والإسلام في تأثير أعمق وأكثر تعميما من التطرف الى المحافظة المنكمشة أو الانصياع بانتحار الهوية.
ومن الاحتمالات التي يفترضها تونيبي أن الغرب الغالب والإسلام يمكن بعد قرون أن يتساووا في المظاهر المادية والتقنية، ولكن زبدة الحضارة التي هي الروحيات أي الأديان والأخلاق بالدرجة الأولى مع أهم تطبيقاتها المدنية، مشروع ما بعيد، وهو العالمية الحقة، وهو الحلم الكبير الذي تعبر عنه المسيحية " بمدينة الله " ويسميه الإسلام " ارض العدل بعد الجور " وينهي الأستاذ عبد المجيد مزيان رده على مقولة تونبي بأن هذا الأخير يرى أن المسار الإنساني نحو العالمية ينتفع بكل تأكيد من عطاءات الإسلام في موضوعين، الأول والأهم منها هو القضاء على العرقية بجميع تفرعاتها، والثاني هو التخلص من مظاهر الانحطاط التي أحدثتها مجتمعات الكحول والملاهي.
إننا نضم صوتنا الى التحليل الذي قدمه هذا الباحث المغربي في رده على طروحات تونبي ونرى أنه على الدول الإسلامية أن تنخرط في هذه المنظومة لتواكب التطور التكنولوجي والإعلامي و تقوم بتوظيف رصيدها الثقافي والديني في حماية الفكر الإسلامي والمسلمين مع تمرير الخطاب الى غيرهم من سكان الكون ونشر هذا الإشعاع الإسلامي الحضاري بين سكان الكون وتدعيم الفكر الحر البناء لمقاومة التيارات الهدامة والمتطرفة لأنه بقدر ما يتسع الفراغ الروحي وتهتز القيم الروحية ويشع التطرف في أي اتجاه ويسود النظام الاستبدادي بقدر ما يدل على فطرته وينقده من المادية العمياء ومن الأنانية الهوجاء وبهذا المنهج قد تتحول تحديات العولمة الى استنهاض الإرادات نحو النضال من اجل سعادة حرية الإنسان في أن مع هويته ويحقق فيها ذاته عن طريق الإبداع والتمييز والاختلاف.
أن ما جاء به القرآن الكريم من تعاليم وأصول فكرية وقوة روحية من شانها أن تساهم في تحريك العالم الاقتصادي نحو التخليق وإخراجه من الفوضى التي يجتازها والوصول الى ما تنشده البشرية من كرامة إنسانية.
كما أن ما جاءت به السنة النبوية من أحكام وقواعد شرعية من شانها أن تعمل على ترسيخ كل الثوابت الإيجابية التي تؤدي إلى الحفاظ على تماسك المجتمع والأخذ بيد الضعيف والمعاملة الحسنة ولو مع غير المسلم.
فعلاقة المسلم بغيره مبنية على الانفتاح لأن الخطاب القرآني موجه الى عباد الله في إطار التعددية والود والتعاون على الخير والبر انطلاقا من قوله تعالى # ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستسقوا الخيرات # وقوله تعالى # لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا# .
إن القرآن الكريم يخاطب الناس كافة وهكذا فالآية 13 من سورة الحجرات جاء فيها : # يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا # مع مراعاة أن هذا التعارف ينبغي أن ينصب على احترام حق الغير في الاختلاف. كما جاء ذلك في الآية 48 من سورة المائدة# لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجهلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم فاستبقوا الخيرات # وقوله تعالى في الآية 22 من سورة الروم # ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم #.
وجاءت الرسالة المحمدية لتدعيم السلوك الحسن لكل البشر كما عبر عن ذلك رسول الله r في الحديث النبوي الذي رواه مالك في الموطأ وابن حنبل في سنده عن أبي هريرة :" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وقوله w في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم والترمدي وأنس :" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" .
إن الإسلام يدعو الى الخير والتواصي بالحق ومقاومة كل ظالم وإزالة الأذى. وفي هذا السياق ورد عن رسول الله r :" مثل المدمن في حدود الله (القائم عليها) والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها فكان الذين في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به، فأخذ فأسان فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه فقالوا ما لك؟ قال تأذيتم بي، ولابد لي من الماء، فان أخذوا على يده أنجوه ونجوا بأنفسهم وان تركوه أهلكوه واهلكوا أنفسهم" .
فالقرآن الكريم يخاطب الناس كافة وهكذا جاء في فالآية 13 من سورة الحجرات: # يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا # مع مراعاة أن هذا التعارف ينبغي أن ينصب على احترام حق الغير في الاختلاف كما جاء ذلك في الآية 48 من سورة المائدة# لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجهلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم فاستبقوا الخيرات # وقوله تعالى في الآية 22 من سورة الروم # ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم #.
كما أن الإسلام يعتبر أن قيام الحضارة رهين بالتواصل مع اعترافه بوجود الصراع والحوار ويعتبرهما المنفذ الحقيقي لإقامة الحضارة كما جاء ذلك في الآية 251 من سورة البقرة # ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض# والآية 20 من سورة الحج # ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا # .
كما أن الإسلام يركز على الأسلوب الحضاري في الخطاب والحوار بدون قوة أو عنف #وقولوا للناس حسنى# وقوله تعالى في الآية 53 من سورة الإسراء # وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن# وفي الآية 125 من سورة النحل # ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن # وفي الآية 46 من سورة العنكبوت# ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن# .
والإسلام لا يقيم الفوارق بين البشر وإنما يقر للإنسان بإنسانيته وأنه إنما وجد فوق هذه البسيطة للخلافة في الأرض #كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى#.
كما أن التكريم للإنسان جاء في الآية 70 من سورة الإسراء # ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا# لأن الناس في نظر الله سبحانه وتعالى أمة واحدة # يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة# .
وبالإضافة الى الثوابت التي نص عليها القرآن الكريم بشأن الانفتاح والتآخي فإنه كان سباقا في الحث على التعاون وإسعاد البشرية وهكذا فقد جاء في الآية 21 من سورة المائدة # وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان# فهذه الآية تلح على التعاون خلافا لما يوصف به الإسلام من طرف المعادين له. وجاءت السنة النبوية لتدعيم مبدأ التعاون بين بني البشر حيث جاء في حديث رسول الله r " الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه".
وأمر القرآن المسلم بالتسامح والتآخي والسلم ونشر الطمأنينة والسكينة بين سكان المعمور حيث قال تعالى # ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم#.وفي الآية 208 من سورة البقرة # يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة # ويعتبر أن قتل النفس بغير حق أو القيام بالفساد في الأرض بمثابة من قتل الناس جميعا كما جاء ذلك في الآية 92 من سورة المائدة # من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا# وفي الآية 87 من نفس السورة # ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين # .
وجاءت عدة أحاديث تلح على عدم ظلم غير المسلم من ذلك قولهr :" من ظلم هذا أو نقص حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة " وقوله عليه السلام " من أذى ذميا فقد أذاني، ومن أذاني أذى الله "
وهكذا نلاحظ أن الإسلام لا يضع أي تمييز بين بني البشر بل يجعل الناس متساوين في الحقوق والواجبات ولا يحمل ما ينادي به أنصار العولمة من تمييز عرقي واحتكار السوق وإنما ينادي بالتآخي وأخذ القوي بيد الضعيف وبرفاهية البشرية وتحسين ظروف العيش بين سكان المعمور محاربة الفقر وعدم التسول ويعطي للإنسان قيمته ويركز على إنسانية الإنسان ويحارب استعباد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا كما أنه ينادي بعدم الإكراه في الدين في الآية 156 من سورة البقرة # لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي # وفي الآية 64 من سورة آل عمران # قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فان تولوا فقولوا اشهدوا بانا مسلمون# .
كما أن الإسلام ينادي بالاتحاد وعدم التفرقة # واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا# ، وبدون تمييز بين البشر # يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير# .
وهكذا يتضح من خلال سياق هذه الآيات وغيرها من الآيات الكثيرة أن الإسلام قائم على ثوابت هامة تتجلى في التآخي فأتوادد وحب الخير للجميع والأخذ بيد الضعيف والتساوي بين بني البشر والأمانة والإحسان وإصلاح المجتمع وخلافة الإنسان في الأرض مما يجعل المبادئ الإسلامية والتعاليم القرآنية والأحاديث النبوية أرضية صالحة لبناء عولمة جديدة ليس فيها تمييز، تلتقي فيها كل الحضارات وتعزز فيها الديمقراطية وتعيد الثقة والمصداقية في نفوس سكان القرية الكونية ( في ظروف تجتاز فيها حياة البشر ظروفا عسيرة وعصيبة بما يتلاحق من مشاكل، ويتفجر من أزمات، ويتجهم الخلق من سحاب، ويتطاول سماءه من نفوذ، ويتضاءل من جاه للرق وسلطان، ويشيع في النفوس من قلق وخوف، ويتوالى على الألسنة والقلوب من أسئلة لا يطرحها التفاؤل والاستبشار. وما أشد حاجة الإنسان، والظروف التي تحيط بحياته لا تنبش الاطمئنان ولا تزهر بالأمان، الى حظ كبير من الدعة، ونصيب وفير من التفكير فيما يعيد البشاشة، ويفيض الانشراح ويرد عازب الأصل).كما أعلن عن ذلك صاحب الجلالة المغفور له الحسن الثاني في خطابه السامي الذي ألقاه بمناسبة افتتاح أكاديمية المملكة المغربية في أبريل 1980.
ولن يتأتى للمجتمع الدولي الوصول الى عولمة حقيقية إلا إذا تمتنت أواصر الصلة بين سكان هذا الكون وساد الود والتآخي وغيرت دول الغرب لغتها وخطاباتها وحوارها السياسي والإيديولوجي والستراتيجي مع شعوب العالم ولم يعد هناك قطب منفرد بالهيمنة على الآخرين.
هــــوامــــــش
1 -Webster nuth New collegiate dictionary 1991 p521
2- ناصر الدين الأسد مرجع
3- د.محمد عابد الجابري- قضايا في الفكر المعاصر بيروت: مركز الدراسات الوحدة العربية 1997.
4- د.محمد الجابري - العولمة والهوية الثقافية- عشر أطروحات: دار المستقبل العربي بيروت العدد 228- 2/1998.
5- صادق جلال
6- على حرب - صدمة العولمة في خطاب النخبة - السفير، لبنان 6 يونيو 1998.
7- محمد عابد الجابري مقال منشور له بجريدة الشرق الأوسط تحت عنوان" أسئلة يجب الوعي بها 2-2-1997
8- أحمد صدقي الدجاني نقلا عن إسماعيل صبري عبد الله " الكوكبة"
9- la mondialisation de l'économie et de la société, une hypothèse prospective (in futuribles ) septembre 1989
10- Ramonet,1es pouvoirs fin de siècle in, le monde diplomatique Mai 1995
11- LE RETOUR DES CONQUERANT IN LE MONDE DIPLOMATIQUE MAI 1995
12- يحيى اليحياوي " العولمة ورهانات الإعلام " سلسة شراع العدد 33 .
13- مقتطف من العرض الذي ألقاه السيد محمد علال سيناصر بمناسبة أعمال الدورة الربيعية لأكاديمية المملكة المغربية ماي 1997.
14- ناصر الدين الأسد: الهوية والعولمة عرض القي في ندوة أكاديمية المملكة المغربية خلال دورتها المنعقدة في ماي 1997 تحت عنوان" العولمة والهوية "
15 - موقف سألوف كوستا عن مقال منشور بجريدة الحياء 22\1\97
16 - ناصر الاسد مرجع سابق
17 - فخ العولمة الاعتداء على الديموقراطية والرفاهية تأليف بيتر مارتن وهارالدشومار ترجمة عدنان عباس علي"عالم المعرفة " عدد238
18 - يتبنى هذا الرأي " هولسترثرو"كما وقعت الإشارة إليها بمقال منشور بجريدة الشرق الأوسط بتاريخ 2-3-1997
19 - عبد الهادي بوطالب عرض قدمه في ندوة أكاديمية المملكة المغربية في دورة ماي 1997 تحت عنوان"لابد من تكامل العولمة والهوية ليكون العالم واحدا ومتعددا"
20 - عن مقال منشور بجريدة السياسة الجديدة فاتح أكتوبر 1997 تحت عنوان "العولمة هل هي قدر محتوم" للباحث فوزي منصور الحلقة الثانية
21 - ناصر الدين أسد مرجع سابق
22 -جريدة ليكونومست بتاريخ 1-2-1996
23 -جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 2-2-1997
24 -محمد عابد الجابري مقال منشور له بجريدة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 8-2-1997 تحت عنوان " العولمة نظام وإيديولوجيا الحلقة الخامسة
25 -السيد ولد أباه مأزق إيديولوجية العولمة مقال منشور بجريدة الشرق الأوسط بتاريخ 2-2-1997
26 -جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 2-3-1997
27 -André Azoulay : la mondialisation ne peut pas être un jeu a somme-nulle عرض قدم في الندوة المشار إليها أعلاه
28 - عبد العزيز بن عثمان التويجري - الهوية من منظور حق التنوع الثقافي في ضوء فلسفة حوار الأديان والحضارات- عرض قدم في ندوة أكاديمية المملكة المغربية في <<ندوة العولمة والهوية>>
29 - محمد الكتاني - أي منظور لمستقبل الهوية في مواجهة العولمة عرض ألقي في نفس الندوة.
الاثنين، 25 أبريل 2011
الحضارة الإسلامية-المسيحية".. قراءة في مفهوم جديد
تامر عبد الوهاب
الحضارة الإسلامية-المسيحية".. مفهوم جديد قدمه ريتشارد بوليت أستاذ التاريخ بجامعة كولومبيا وعضو جمعية الدراسات الشرق الأوسطية Middle East Studies Association، والذي شغل منصب السكرتير التنفيذي لها في الفترة بين 1977 و1981 في كتاب متوسط الحجم صدر تحت هذا العنوان في عام 2004 عن دار النشر لجامعة كولومبيا بالولايات المتحدة والتي يدرس فيها المؤلف التاريخ الإسلامي في العصر الوسيط. ويهدف الكتاب لصياغة وبلورة رؤية مختلفة تناهض فكرة صراع الحضارات لصامويل هنتنجتون. والفكرة خلف المفهوم مفادها أنه على الرغم من طابع العداء الذي غالبا ما فرق بين الإسلام والغرب، فإن لديهما جذور مشتركة ويقتسمان جانبا كبيرا من تاريخهما. فالمواجهة الحالية بين الإسلام والغرب لا تعود إلى اختلافات أساسية بينهما، وإنما إلى إصرار قديم ومتعمد على إنكار صلة القرابة فيما بينهما. وتستند مقولات الكاتب في دفاعه عن تلك الفكرة وتأسيسه لها إلى المحاور التالية:
المشتركات بدلا من المواجهة والصدام
لماذا مفهوم "الحضارة الإسلامية-المسيحية"؟
من فهم الماضي ..إلى استشراف المستقبل
المشتركات بدلا من المواجهة والصدام
بدأت فكرة صياغة هذا المصطلح بمقال كتبه بوليت عام 1970، ثم نمت مع إدراك أن عودة الإسلام كقوة سياسية لم يكن فقط أبرز التطورات المعاصرة في العالم الإسلامي، وإنما كان وراء تلك العودة أسباب تاريخية واضحة وضرورية في الواقع. وقد أكد قيام الثورة الإسلامية بعد بضعة أعوام وجود تلك الخلفيات، ومنذ ذلك الوقت وهو مهتم غاية الاهتمام بالسياسة في العالم الإسلامي.
ومن اللافت أن الأوساط الأكاديمية الغربية استقبلت هذا الكتاب بتجاهل شديد وتهميش في حين كانت النقاشات محتدمة حول فكرة "صدام الحضارات" التي أطلقها بروفسير جامعة هارفارد صمويل هنتنجتون كعنوان لمقالته بمجلة فورين أفيرز Foreign Affairs عام 1993. إذ سرعان ما انبرى آنذاك الخبراء والأكاديميون في تنظيم صفوفهم بين مؤيد ومعارض لتلك العبارة ، مؤسسين آرائهم في الغالب على الجانب البلاغي للعنوان دون الخصوصيات التي انطوى عليها زعم هنتنجتون. إن هنتنجتون، بإشهاره لهذه العبارة في لحظه مواتية وتحت رعاية فكرية وأكاديمية، قام بإحداث تحول في خطاب المواجهة مع الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. ومفاد هذا التحول أن صارت المعادلة الجديدة للمواجهة ذات أبعاد كونية: الدين الإسلامي، وبمعنى أدق الأمة الإسلامية العالمية التي تعتنق ذلك الدين، ضد الثقافة الغربية المعاصرة بظلالها المسيحية واليهودية ونزعتها الإنسانية العلمانية. فكيف لعبارة تم اختيارها جيدا أن تتحدى مدركات الواقع بهذا القدر من السرعة والحسم؟
إن الأمانة تقتضي منا الاعتراف بأن هنتنجتون لا يحدد أفكارا دينية معينة في "الحضارة الإسلامية"، التي يرى أنها جُبلت على الاصطدام بالغرب في القرن الحادي والعشرين. فأطروحته تركز على مقارنة "حضارة غربية" مثالية تقوم على الديمقراطية وحقوق الإنسان والاقتصاد الحر والعولمة، في مقابل أخرى ذات هياكل اقتصادية واجتماعية وسياسية في مناطق أخرى من العالم يرى هنتنجتون أنها غير موائمة، ومناوئة، وعاجزة عن التطور. هذا المنحى من الفكر لا يختلف كثيرا عن النظريات التي أخذت على عاتقها تفسير التقدم الكوني باتجاه الحداثة، ممثلة في الغرب المعاصر، وحظيت بشعبية طيلة الربع قرن التالية على الحرب العالمية الثانية. لكن هنتنجتون يصحح أحد أوجه القصور الذي انطوت عليه نظريات "التحديث" المبكرة تلك. ففي الخمسينيات والستينيات اتفق عموم المُنَظِرُونْ على أن التحديث سوف يلقي بالدين في دائرة اللامهم بالنسبة لمجال الشئون العامة. إلا أن موجة الإسلام السياسي الحركي، الذي بلغ ذروته الأولى مع الثورة الإيرانية عام 1979، أظهرت خواء تلك التنبؤات، وهو ما أفسح المجال أمام هنتنجتون لإعادة تقديم العامل الديني في مصطلح خالٍ من التأسيس الديني، لكن ضمن إطار أكثر تشاؤما وصراعية للتطورات المستقبلية للعلاقة بين الإسلام والغرب.
وفيما عدا المسيحيون الإنجيليون منهم، لن يوافق المتحيزون لمقولة هنتنجتون رؤية ماثيوس في كل تفاصيلها. فماثيوس، باعتباره من رجال التبشير، سيعبر عن اعتقاده الصلب في أن البروتستانتية يمكنها أن تقوم بدور مايسميه، "الصوت الذي سيمنح ] الشباب المسلم [ الكلمة الكبرى لينعموا بحياتهم الشخصية وليقيموا نظاما جديدا للحياة في بلادهم." أضف إلى ذلك أنه كان ناقدا للغرب، وكان في نقده صدى غريب لبعض الأصوات المنادية بالصحوة الإسلامية، وهو ما يدفعنا لافتراض أن يكون لذلك النوع من النقد جذور في بقاع أخرى غير أراضي المسلمين. تفصح الفقرات التالية عن مضمون رؤية ماثيوس في هذا الصدد، حيث استطرد قائلا:
"لن تتمكن الحضارة الغربية أبدا من قيادتهم نحو ذلك الهدف، فهي مهووسة بالغنى المادي، مترهلة بالفائض الصناعي، سكيرة بمعجزات التقدم العلمي فيها، عمياء البصيرة عن غنى عالم الروح".
لقد أصاب هنتنجتون الوتر الحساس بإعادة صك عبارة "صدام الحضارات"، ونجح في الإمساك بتلابيب منظومة المشاعر المختلجة والمتوقة إلى شعار يجسدها منذ أن أطاح الخوميني بعرش الشاه. ففي ذلك الوقت، ظهرت عبارات من على شاكلة "هلال الأزمات"، "قوس عدم الاستقرار"، "الثورة الإسلامية"، لكن لم يحالف النجاح كليا أي منها. ووقتئذٍ، لم يكن ثمة كثير من الجدل، على الأقل فيما يخص الغموض المحيط بموضعة مكنون السياسة الخارجية، فقد كان هناك اتفاق حول ماهية الشيء الذي احتاج إلى تسمية، لكن التعبير عنه في عبارة واحدة كان أمرا بالغ الصعوبة. وهكذا أمسكت عبارة "صدام الحضارات" بزمام ذلك الخيال الماثل في الأذهان، وبتلابيب الجدل حول الإٍسلام والغرب، وذلك كونها قد اتصفت بالديناميكية والتفاعلية والبساطة في مقاربة هنتنجتون للتعريفات والحدود المفاهيمية الواهية، وأيضا لعدم ظاهرية طابع العنصرية والتعصب الأعمى فيها الذي اختفى بمهارة خلف رصانة علمية لأستاذ له احترام ومكانة، فضلا عن طابعها الهيجيلي الغامض والمتمثل في العمق الظاهري لموازنتها الجدلية بين الخير والشر. وبالإضافة لما سبق، فقد ساهم في حسم عبارة "صدام الحضارات" المنافسة لصالحها، تلك الحظوة الرفيعة لواضعها كأحد علماء السياسة البارزين، وحصافة الرؤية التي تشتهر بها سمعة مجلة "فورين أفيرز" لدى عموم قرائها.
لكن تلك الجاذبية الخارجية، التي حظيت بها العبارة، تستبطن الزعم بأن الحضارات التي جُبلت على الصدام فيما بين بعضها البعض لا يمكنها التماس في مستقبل مشترك. وبذلك يمسي الإسلام لدى هنتنجتون لا خلاص له. ذلكم قدر الإسلام، جفت الأقلام وطويت الصحف.
في المقابل نجد أنه منذ الخمسينيات فصاعدا، ومع تكشف واقع الهولوكوست وتجلي العواقب الوخيمة للعداء الأوروبي للسامية، أخذ مصطلح "الحضارة اليهودية-المسيحية" "Judeo-Christian Civilization" في الظهور تدريجيا من مجرد خلفية فلسفية غامضة – عندما استخدم نيتشه تعبير "اليهودية- المسيحية" باستهزاء في كتابه المسيخ الدجال The Antichrist ليصف سقطات المجتمع- حتى أصبح هذا التعبير الإطار النظري لشعور جديد بالاستيعاب تجاه اليهود، وللتبرؤ المسيحي الكوني من البربرية النازية.
ويرى بوليت أن القبول غير المشروط لعبارة "الحضارة اليهودية-المسيحية" كمرادف لعبارة "الحضارة الغربية" يكشف بجلاء عن أن التاريخ ليس قدرا حتميا. فلا يمكن لأحد، حتى من ذوي المعرفة الضحلة بعلاقات المسيحيين واليهود في الألفيتين السابقتين، أن يفوته مقدار الاستخفاف في وصل جماعتين دينيتين بمصطلح واحد رغم أنهما ولا ريب لم يجتمعا سويا في الأغلب.
قد يزعم البعض بأن مصطلح الحضارة اليهودية - المسيحية صالح، مشيرا في ذلك إلى الجذور التوراتية المشتركة، واقتسام الاهتمامات اللاهوتية، والتفاعل المستمر على المستوى الاجتماعي، والإسهامات المتبادلة لتكوين ما أصبح في العصور الحديثة سياجا مشتركا للفكر والشعور، الأمر الذي يعطي للمجتمعات اليورو-أمريكية صبغة مسيحية ويهودية وأرضية صلبة للإعلان عن تضامنها الحضاري. لكن الروابط الكتابية والعقيدية فيما بين اليهودية والمسيحية ليست بأمتن من نظيراتها فيما بين اليهودية والإسلام أو بين المسيحية والإسلام، والمؤرخون على علم واف بالإسهامات العديدة للمفكرين المسلمين في إثراء المرحلة المتأخرة من العصور الوسطى بالتفكير العلمي والفلسفي الذي بنى عليه لاحقا الأوروبيون المسيحيون واليهود لإنشاء الغرب الحديث. وفضلا عن ذلك، لم يكن ثمة ما يعوق الاتصال بين الإسلام والغرب. فبغض النظر عن فترات الحروب بين الجانبين، أقام التجار الأوروبيون على مدى قرون تجارة نشطة مع المسلمين عبر السواحل الجنوبية والشرقية للبحر المتوسط؛ كما امتلأ الخيال الأوروبي لفترة طويلة بقصص عن البربر وعن المسلمين المناهضين للحملات الصليبية، وعن الخيال الشرقي. وعلى المستوى السياسي، فإن أربعة عشر دولة من دول أوروبا التي تضم اليوم أربعة وثلاثين دولة كانت واقعة كليا أو جزئيا تحت الحكم الإسلامي لفترات تصل إلى قرن من الزمان أو يزيد. لكن أحيانا ما يصف المؤرخون بهذه البلدان فترات الحكم الإسلامي بأنها فترات شاذة أو فجوات لا مبرر لها في ماضٍ مسيحي كان من المفترض له أن يكون متصلا، أو بأنها مسلسل وخيم من قمع لا يلين، وغالبا ما يجري الاستشهاد على ذلك بعدد وافر من الأمثلة. لكن الحقيقة أن معظم الناس الذين عاشوا تحت الحكم الإسلامي تطبعوا على الفكرة وعلى الإطلالة الثقافية التي صاحبتها، وعاشوا حياة مسالمة.
ويرى بوليت أن الإصرار الحالي على وجود اختلافات عميقة بين الإسلام والغرب، كتلك التي يسميها هنتنجتون "اختلافات حضارية"، يحيي عاطفة عداء قديمة للإسلام جذورها سياسية وليست حضارية. وتظل الأحداث المأساوية تستحث ذلك الإحياء. وترددت في خلفيتها أصداء الصدامات التاريخية الثلاث الكبرى:استرداد القدس على يد صلاح الدين عام 1187، وسقوط القسطنطينية البيزنطية في يد العثمانيين عام 1453، وحصار الأتراك الناجح لفيينا عام 1529. فكل حادثة من تلك الحوادث كانت تحمل في طياتها هواجس مرعبة بشأن ما يمكن أن يسفر عن فرض المسلمين لسيطرتهم على نطاق أوسع. وقد عبر المؤرخ ادوارد جيبون، في القرن الثامن عشر، عن تلك الهواجس بصورة كلاسيكية في مناقشته لما كان من الممكن أن يحدث لو أن فريقا من المسلمين من اسبانيا لم يهزم على يد تشارلز مارتل في معركة الطورس عام 732. كتب جيبون "ربما كان سيجري الآن تدريس تفسير القرآن في مدارس أكسفورد، وقد كان يمكن أن يدرس لتلاميذ هذه المدارس قدسية وحقيقة الوحي المحمدي".
ولحسن الحظ أنه في ظل مشاعر العداء التاريخي تلك ، لم يكن هناك سوى بضع مسلمين يقيمون على الأراضي الأوروبية. وبالمقارنة، كان حظ اليهود عسرا عندما اتجه مؤشر الحذر المسيحي إليهم، وقد تكرر ذلك لمرات عديدة، بما فيها حادثة الموت الأسود Black Death الواقعة بين عامي 1348-1349. "ففيما يخص تلك الكارثة، فقد لُعِنَ اليهودُ في شتى أرجاء العالم واتُهِموا أينما حلوا بارتكابها بواسطة السم، الذي قيل أنهم ألقوا به في الماء وفي الآبار، ولهذا السبب أُحْرِقَ اليهودُ على طول الطريق من البحر المتوسط وحتى ألمانيا."
لكن العصور الوسطى انقضت، وهناك أقليات مسلمة كبيرة تقيم وتعمل في كل بلاد العالم تقريبا، بما فيها كل البلدان الأوروبية والولايات المتحدة وكندا. لذلك فإن بوليت يرى أن احتمال وقوع مأساة من جراء التعصب الغربي والإسلاموفوبيا الحالية يجب أن يجعل الغرب على حذر من المعادلات البسيطة التي من الممكن أن تجزئ مجتمعاته إلى معسكرات متعادية.
إن السؤال الماثل في وجه الولايات المتحدة هو: هل من الضروري أن تصبح مأساة الحادي عشر من سبتمبر مناسبة للاستغراق في الإسلاموفوبيا المتجسدة في مصطلحات من على شاكلة "صدام الحضارات"، أم نجعلها مناسبة لتوكيد مبدأ الاستيعاب الذي يمثل أفضل ما في التقاليد الأمريكية؟.
لماذا مفهوم "الحضارة الإسلامية-المسيحية"؟
مبلغ علمنا أنه ما من أحد أقدم من قبل على استخدام مصطلح "الحضارة الإسلامية-المسيحية".
ويوضح بوليت لماذا لم يضع المصطلح في هيئة "الحضارة الإسلامية-اليهودية-المسيحية"؟ وتتلخص الإجابة في أن تلك العبارة قد تكون مقبولة إذا ما كان البحث عن مصطلح يبرز التقاليد الكتابية المشتركة بين هذه الأديان الثلاثة. وهناك من المصطلحات الموجودة ما يفي بذلك الغرض تماما، مثل "الديانات الإبراهيمية"، "أبناء إبراهيم"، و"الديانات السامية"، لكن ما يحاول توصيله من خلال المصطلح المقترح شيء مختلف. فما يعنيه هنا هو الأسس التاريخية للتفكير بشأن مجتمع المسيحيين في أوروبا الغربية – وليس كل المسيحيين في كل مكان- ومجتمع المسلمين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – وليس كل المسلمين في كل مكان- باعتبارهما ينتميان إلى حضارة تاريخية واحدة تتجاوز في معطياتها موضوع التقاليد الكتابية السماوية. هذه العلاقة الإسلامية-المسيحية التاريخية تختلف بصورة ملحوظة عن العلاقة اليهودية-المسيحية التاريخية التي تبدو مختفية في عبارة "الحضارة اليهودية-المسيحية" أكثر مما تبدو محتفى بها. فالمسيحيون واليهود الأوروبيون (لاحظ أن مجال مصطلح الحضارة اليهودية -المسيحية لا يتسع ليضم يهود اليمن ومسيحي إثيوبيا) لديهما تاريخ من العيش المشترك ذو طابع مأسوي، وغير بناء في الغالب، بلغ ذروته مع أحداث الهولوكوست الرهيبة. أما التعايش المشترك بين المسلمين ومسيحي أوروبا الغربية فبعيد تماما عن أن يكون بهذه الحدة. وخلافا للقسمة غير العادلة على مستوى المجال الاجتماعي والسياسي والمالي، والتي وصمت العلاقة اليهودية-المسيحية بأوروبا، والتي ليس من الممكن مقارنتها حتى بالعلاقة الإسلامية-اليهودية التاريخية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإن مصطلح "الحضارة الإسلامية-المسيحية" يلفت الانتباه إلى توأمة محتومة وطويلة الأمد بين مجتمعات متصاهرة تنعم بسيادتها داخل أقاليم جغرافية متجاورة وتتبع مسارات تاريخية متشابهة. فالمسار التاريخي لأي من المسلمين أو المسيحيين لا يمكن فهمه كلية دون الأخذ في الاعتبار علاقة أحدهما بالآخر. وفيما يجد تعبير "الحضارة اليهودية-المسيحية" جذوره التاريخية الخاصة داخل أوروبا وكان مجيئه استجابة للكوارث التي شهدتها هذه العلاقة في القرنين الماضيين، فإن تعبير "الحضارة الإسلامية-المسيحية" له جذور تاريخية وجغرافية مختلفة ويحمل انعكاسات مختلفة لهواجسنا الحضارية المعاصرة.
ويختلف هذا المضمون عن مصطلح مثل "الحضارة البيزنطية-الإسلامية" الذي يربط بين الإسلام والمسيحية الأرثوذوكسية. فبينما أصاب المسيحيون اللاتينيون خارج إسبانيا قدرا قليلا من الخبرة المباشرة بمجتمع المسلمين، عاش العديد من المسيحيين الأرثوذكس لقرون في ظروف مساواة بأراضي المسلمين. وفيما قل اتصال المفكرين المسلمين بالحياة الفكرية في أوروبا الغربية، فقد بنوا بكثافة على التراث اليوناني الذي عُنى المسيحيون الأرثوذكس بحفظه. حتى إذا أهلت العصور الحديثة، كانت الجاليات المسيحية بالشرق على تنوعها تحمل تجاه الإسلام توجهات مختلفة تماما عن تلك التي حملتها أوروبا الغربية تجاهه.
وقبل أن يطرح بوليت الأسس الداعمة لمصطلح "الحضارة الإسلامية-المسيحية"، يوضح أن استعمال هذا المصطلح مضاد من الناحية التعريفية لتعبير "صدام الحضارات" لهنتنجتون. فأولا لو تصورنا المجتمعات الإسلامية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا والمجتمعات المسيحية بأوربا الغربية وأمريكا ينتميان إلى نفس الحضارة، فإن الصراعات بين الطرفين المؤسسين لتلك الحضارة الواحدة ستكون ذات طابع داخلي، وتشبه من الناحية التاريخية صراعات الماضي بين الكاثوليكية والبروتستانتية. وأيا ما يكون مستوى العداء بين طرفي الصراع،فإن فرضية الميراث المشترك عندئذٍ ستقف حائلا دون النظر إلى الطرفين باعتبارهما حضارتين مختلفتين، وبالتالي يكون من السهل تصور حدوث صلح وتوافق بينهما في النهاية بدلا من تصور حتمية الصراع.
ثانيا، مع استخدام مصطلح "الحضارة الإسلامية-المسيحية"، فإن التساؤلات الدائرة حاليا حول قدرة المسلمين على الارتقاء لمستوى الحضارة الغربية ، أو لمستوى الحضارة بصفة عامة، ستصبح غير ذات موضوع. فالنقاد الغربيون للإسلام يطرحون بإصرار تساؤلات مثل: هل يتفق الإسلام مع المعايير الغربية في المساواة بين الجنسين؟ وماذا عن حقوق الإنسان؟ فمثل هذه الأسئلة التي لا هم لها سوى التنقيب عما يعتبره البعض نقائص الإسلام، لا يمكن أخذها بجدية في ضوء تجاهلها العمدي للفشل البين لمعظم المجتمعات الأوروبية، التي لم يجاوز عمرها المائتي عام، في بلوغ ذات المعايير.
وهكذا لا يقف المسلمون جميعا على اختلافهم وتنوعهم في موقف "الآخر"، ليس لشيء سوى انتمائهم الديني.
وفي نظر بوليت فالحائل الذي يعترض طريق التأطير المفاهيمي لمقولة "الحضارة الإسلامية-المسيحية"، عبارة عن رؤية مهيمنة للتاريخ تتأسس على الخوف والتعصب الديني الممتد بطول أربعة عشر قرنا، هذا بالطبع فضلا عن الاعتقاد السائد حاليا بين العديد من الغربيين بوجود "خطأ ما" في الإسلام. لذلك فبقدر الإحكام في إعادة كتابة تاريخ القرون الأربعة عشر الماضية بحيث يعكس وجود حضارة إسلامية-مسيحية مشتركة، فسوف ييسر ذلك تحليل الأحداث الأخيرة بالشرق الأوسط وأزمة السلطة الحالية داخل الإسلام ووضعها في حجمها الحقيقي.
ولعل أبرز الاعتراضات التي تبدو وكأنها تحول دون ربط تاريخ المسلمين بتاريخ المسيحيين اللاتينيين:
* التعارض الزمني: فقد جاءت دعوة محمد بعد المسيح بسبعمائة عام.
* العداء المتأصل: هاجم المسلمون المسيحيين بصفة متكررة، وأبدوا تجاههم عداوة لاتنقضي.
* الخبرة المسيحية: المسيحيون الذين تصدوا للإسلام على مر العصور لم ينظروا أبدا للمسلمين إلا باعتبارهم قوى أجنبية معادية.
* التعارض الكتابي: الروايات العديدة الواردة في كل من القرآن والإنجيل غير دقيقة أو في نظر اللاهوتيين المسيحيين مزيفة في نسختها القرآنية.
* إنكار الحقيقة الإلهية: اعتراف الإسلام بإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد كرسل للرب يقف دون توكيد الطبيعة الإلهية للمسيح.
* الجحود: لم يقر الإسلام أبدا بأنه مدين بعقيدته لليهودية والمسيحية، ولم يتقبلهم مطلقا باعتبارهما الديانتين الأم (وبالتالي الأجدر على الإتباع).
ويرى بوليت أن تلك الحجج من السهل دحضها وتفنيدها. وحتى لو تم اختزال الأمر برمته في سؤال استفزازي من قبيل: هل حارب المسلمون المسيحيون وأظهروا كراهية تجاههم؟ وحتى لو كانت الإجابة هي نعم..حدث ذلك من وقت لآخر، لتظل الحقيقة التاريخية قائمة وهي أن هذه الأفعال والمشاعر كانت متبادلة بين الطرفين لأسباب تاريخية. و يمكن مواجهة هذا الإختزال بسؤال مقابل: ألم يصب البروتستانت اللعنة ومشاعر الازدراء والكراهية على الكاثوليك، وخاضوا ضدهم حروبا دموية مقيتة؟ ألم يسب مؤسسو البروتستانتية صرح العلم السكولاستي الذي شيده رجال الدين الكاثوليك على مدى أجيال، واستقلوا بأنفسهم عنه؟ وفي السياق نفسه، ألم يزدري المسيحيون الأولون اليهود لرفضهم الاعتراف بالمسيح ورفضهم التخلي عن القسم الأعظم من التعاليم القانونية والأخلاقية التلمودية بعد مجيء شرع جديد برسالة عيسى؟ ألم يبادل اليهود ازدراء هؤلاء بازدراء مقابل وأدانوا أولئك اليهود الذين عدلوا القانون وتحولوا إلى المسيحية؟ الإجابة نعم في كل الحالات، ولكن: صلات القرابة التي تربط بين البروتستانتية والكاثوليكية وبين المسيحية واليهودية، والتي هي بمثابة الشيء المقدس في روايتنا المهيمنة عن الحضارة اليهودية المسيحية، أضحت تعتمد على الاحترام المتبادل والعلاقات السلمية أكثر من اعتمادها على العامل التاريخي. ربما أعمل البروتستانت والكاثوليك الذبح في بعضهما البعض بالماضي، وربما حط المسيحيون من قدر اليهود وأعملوا فيهم المجازر، لكن تقديرنا اليوم للرباط الحضاري بين البروتستانت والكاثوليك واليهود بمأمن من تلك الذكريات التاريخية البائسة، فلماذا يتم استثناء الإسلام؟!
الرد الذي يقدمه بوليت هو أن العداء السائد في الغرب للإسلام هو إرث رؤية مسيحية للتاريخ تتعمد إقصاء الإسلام. فالمسيحيين الغربيين اعتبروا طيلة قرون أن الإسلام هو ذلك الآخر الحاقد، وابتكروا العديد من الأسباب لتبرير تمسكهم بتلك الرؤية. لكن الواقع أن تلك الأسباب واهنة. والدعاية الصاخبة ضد المسلمين في هذه الأيام مهتمة بترديد الإشاعات الإسلاموفوبية التي تنتمي إلى قرون سابقة، حتى أقل من اهتمامها بإيجاد صياغات جديدة للكراهيات القديمة!
فهل يمكن تطوير العلاقة نحو نظام مشترك يمثل حضارة إسلامية-مسيحية؟
بالرغم من صعوبة تحديد النسبة الحقيقية لتعداد الجاليات المسيحية التي عاشت في إسبانيا وشمال أفريقيا ومصر والشرق (أي النهاية الشرقية للمتوسط) والجزيرة العربية وإيران، لكن يكفي الإشارة إلى أن هذه المناطق ضمت ثلاثة، من إجمالي أربعة مراكز بطريركية (القدس والإسكندرية وإنطاكية) ، وأنجبت أغلب المفكرين والكتاب البارزين في المسيحية في عصورهم.
وعندما وقع الشطر الأكبر من إسبانيا في قبضة المسلمين عام 711م، كانت الغالبية العظمى من سكان أوروبا باستثناء إيطاليا وبعض المناطق المسيحية في فرنسا - أي أغلب سكان ألمانيا وبولندا واسكندنافيا والجزر البريطانية والأراضي المنخفضة وشمال فرنسا- كانوا لا يزالون يعبدون أربابا شتى ويعتقدون في تعدد الآلهة، إن لم يكن على المستوى العام، فعلى المستوى الخاص.
على النقيض من ذلك، كان من النادر وجود المؤمنين بتعدد الآلهة في أراضي الخلافة الإسلامية. فإلى الغرب من إيران، كانت الغالبية العظمى من الشعوب التي ضمها المسلمون تدين بالمسيحية أو اليهودية بصورة أو بأخرى.
وإذا انتقلنا إلى التحول في الهوية الدينية والاجتماعية، الذي حدث تدريجيا وعلى مدى قرون في إطار الإمبراطورية الإسلامية، فقد جرت عملية يمكن تسميتها بالـ "أسلمة"، وفي المقابل منها كانت عملية "التنصير" Christianization التي تمت في غرب وشمال أوروبا، لكن الإسلام واجه موقفا مختلفا وربما أسهل بصورة ما. حيث كان على المسيحيين اللاتينيين الاعتراف بالعديد من الممارسات التي ترجع إلى ما قبل المسيحية، بدءا من شجرة عيد الميلاد وحتى الاعتراف ببعض اللاهوتيين كقديسيين مسيحيين، خطبا لود غير المسيحيين في غرب أوروبا، لكنهم في الوقت نفسه عملوا على محو معتقدات وشعائر أخرى. في المقابل، كانت الغالبية من غير المسلمين، الذين أصبحوا رعايا في ظل الدولة الإسلامية، يتبنون بالفعل دينا كتابيا توحيديا. في هذا الصدد، يصدق القول بأن مواصلة محمد لمسيرة المسيح بعد ستة قرون قد عززت من إمكانية انتشار الإسلام بسهولة عن المسيحية اللاتينية. فأتباع الديانات الكتابية الموحدة كان عليهم أن يقطعوا مسافة أقصر كثيرا على المستوى الأخلاقي والعقائدي والتنظيمي حتى يتحولوا للإسلام، من تلك التي يجب قطعها من قبل الأوروبيين المخلصين لووتان وثور وجيوبيتر وايبونا وميركوري والعديد من الآلهة الأخرى حيث لم يطور معتنقوها دينا كتابيا مناظرا.
إن مسألة التسامح هي أحد بنود الجدل المعاصر في المقارنة بين الإسلام والغرب. فمنذ أمد طويل يعتبر المصابون بالإسلاموفوبيا أن الإسلام ذو طبيعة غير متسامحة لا تتغير لأنه يحرم اليهود والمسيحيين من المساواة الدينية الكاملة. في المقابل، يركز الرد الإسلامي على الفترات الطويلة من التعايش السلمي ذو الاستفادة المتبادلة على مدى القرون التي شهدت طرد المسيحية اللاتينية للأقليات اليهودية والإسلامية ثم الحرب بين الكاثوليك والبروتستانت.
وفي الوقت نفسه، عمل الإسلام على إقناع أتباعه بجدال معتنقي الديانات التوحيدية، ولكن بالتي هي أحسن، حتى يتخلوا عن طرق أسلافهم وينضموا إلى جماعة المسلمين. في حين كان منهج المسيحيين في أوروبا في محو عقائد الشرك إشهار أسلحة عدم التسامح الديني، والتي جاءت في شكل فرض المحظورات والطرد ومحاكم التفتيش والحكم بالحرمان الكنسي وتوجيه الاتهامات بالهرطقة، بما يعكس تفاوتا جذريا في فهم التسامح يبرز فيه النموذج الإسلامي.
وفضلا عن تشابه الدور الذي لعبه العلماء ورجال الدين في الحضارتين، تشبه الجامعات المسيحية التي ظهرت بعد ذلك بوقت قصير في المدن الأوروبية الرئيسية، المدارس العلمية الإسلامية بشدة سواء في تنظيمها وفي مقتربها الأكاديمي، حتى أن بعض الباحثين يذهبون إلى القول بحتمية وجود تأثير مباشر من هذه المؤسسات.
من فهم الماضي ..إلى استشراف المستقبل
نزع المسيحيون اللاتينيون إلى الانغلاق على أنفسهم خلال القرون المبكرة، فكانت معرفتهم عن الإسلام بسيطة جدا. كان المسيحيون الأرثوذكس، في المقابل، على دراية واسعة بالإسلام وشهدوا بتوجس ضياع الإقليم البيزنطي والانكماش المطرد في أعداد الجماعة المسيحية مع تسارع وتيرة التحول للإسلام. وقد وصف بعضهم المواجهة بين المسيحية والإسلام بأنها مواجهة بين الأخلاق والتقوى الحقة ضد فتنة الثروة والقوة واللاأخلاقية الدنيوية، وهذه بالضبط نفس الرؤية التي يتبناها الأيديولوجيون المسلمون في القرن العشرين للصراع الإسلامي-المسيحي. كان أباطرة بيزنطة قد تحملوا مسئولية الحفاظ على قوة المسيحية في الأراضي المجاورة لدولة الخلافة، وكانت أرائهم نادرا ما تلتقي مع أراء باباوات وملوك المسيحية اللاتينية، إلا أنهم تجاوزوا مسألة عدم الاتفاق فيما بينهم من أجل القيام بعمل مسلح مشترك ضد الحكم الإسلامي في الأراضي المقدسة. فأطلقوا صيحات التحذير التي لم تساعد فقط في تحفيز الحركة الصليبية، التي أسفرت عن أول اتصال مباشر بين الإسلام والمسيحية اللاتينية، بل وفي تعميق العداء فيما بينهما.
ففي الفترة بين 1095 و1250، شن الصليبيون اللاتينيون،بمساعدة البيزنطيين في أحيان متفرقة، سلسلة من الهجمات على الحكام المسلمين بالأراضي المقدسة، وأقاموا بصفة مبدئية أربع إمارات على الطرف الشرقي للبحر المتوسط، والتي كانوا يطلقون عليها "أعالي البحار". وعادة ما يعتبر التأريخ السياسي للحملات الصليبية رغبة القواد وحماسهم الديني بمثابة دوافع مسيحية رئيسية في استعادة الأرض، في حين تمت ترقية هؤلاء القواد إلى طبقة النبلاء على خلفية استعادة الأرض. كما جنت المدن التجارية الإيطالية، مثل بيزا وجنوة والبندقية، فوائد جمة على المستوى الاقتصادي، تركزت في الرسوم المفروضة على مرور الحملات الصليبية وفي التجارة المتنامية وقتئذٍ مع الأراضي الإسلامية. وفيما طغت سيرة المعارك والتحالفات في المرويات التاريخية، وفي المحكيات الأقل رسمية التي أنشأها المقاتلون الصليبيون، فقد شكلت المعاملات التي جرت في وقت السلم معظم فعاليات الاتصال الثقافي الذي حدثت في تلك الفترة.
ففي إسبانيا، التي شنت حملات مسيحية ضد الإمارات الإسلامية بالتوازي مع الحملات الصليبية، انتهز الدارسون المسيحيون لحظات السلم وقاموا بترجمة الكتب العربية إلى اللاتينية، ثم نقلوا هذه الترجمات إلى فرنسا وإيطاليا. كما توفرت ترجمة المخطوطات العربية واليونانية في صقلية، تلك المدينة الإسلامية التي ضمها غزاة من شمال فرنسا في العقود السابقة على الحملات الصليبية. أما في البلاد الصليبية نفسها وفي البلاد الإسلامية التي تم ضمها، فقد تعرف التجار الإيطاليون والنبلاء الأوروبيون، الذين أصبحوا من سكان هذه البلاد، على تفاصيل الحياة اليومية للمجتمع الإسلامي ونقلوا العادات والأفكار المحلية إلى مجتمعاتهم الأصلية عند عودتهم.
ونتيجة لوفرة المؤثرات القادمة من الأراضي الإسلامية خلال هذه الفترة، حدث تحول في العديد من مظاهر الحياة الأوروبية. وضمت المؤثرات الإسلامية العديد من المجالات، منها الفلسفة (شروح أرسطو)، اللاهوت (أعمال ابن رشد)، الرياضيات (الترقيم العربي)، الكيمياء (البارود)، الطب (تقنيات الجراحة)، الموسيقى (العزف على العود، وأغاني التروبادور في جنوب فرنسا وشمال إيطاليا)، الأدب (القصص التي تضمنتها الأعمال الأدبية الإيطالية)، التصنيع (الزجاج، والورق، والطباعة الخشبية)، الطهي (المكرونة، والسكر)، بالإضافة إلى وسائل الترف والتسلية في الحياة اليومية. وبالرغم من أن مناطق جنوب أوروبا كانت الأكثر تأثرا بالرؤى الفلسفية الإسلامية، إلا أن هذه الرؤى تغلغلت كذلك داخل الجامعات بشمال أوروبا،وإسبانيا وصقلية اللتين كانتا مركزا لنشاط المؤثرات الإسلامية. ويرى بوليت أننا إذا ما قمنا بإجراء مقارنة بين الافتقار إلى مناقشة المؤثرات الثقافية الإسلامية من جهة والوعي الغربي المفرط بالحملات الصليبية من جهة أخرى، يتضح لنا بالبرهان أن قراءة العلاقات المسيحية-الإسلامية باعتبارها قائمة على العداء بدلا من الإثمار هي قراءة مغرضة ومتحيزة.
وتتشابه أخلاقيات الأخوة الصوفية بصورة مدهشة مع أخلاقيات الحركات المتتابعة داخل المسيحية اللاتينية.ومن أهم صور التشابه بين الاثنين التفاني العام والزهد كتعبير عن الانصراف عن الشئون الدنيوية ، والتصوف، واستخدام اللغات العامية، والتنظيمات المدينية المتغلغلة في صميم الريف، واتخاذ الشخصيات الورعة المتاح الاتصال بها على المستوى المحلي كنماذج أخلاقية بدلا من طائفة العلماء ورجال الأكليروس المفرطين في الاهتمام بالنواحي التشريعية. وفيما أثبتت تلك الاستجابات للمطالب الدينية الشعبية نجاحها في ذلك العصر، فإنها لا تزال محكمة حتى يومنا الحالي. وفيما طابقت أعداد هائلة من التنظيمات الشعبية الإسلامية (وغالبا من ذوي التوجه السياسي الدوجماطيقي) بوعي أو بدون وعي نموذج الإخوانية الصوفية، فإن ما يوازيه في المسيحية هو الانتشار المعاصر للطوائف الجديدة، خاصة داخل البروتستانتية الإنجيلية.
لقد ظل المسلمون والمسيحيون أسرى لعداوة متبادلة منذ بداية القرن السادس عشر، لكن أحداث التاريخ حملت صراعهما إلى ميادين أخرى. ففيما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر، قام المغول والتتار بسلسلة من الاعتداءات التي عرضت مسلمي الشرق الأوسط إلى مؤثرات جديدة من وسط آسيا والصين، بينما في الفترة بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر تفتحت عيون الأوروبيين على سلسلة من الاكتشافات البحرية لعوالم مثيرة وجديدة في كل من أفريقيا وآسيا والنصف الغربي من الكرة الأرضية. هذه الخبرات شكلت المستقبل الاقتصادي والسياسي لكل من المسيحية الغربية والإسلام. فقد كافح الأمراء المسلمون اللاحقون على مدى قرون لاستعادة الأراضي الشاسعة والغنية من جانكيز خان، بينما أصبح الأوروبيون - فيما عدا روسيا التي خضعت هي الأخرى لخبرة الحكم المغولي- إمبراطورية ذات قوة بحرية.
إذا ما نظرنا إلى الإسلام والمسيحية معا، فسنجد أثر عقيدة التوحيد الكتابية في التقاليد السامية (نسبة لأبناء سام) واضحا. لكن إذا نظرنا بشيء من التوسع على الفترة الممتدة بين 1500 و1900، فسنجد اختلافات حديثة العهد فيما بين العالمين المسيحي الغربي والإسلامي. ومن المعتاد في الفكر التاريخي الأوروأمريكي الحديث اعتبار أن أوروبا انطلقت للأمام خلال تلك الفترة، بينما تركت العالم الإسلامي في ذل وهوان. وعادة ما يوصف مسار الإسلام في هذه القرون بأوصاف من على شاكلة "انحدار"، و"جمود"، و"رجعية"، وهو أمر موجع خاصة في ظل المجد الذي بلغه الإسلام في القرون السابقة، كما يتم التسليم بأن التباين في الثروة والقوة المادية الذي كان في صالح المسلمين قبل القرن السادس عشر قد تحول بشكل واضح لصالح المسيحيين الغربيين.
لكن ربما يمكننا النظر إلى هذه الأمور بطريقة أخرى. فبدلا من الاستعلام عن الغنى الإمبريالي، كان للفرد أن يسأل عن نسبة المسلمين المنحدرين عن أناس تحولوا إلى الإسلام في الفترة بين 1500 و1900 من إجمالي عدد المسلمين في العالم اليوم. هذه النسبة ستتجاوز بالتأكيد الـ 50% وتضم: الغالبية العظمى من بنجلادش وماليزيا وإندونيسيا؛ جماعات عديدة في أفريقيا جنوب الصحراء؛ معظم مسلمي باكستان والهند والصين؛ جزء كبير من المسلمين في أوروبا ووسط آسيا. على النقيض من ذلك، إذا ما تساءل الفرد عن النسبة التي يشكلها الرومان الكاثوليك والبروتستانت المنحدرين عن أناس تحولوا إلى المسيحية في الفترة بين 1500 و1900 من إجمالي عدد المسيحيين في العالم اليوم، فإن الإجابة ستكون بالتأكيد أقل من 20%، وستنخفض تلك النسبة كثيرا إذا ما استبعدنا المسيحيين في الأمريكتين وأستراليا وجزر المحيط الهادي، والثلث الجنوبي من أفريقيا ، حيث لم يواجه الأوروبيين في تلك الأراضي دينا يمكن اعتباره منافسا. لقد تنافس الإسلام والمسيحية رأسا لرأس على وجدان السكان الأصليين في الكتلة العمرانية الأفرو-أورو-أسيوية الشاسعة وفي منطقة جنوب شرق آسيا المجاورة، وقد حسم الإسلام الأمر لصالحه بلا جدال.
وعلى ذلك، إذا ما كان لنا اليوم أن نقيم نجاح نظامي الاجتماع- الديني المتنافسين على المدى الطويل، فسنكون بالتالي، وتبعا لإنجازيهما على مدار القرون الأخيرة، مجبرين على استنتاج أن الإسلام قد انطلق بحسم للأمام بين 1500 و1900، بينما "انحدرت" و"تجمدت" و"تراجعت" المسيحية الأوروبية في النهاية، بعد بداية نشطة.
فالفوز بقلوب البشر، كمؤشر على النجاح، كان له الأسبقية على الثروة والقوة منذ فجر المسيحية وحتى القرن التاسع عشر،وما زال الوضع كذلك إلى اليوم في دوائر المسيحية الإنجيلية. وبالطبع لم يحدث التحول في مجال مؤشرات التقييم نتيجة للتقدم الذي أحرزه الإسلام على المسيحية في مجال نشر الدين. فلا يجب أن ننسى أن المسيحيين نزعوا إلى اعتبار الإسلام شكلا من أشكال البربرية، وادعوا أن نجاحه مستمد من سطحيته العقيدية ومن تسهيله للشرك. لكن فعالية الدعوة الإسلامية خلال الفترة المسماة بالانحدار، في مقابل ركود الدعوة المسيحية، ليس بالأمر المشكوك فيه. كما لا يمكن إنكار أن النجاح الهائل لكل من الإسلام والمسيحية في أن يصبحا الدينين المهيمنين عالميا خلال القرون الخمسة المنقضية يمثل ظاهرة تاريخية فريدة.
الفارق بين أطروحة "صراع الحضارات" و"أطروحة الحضارة الإسلامية-المسيحية" أنه وفقا لأطروحة "صدام الحضارات"، فإن الغرب (اليهودي-المسيحي) كان وسيظل دائما في تضاد مع الإسلام. ووفقا لنموذج "الحضارة الإسلامية-المسيحية"، فإن الإسلام والغرب هما توأم تاريخي لا يمنع افتراقهما في المسار من الوعي بالمشتركات بينهما. وأفضل طريقة لإثبات ذلك هو التساؤل حول ما إذا كان ثمة اختلاف حقيقي اليوم بين المجتمعات الإسلامية والغربية على تنوعها.
إن ثمة تطابقا في نظرة كلا المجتمعين إلى بعضهما البعض. فالمتخصصون الأمريكيون في الإسلام يصورون الإسلام الثوري على أنه الصوت المهيمن في العالم الإسلامي، ونادرا ما يعترفوا بوجود أصوات ليبرالية. في الوقت نفسه، يرون أن "اليمين الديني" الأمريكي شيء مختلف تماما: فهو قوة أخلاقية من أجل الخير إذا كانوا هم أنفسهم ينتمون إلى ذات المعسكر، أو هو ظاهرة ضالة ومعادية للديمقراطية لا يمكن تفسيرها. على الجانب الآخر، نجد أن المحللين المسلمين، سواء إسلاميين أو علمانيين، يرون أمريكا أرضا علمانية للخطيئة وللاتجار بالقيم وللسطحية، ويبدون كمن لا يدرك بالكلية الطيبات محل الإعجاب التي يمارسها الأمريكيون في حياتهم اليومية. ولا يجد العلمانيون والإسلاميون أي فائدة تذكر من "اليمين الديني" الأمريكي خاصة في ظل الود الذي يجمعه بالصهيونية. وفيما يخص مجتمعاتهم، نجد المسلمين الليبراليين يتأسون لوجود الإسلام المسلح ويتمنون رحيله، بينما يرى الإسلام الثوري الليبراليين المحليين كعملاء للنفوذ الأمريكي أو محرضين على الدكتاتورية. والسائد أن كلا الشقيقين لا يبدو قادرا على رؤية نفسه وتوأمه بطريقة شاملة ومتوازنة، لأن كلاهما غير مؤهل للتعرف على نفسه في المرآة.
وأخيراً إذا ما انتقلنا من التشابهات في التطور داخل المذاهب والمدارس للتطور التاريخي لدور الدين في المجال العام وبخاصة لجدل العلمانية الحديث والمتجدد في الغرب والقلق بشأن ارتباط الدين بالدولة في الخبرة الإسلامية، سنجد أن العلمانيون الغربيون –خاصة في مجال الدراسات الأكاديمية- يؤيدون بتعاطف شعار فصل الكنيسة عن الدولة كشرط لنهضة العالم الإٍسلامي من ناحية وإمكان التواصل والتعاون معه من ناحية أخرى.
هنا علينا أن ندرك أن هناك اختلافات في التطور التاريخي للحضارات، وأن هذا الاختلاف لا يمكن القفز فزقه وليس من المفيد السعي المحموم لإلغاءه، فلم تحدث تلك القطيعة بين الكنيسة والدولة في الإسلام. وفي حين ظل القانون الإسلامي ذي صلاحية كونية ودون تحدٍ، على المستوى النظري، تقهقر القانون الكنسي الكاثوليكي أمام الإرادة الملكية فيما بعد اتفاقية ويستفاليا التي أسست الدولة القومية في القرن الـ17، ولم يتوصل البروتستانت أبدا إلى فلسفة قانونية شاملة خاصة بهم.
وختاما يؤكد بوليت على أننا إذا ما أمعنا النظر في العالم الإسلامي-المسيحي، في إطاره الكلي ومن وجهة النظر التاريخية، نجد أن ما يربطه أكثر بكثير مما يفرقه. ولا يمكن فهم ماضي ومستقبل الغرب بصورة كلية إذا لم نقدر علاقة التوأمة التي جمعت الغرب بالإسـلام طيلة أربعة عشر قرنا، والقول نفسه يصدق بالنسبة للعالـم الإسلامـي. إن الدعوى خلف صك مفهوم الحضارة الإسلامية-المسيحية كمبدأ تنظيمي للفكر المعاصر تضرب بجذورها في الحقيقة التاريخية التي تفيض بها تلك القرون. ويأمل بوليت في أن يدرك مؤرخو الحضارة الغربية والإسلام القيمة المضافة من إعادة ضبط وجهات نظرهم بحيث تأخذ بعين الاعتبار هذه الحقيقة ودعوى الحضارة الإسلامية-المسيحية تتأسس بشكل مباشر على التنبيه لحاجة الأمريكيين كافة إلى إيجاد أساس مشترك مع مسلمي الغرب في وقت يهدد فيه الشك، والخوف، والديماجوجية العلاقة بينهم. فالحضارة الإسلامية-المسيحية هي مفهوم يقدم فرصة تاريخية لتحقيق الاندماج الديني والاجتماعي داخل الغرب، وبين الغرب وعالم الإسلام في زمن العولمة.
لمزيد من التعمق راجع كتاب ريتشارد بوليت:
Richard W. Bulliet, The Case for “Islamo-Christian Civilization”, N.Y.: Columbia University Press, 2004.
________________________________________
**باحث مستقل – ماجستير في العلوم السياسية
الحضارة الإسلامية-المسيحية".. مفهوم جديد قدمه ريتشارد بوليت أستاذ التاريخ بجامعة كولومبيا وعضو جمعية الدراسات الشرق الأوسطية Middle East Studies Association، والذي شغل منصب السكرتير التنفيذي لها في الفترة بين 1977 و1981 في كتاب متوسط الحجم صدر تحت هذا العنوان في عام 2004 عن دار النشر لجامعة كولومبيا بالولايات المتحدة والتي يدرس فيها المؤلف التاريخ الإسلامي في العصر الوسيط. ويهدف الكتاب لصياغة وبلورة رؤية مختلفة تناهض فكرة صراع الحضارات لصامويل هنتنجتون. والفكرة خلف المفهوم مفادها أنه على الرغم من طابع العداء الذي غالبا ما فرق بين الإسلام والغرب، فإن لديهما جذور مشتركة ويقتسمان جانبا كبيرا من تاريخهما. فالمواجهة الحالية بين الإسلام والغرب لا تعود إلى اختلافات أساسية بينهما، وإنما إلى إصرار قديم ومتعمد على إنكار صلة القرابة فيما بينهما. وتستند مقولات الكاتب في دفاعه عن تلك الفكرة وتأسيسه لها إلى المحاور التالية:
المشتركات بدلا من المواجهة والصدام
لماذا مفهوم "الحضارة الإسلامية-المسيحية"؟
من فهم الماضي ..إلى استشراف المستقبل
المشتركات بدلا من المواجهة والصدام
بدأت فكرة صياغة هذا المصطلح بمقال كتبه بوليت عام 1970، ثم نمت مع إدراك أن عودة الإسلام كقوة سياسية لم يكن فقط أبرز التطورات المعاصرة في العالم الإسلامي، وإنما كان وراء تلك العودة أسباب تاريخية واضحة وضرورية في الواقع. وقد أكد قيام الثورة الإسلامية بعد بضعة أعوام وجود تلك الخلفيات، ومنذ ذلك الوقت وهو مهتم غاية الاهتمام بالسياسة في العالم الإسلامي.
ومن اللافت أن الأوساط الأكاديمية الغربية استقبلت هذا الكتاب بتجاهل شديد وتهميش في حين كانت النقاشات محتدمة حول فكرة "صدام الحضارات" التي أطلقها بروفسير جامعة هارفارد صمويل هنتنجتون كعنوان لمقالته بمجلة فورين أفيرز Foreign Affairs عام 1993. إذ سرعان ما انبرى آنذاك الخبراء والأكاديميون في تنظيم صفوفهم بين مؤيد ومعارض لتلك العبارة ، مؤسسين آرائهم في الغالب على الجانب البلاغي للعنوان دون الخصوصيات التي انطوى عليها زعم هنتنجتون. إن هنتنجتون، بإشهاره لهذه العبارة في لحظه مواتية وتحت رعاية فكرية وأكاديمية، قام بإحداث تحول في خطاب المواجهة مع الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. ومفاد هذا التحول أن صارت المعادلة الجديدة للمواجهة ذات أبعاد كونية: الدين الإسلامي، وبمعنى أدق الأمة الإسلامية العالمية التي تعتنق ذلك الدين، ضد الثقافة الغربية المعاصرة بظلالها المسيحية واليهودية ونزعتها الإنسانية العلمانية. فكيف لعبارة تم اختيارها جيدا أن تتحدى مدركات الواقع بهذا القدر من السرعة والحسم؟
إن الأمانة تقتضي منا الاعتراف بأن هنتنجتون لا يحدد أفكارا دينية معينة في "الحضارة الإسلامية"، التي يرى أنها جُبلت على الاصطدام بالغرب في القرن الحادي والعشرين. فأطروحته تركز على مقارنة "حضارة غربية" مثالية تقوم على الديمقراطية وحقوق الإنسان والاقتصاد الحر والعولمة، في مقابل أخرى ذات هياكل اقتصادية واجتماعية وسياسية في مناطق أخرى من العالم يرى هنتنجتون أنها غير موائمة، ومناوئة، وعاجزة عن التطور. هذا المنحى من الفكر لا يختلف كثيرا عن النظريات التي أخذت على عاتقها تفسير التقدم الكوني باتجاه الحداثة، ممثلة في الغرب المعاصر، وحظيت بشعبية طيلة الربع قرن التالية على الحرب العالمية الثانية. لكن هنتنجتون يصحح أحد أوجه القصور الذي انطوت عليه نظريات "التحديث" المبكرة تلك. ففي الخمسينيات والستينيات اتفق عموم المُنَظِرُونْ على أن التحديث سوف يلقي بالدين في دائرة اللامهم بالنسبة لمجال الشئون العامة. إلا أن موجة الإسلام السياسي الحركي، الذي بلغ ذروته الأولى مع الثورة الإيرانية عام 1979، أظهرت خواء تلك التنبؤات، وهو ما أفسح المجال أمام هنتنجتون لإعادة تقديم العامل الديني في مصطلح خالٍ من التأسيس الديني، لكن ضمن إطار أكثر تشاؤما وصراعية للتطورات المستقبلية للعلاقة بين الإسلام والغرب.
وفيما عدا المسيحيون الإنجيليون منهم، لن يوافق المتحيزون لمقولة هنتنجتون رؤية ماثيوس في كل تفاصيلها. فماثيوس، باعتباره من رجال التبشير، سيعبر عن اعتقاده الصلب في أن البروتستانتية يمكنها أن تقوم بدور مايسميه، "الصوت الذي سيمنح ] الشباب المسلم [ الكلمة الكبرى لينعموا بحياتهم الشخصية وليقيموا نظاما جديدا للحياة في بلادهم." أضف إلى ذلك أنه كان ناقدا للغرب، وكان في نقده صدى غريب لبعض الأصوات المنادية بالصحوة الإسلامية، وهو ما يدفعنا لافتراض أن يكون لذلك النوع من النقد جذور في بقاع أخرى غير أراضي المسلمين. تفصح الفقرات التالية عن مضمون رؤية ماثيوس في هذا الصدد، حيث استطرد قائلا:
"لن تتمكن الحضارة الغربية أبدا من قيادتهم نحو ذلك الهدف، فهي مهووسة بالغنى المادي، مترهلة بالفائض الصناعي، سكيرة بمعجزات التقدم العلمي فيها، عمياء البصيرة عن غنى عالم الروح".
لقد أصاب هنتنجتون الوتر الحساس بإعادة صك عبارة "صدام الحضارات"، ونجح في الإمساك بتلابيب منظومة المشاعر المختلجة والمتوقة إلى شعار يجسدها منذ أن أطاح الخوميني بعرش الشاه. ففي ذلك الوقت، ظهرت عبارات من على شاكلة "هلال الأزمات"، "قوس عدم الاستقرار"، "الثورة الإسلامية"، لكن لم يحالف النجاح كليا أي منها. ووقتئذٍ، لم يكن ثمة كثير من الجدل، على الأقل فيما يخص الغموض المحيط بموضعة مكنون السياسة الخارجية، فقد كان هناك اتفاق حول ماهية الشيء الذي احتاج إلى تسمية، لكن التعبير عنه في عبارة واحدة كان أمرا بالغ الصعوبة. وهكذا أمسكت عبارة "صدام الحضارات" بزمام ذلك الخيال الماثل في الأذهان، وبتلابيب الجدل حول الإٍسلام والغرب، وذلك كونها قد اتصفت بالديناميكية والتفاعلية والبساطة في مقاربة هنتنجتون للتعريفات والحدود المفاهيمية الواهية، وأيضا لعدم ظاهرية طابع العنصرية والتعصب الأعمى فيها الذي اختفى بمهارة خلف رصانة علمية لأستاذ له احترام ومكانة، فضلا عن طابعها الهيجيلي الغامض والمتمثل في العمق الظاهري لموازنتها الجدلية بين الخير والشر. وبالإضافة لما سبق، فقد ساهم في حسم عبارة "صدام الحضارات" المنافسة لصالحها، تلك الحظوة الرفيعة لواضعها كأحد علماء السياسة البارزين، وحصافة الرؤية التي تشتهر بها سمعة مجلة "فورين أفيرز" لدى عموم قرائها.
لكن تلك الجاذبية الخارجية، التي حظيت بها العبارة، تستبطن الزعم بأن الحضارات التي جُبلت على الصدام فيما بين بعضها البعض لا يمكنها التماس في مستقبل مشترك. وبذلك يمسي الإسلام لدى هنتنجتون لا خلاص له. ذلكم قدر الإسلام، جفت الأقلام وطويت الصحف.
في المقابل نجد أنه منذ الخمسينيات فصاعدا، ومع تكشف واقع الهولوكوست وتجلي العواقب الوخيمة للعداء الأوروبي للسامية، أخذ مصطلح "الحضارة اليهودية-المسيحية" "Judeo-Christian Civilization" في الظهور تدريجيا من مجرد خلفية فلسفية غامضة – عندما استخدم نيتشه تعبير "اليهودية- المسيحية" باستهزاء في كتابه المسيخ الدجال The Antichrist ليصف سقطات المجتمع- حتى أصبح هذا التعبير الإطار النظري لشعور جديد بالاستيعاب تجاه اليهود، وللتبرؤ المسيحي الكوني من البربرية النازية.
ويرى بوليت أن القبول غير المشروط لعبارة "الحضارة اليهودية-المسيحية" كمرادف لعبارة "الحضارة الغربية" يكشف بجلاء عن أن التاريخ ليس قدرا حتميا. فلا يمكن لأحد، حتى من ذوي المعرفة الضحلة بعلاقات المسيحيين واليهود في الألفيتين السابقتين، أن يفوته مقدار الاستخفاف في وصل جماعتين دينيتين بمصطلح واحد رغم أنهما ولا ريب لم يجتمعا سويا في الأغلب.
قد يزعم البعض بأن مصطلح الحضارة اليهودية - المسيحية صالح، مشيرا في ذلك إلى الجذور التوراتية المشتركة، واقتسام الاهتمامات اللاهوتية، والتفاعل المستمر على المستوى الاجتماعي، والإسهامات المتبادلة لتكوين ما أصبح في العصور الحديثة سياجا مشتركا للفكر والشعور، الأمر الذي يعطي للمجتمعات اليورو-أمريكية صبغة مسيحية ويهودية وأرضية صلبة للإعلان عن تضامنها الحضاري. لكن الروابط الكتابية والعقيدية فيما بين اليهودية والمسيحية ليست بأمتن من نظيراتها فيما بين اليهودية والإسلام أو بين المسيحية والإسلام، والمؤرخون على علم واف بالإسهامات العديدة للمفكرين المسلمين في إثراء المرحلة المتأخرة من العصور الوسطى بالتفكير العلمي والفلسفي الذي بنى عليه لاحقا الأوروبيون المسيحيون واليهود لإنشاء الغرب الحديث. وفضلا عن ذلك، لم يكن ثمة ما يعوق الاتصال بين الإسلام والغرب. فبغض النظر عن فترات الحروب بين الجانبين، أقام التجار الأوروبيون على مدى قرون تجارة نشطة مع المسلمين عبر السواحل الجنوبية والشرقية للبحر المتوسط؛ كما امتلأ الخيال الأوروبي لفترة طويلة بقصص عن البربر وعن المسلمين المناهضين للحملات الصليبية، وعن الخيال الشرقي. وعلى المستوى السياسي، فإن أربعة عشر دولة من دول أوروبا التي تضم اليوم أربعة وثلاثين دولة كانت واقعة كليا أو جزئيا تحت الحكم الإسلامي لفترات تصل إلى قرن من الزمان أو يزيد. لكن أحيانا ما يصف المؤرخون بهذه البلدان فترات الحكم الإسلامي بأنها فترات شاذة أو فجوات لا مبرر لها في ماضٍ مسيحي كان من المفترض له أن يكون متصلا، أو بأنها مسلسل وخيم من قمع لا يلين، وغالبا ما يجري الاستشهاد على ذلك بعدد وافر من الأمثلة. لكن الحقيقة أن معظم الناس الذين عاشوا تحت الحكم الإسلامي تطبعوا على الفكرة وعلى الإطلالة الثقافية التي صاحبتها، وعاشوا حياة مسالمة.
ويرى بوليت أن الإصرار الحالي على وجود اختلافات عميقة بين الإسلام والغرب، كتلك التي يسميها هنتنجتون "اختلافات حضارية"، يحيي عاطفة عداء قديمة للإسلام جذورها سياسية وليست حضارية. وتظل الأحداث المأساوية تستحث ذلك الإحياء. وترددت في خلفيتها أصداء الصدامات التاريخية الثلاث الكبرى:استرداد القدس على يد صلاح الدين عام 1187، وسقوط القسطنطينية البيزنطية في يد العثمانيين عام 1453، وحصار الأتراك الناجح لفيينا عام 1529. فكل حادثة من تلك الحوادث كانت تحمل في طياتها هواجس مرعبة بشأن ما يمكن أن يسفر عن فرض المسلمين لسيطرتهم على نطاق أوسع. وقد عبر المؤرخ ادوارد جيبون، في القرن الثامن عشر، عن تلك الهواجس بصورة كلاسيكية في مناقشته لما كان من الممكن أن يحدث لو أن فريقا من المسلمين من اسبانيا لم يهزم على يد تشارلز مارتل في معركة الطورس عام 732. كتب جيبون "ربما كان سيجري الآن تدريس تفسير القرآن في مدارس أكسفورد، وقد كان يمكن أن يدرس لتلاميذ هذه المدارس قدسية وحقيقة الوحي المحمدي".
ولحسن الحظ أنه في ظل مشاعر العداء التاريخي تلك ، لم يكن هناك سوى بضع مسلمين يقيمون على الأراضي الأوروبية. وبالمقارنة، كان حظ اليهود عسرا عندما اتجه مؤشر الحذر المسيحي إليهم، وقد تكرر ذلك لمرات عديدة، بما فيها حادثة الموت الأسود Black Death الواقعة بين عامي 1348-1349. "ففيما يخص تلك الكارثة، فقد لُعِنَ اليهودُ في شتى أرجاء العالم واتُهِموا أينما حلوا بارتكابها بواسطة السم، الذي قيل أنهم ألقوا به في الماء وفي الآبار، ولهذا السبب أُحْرِقَ اليهودُ على طول الطريق من البحر المتوسط وحتى ألمانيا."
لكن العصور الوسطى انقضت، وهناك أقليات مسلمة كبيرة تقيم وتعمل في كل بلاد العالم تقريبا، بما فيها كل البلدان الأوروبية والولايات المتحدة وكندا. لذلك فإن بوليت يرى أن احتمال وقوع مأساة من جراء التعصب الغربي والإسلاموفوبيا الحالية يجب أن يجعل الغرب على حذر من المعادلات البسيطة التي من الممكن أن تجزئ مجتمعاته إلى معسكرات متعادية.
إن السؤال الماثل في وجه الولايات المتحدة هو: هل من الضروري أن تصبح مأساة الحادي عشر من سبتمبر مناسبة للاستغراق في الإسلاموفوبيا المتجسدة في مصطلحات من على شاكلة "صدام الحضارات"، أم نجعلها مناسبة لتوكيد مبدأ الاستيعاب الذي يمثل أفضل ما في التقاليد الأمريكية؟.
لماذا مفهوم "الحضارة الإسلامية-المسيحية"؟
مبلغ علمنا أنه ما من أحد أقدم من قبل على استخدام مصطلح "الحضارة الإسلامية-المسيحية".
ويوضح بوليت لماذا لم يضع المصطلح في هيئة "الحضارة الإسلامية-اليهودية-المسيحية"؟ وتتلخص الإجابة في أن تلك العبارة قد تكون مقبولة إذا ما كان البحث عن مصطلح يبرز التقاليد الكتابية المشتركة بين هذه الأديان الثلاثة. وهناك من المصطلحات الموجودة ما يفي بذلك الغرض تماما، مثل "الديانات الإبراهيمية"، "أبناء إبراهيم"، و"الديانات السامية"، لكن ما يحاول توصيله من خلال المصطلح المقترح شيء مختلف. فما يعنيه هنا هو الأسس التاريخية للتفكير بشأن مجتمع المسيحيين في أوروبا الغربية – وليس كل المسيحيين في كل مكان- ومجتمع المسلمين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – وليس كل المسلمين في كل مكان- باعتبارهما ينتميان إلى حضارة تاريخية واحدة تتجاوز في معطياتها موضوع التقاليد الكتابية السماوية. هذه العلاقة الإسلامية-المسيحية التاريخية تختلف بصورة ملحوظة عن العلاقة اليهودية-المسيحية التاريخية التي تبدو مختفية في عبارة "الحضارة اليهودية-المسيحية" أكثر مما تبدو محتفى بها. فالمسيحيون واليهود الأوروبيون (لاحظ أن مجال مصطلح الحضارة اليهودية -المسيحية لا يتسع ليضم يهود اليمن ومسيحي إثيوبيا) لديهما تاريخ من العيش المشترك ذو طابع مأسوي، وغير بناء في الغالب، بلغ ذروته مع أحداث الهولوكوست الرهيبة. أما التعايش المشترك بين المسلمين ومسيحي أوروبا الغربية فبعيد تماما عن أن يكون بهذه الحدة. وخلافا للقسمة غير العادلة على مستوى المجال الاجتماعي والسياسي والمالي، والتي وصمت العلاقة اليهودية-المسيحية بأوروبا، والتي ليس من الممكن مقارنتها حتى بالعلاقة الإسلامية-اليهودية التاريخية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإن مصطلح "الحضارة الإسلامية-المسيحية" يلفت الانتباه إلى توأمة محتومة وطويلة الأمد بين مجتمعات متصاهرة تنعم بسيادتها داخل أقاليم جغرافية متجاورة وتتبع مسارات تاريخية متشابهة. فالمسار التاريخي لأي من المسلمين أو المسيحيين لا يمكن فهمه كلية دون الأخذ في الاعتبار علاقة أحدهما بالآخر. وفيما يجد تعبير "الحضارة اليهودية-المسيحية" جذوره التاريخية الخاصة داخل أوروبا وكان مجيئه استجابة للكوارث التي شهدتها هذه العلاقة في القرنين الماضيين، فإن تعبير "الحضارة الإسلامية-المسيحية" له جذور تاريخية وجغرافية مختلفة ويحمل انعكاسات مختلفة لهواجسنا الحضارية المعاصرة.
ويختلف هذا المضمون عن مصطلح مثل "الحضارة البيزنطية-الإسلامية" الذي يربط بين الإسلام والمسيحية الأرثوذوكسية. فبينما أصاب المسيحيون اللاتينيون خارج إسبانيا قدرا قليلا من الخبرة المباشرة بمجتمع المسلمين، عاش العديد من المسيحيين الأرثوذكس لقرون في ظروف مساواة بأراضي المسلمين. وفيما قل اتصال المفكرين المسلمين بالحياة الفكرية في أوروبا الغربية، فقد بنوا بكثافة على التراث اليوناني الذي عُنى المسيحيون الأرثوذكس بحفظه. حتى إذا أهلت العصور الحديثة، كانت الجاليات المسيحية بالشرق على تنوعها تحمل تجاه الإسلام توجهات مختلفة تماما عن تلك التي حملتها أوروبا الغربية تجاهه.
وقبل أن يطرح بوليت الأسس الداعمة لمصطلح "الحضارة الإسلامية-المسيحية"، يوضح أن استعمال هذا المصطلح مضاد من الناحية التعريفية لتعبير "صدام الحضارات" لهنتنجتون. فأولا لو تصورنا المجتمعات الإسلامية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا والمجتمعات المسيحية بأوربا الغربية وأمريكا ينتميان إلى نفس الحضارة، فإن الصراعات بين الطرفين المؤسسين لتلك الحضارة الواحدة ستكون ذات طابع داخلي، وتشبه من الناحية التاريخية صراعات الماضي بين الكاثوليكية والبروتستانتية. وأيا ما يكون مستوى العداء بين طرفي الصراع،فإن فرضية الميراث المشترك عندئذٍ ستقف حائلا دون النظر إلى الطرفين باعتبارهما حضارتين مختلفتين، وبالتالي يكون من السهل تصور حدوث صلح وتوافق بينهما في النهاية بدلا من تصور حتمية الصراع.
ثانيا، مع استخدام مصطلح "الحضارة الإسلامية-المسيحية"، فإن التساؤلات الدائرة حاليا حول قدرة المسلمين على الارتقاء لمستوى الحضارة الغربية ، أو لمستوى الحضارة بصفة عامة، ستصبح غير ذات موضوع. فالنقاد الغربيون للإسلام يطرحون بإصرار تساؤلات مثل: هل يتفق الإسلام مع المعايير الغربية في المساواة بين الجنسين؟ وماذا عن حقوق الإنسان؟ فمثل هذه الأسئلة التي لا هم لها سوى التنقيب عما يعتبره البعض نقائص الإسلام، لا يمكن أخذها بجدية في ضوء تجاهلها العمدي للفشل البين لمعظم المجتمعات الأوروبية، التي لم يجاوز عمرها المائتي عام، في بلوغ ذات المعايير.
وهكذا لا يقف المسلمون جميعا على اختلافهم وتنوعهم في موقف "الآخر"، ليس لشيء سوى انتمائهم الديني.
وفي نظر بوليت فالحائل الذي يعترض طريق التأطير المفاهيمي لمقولة "الحضارة الإسلامية-المسيحية"، عبارة عن رؤية مهيمنة للتاريخ تتأسس على الخوف والتعصب الديني الممتد بطول أربعة عشر قرنا، هذا بالطبع فضلا عن الاعتقاد السائد حاليا بين العديد من الغربيين بوجود "خطأ ما" في الإسلام. لذلك فبقدر الإحكام في إعادة كتابة تاريخ القرون الأربعة عشر الماضية بحيث يعكس وجود حضارة إسلامية-مسيحية مشتركة، فسوف ييسر ذلك تحليل الأحداث الأخيرة بالشرق الأوسط وأزمة السلطة الحالية داخل الإسلام ووضعها في حجمها الحقيقي.
ولعل أبرز الاعتراضات التي تبدو وكأنها تحول دون ربط تاريخ المسلمين بتاريخ المسيحيين اللاتينيين:
* التعارض الزمني: فقد جاءت دعوة محمد بعد المسيح بسبعمائة عام.
* العداء المتأصل: هاجم المسلمون المسيحيين بصفة متكررة، وأبدوا تجاههم عداوة لاتنقضي.
* الخبرة المسيحية: المسيحيون الذين تصدوا للإسلام على مر العصور لم ينظروا أبدا للمسلمين إلا باعتبارهم قوى أجنبية معادية.
* التعارض الكتابي: الروايات العديدة الواردة في كل من القرآن والإنجيل غير دقيقة أو في نظر اللاهوتيين المسيحيين مزيفة في نسختها القرآنية.
* إنكار الحقيقة الإلهية: اعتراف الإسلام بإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد كرسل للرب يقف دون توكيد الطبيعة الإلهية للمسيح.
* الجحود: لم يقر الإسلام أبدا بأنه مدين بعقيدته لليهودية والمسيحية، ولم يتقبلهم مطلقا باعتبارهما الديانتين الأم (وبالتالي الأجدر على الإتباع).
ويرى بوليت أن تلك الحجج من السهل دحضها وتفنيدها. وحتى لو تم اختزال الأمر برمته في سؤال استفزازي من قبيل: هل حارب المسلمون المسيحيون وأظهروا كراهية تجاههم؟ وحتى لو كانت الإجابة هي نعم..حدث ذلك من وقت لآخر، لتظل الحقيقة التاريخية قائمة وهي أن هذه الأفعال والمشاعر كانت متبادلة بين الطرفين لأسباب تاريخية. و يمكن مواجهة هذا الإختزال بسؤال مقابل: ألم يصب البروتستانت اللعنة ومشاعر الازدراء والكراهية على الكاثوليك، وخاضوا ضدهم حروبا دموية مقيتة؟ ألم يسب مؤسسو البروتستانتية صرح العلم السكولاستي الذي شيده رجال الدين الكاثوليك على مدى أجيال، واستقلوا بأنفسهم عنه؟ وفي السياق نفسه، ألم يزدري المسيحيون الأولون اليهود لرفضهم الاعتراف بالمسيح ورفضهم التخلي عن القسم الأعظم من التعاليم القانونية والأخلاقية التلمودية بعد مجيء شرع جديد برسالة عيسى؟ ألم يبادل اليهود ازدراء هؤلاء بازدراء مقابل وأدانوا أولئك اليهود الذين عدلوا القانون وتحولوا إلى المسيحية؟ الإجابة نعم في كل الحالات، ولكن: صلات القرابة التي تربط بين البروتستانتية والكاثوليكية وبين المسيحية واليهودية، والتي هي بمثابة الشيء المقدس في روايتنا المهيمنة عن الحضارة اليهودية المسيحية، أضحت تعتمد على الاحترام المتبادل والعلاقات السلمية أكثر من اعتمادها على العامل التاريخي. ربما أعمل البروتستانت والكاثوليك الذبح في بعضهما البعض بالماضي، وربما حط المسيحيون من قدر اليهود وأعملوا فيهم المجازر، لكن تقديرنا اليوم للرباط الحضاري بين البروتستانت والكاثوليك واليهود بمأمن من تلك الذكريات التاريخية البائسة، فلماذا يتم استثناء الإسلام؟!
الرد الذي يقدمه بوليت هو أن العداء السائد في الغرب للإسلام هو إرث رؤية مسيحية للتاريخ تتعمد إقصاء الإسلام. فالمسيحيين الغربيين اعتبروا طيلة قرون أن الإسلام هو ذلك الآخر الحاقد، وابتكروا العديد من الأسباب لتبرير تمسكهم بتلك الرؤية. لكن الواقع أن تلك الأسباب واهنة. والدعاية الصاخبة ضد المسلمين في هذه الأيام مهتمة بترديد الإشاعات الإسلاموفوبية التي تنتمي إلى قرون سابقة، حتى أقل من اهتمامها بإيجاد صياغات جديدة للكراهيات القديمة!
فهل يمكن تطوير العلاقة نحو نظام مشترك يمثل حضارة إسلامية-مسيحية؟
بالرغم من صعوبة تحديد النسبة الحقيقية لتعداد الجاليات المسيحية التي عاشت في إسبانيا وشمال أفريقيا ومصر والشرق (أي النهاية الشرقية للمتوسط) والجزيرة العربية وإيران، لكن يكفي الإشارة إلى أن هذه المناطق ضمت ثلاثة، من إجمالي أربعة مراكز بطريركية (القدس والإسكندرية وإنطاكية) ، وأنجبت أغلب المفكرين والكتاب البارزين في المسيحية في عصورهم.
وعندما وقع الشطر الأكبر من إسبانيا في قبضة المسلمين عام 711م، كانت الغالبية العظمى من سكان أوروبا باستثناء إيطاليا وبعض المناطق المسيحية في فرنسا - أي أغلب سكان ألمانيا وبولندا واسكندنافيا والجزر البريطانية والأراضي المنخفضة وشمال فرنسا- كانوا لا يزالون يعبدون أربابا شتى ويعتقدون في تعدد الآلهة، إن لم يكن على المستوى العام، فعلى المستوى الخاص.
على النقيض من ذلك، كان من النادر وجود المؤمنين بتعدد الآلهة في أراضي الخلافة الإسلامية. فإلى الغرب من إيران، كانت الغالبية العظمى من الشعوب التي ضمها المسلمون تدين بالمسيحية أو اليهودية بصورة أو بأخرى.
وإذا انتقلنا إلى التحول في الهوية الدينية والاجتماعية، الذي حدث تدريجيا وعلى مدى قرون في إطار الإمبراطورية الإسلامية، فقد جرت عملية يمكن تسميتها بالـ "أسلمة"، وفي المقابل منها كانت عملية "التنصير" Christianization التي تمت في غرب وشمال أوروبا، لكن الإسلام واجه موقفا مختلفا وربما أسهل بصورة ما. حيث كان على المسيحيين اللاتينيين الاعتراف بالعديد من الممارسات التي ترجع إلى ما قبل المسيحية، بدءا من شجرة عيد الميلاد وحتى الاعتراف ببعض اللاهوتيين كقديسيين مسيحيين، خطبا لود غير المسيحيين في غرب أوروبا، لكنهم في الوقت نفسه عملوا على محو معتقدات وشعائر أخرى. في المقابل، كانت الغالبية من غير المسلمين، الذين أصبحوا رعايا في ظل الدولة الإسلامية، يتبنون بالفعل دينا كتابيا توحيديا. في هذا الصدد، يصدق القول بأن مواصلة محمد لمسيرة المسيح بعد ستة قرون قد عززت من إمكانية انتشار الإسلام بسهولة عن المسيحية اللاتينية. فأتباع الديانات الكتابية الموحدة كان عليهم أن يقطعوا مسافة أقصر كثيرا على المستوى الأخلاقي والعقائدي والتنظيمي حتى يتحولوا للإسلام، من تلك التي يجب قطعها من قبل الأوروبيين المخلصين لووتان وثور وجيوبيتر وايبونا وميركوري والعديد من الآلهة الأخرى حيث لم يطور معتنقوها دينا كتابيا مناظرا.
إن مسألة التسامح هي أحد بنود الجدل المعاصر في المقارنة بين الإسلام والغرب. فمنذ أمد طويل يعتبر المصابون بالإسلاموفوبيا أن الإسلام ذو طبيعة غير متسامحة لا تتغير لأنه يحرم اليهود والمسيحيين من المساواة الدينية الكاملة. في المقابل، يركز الرد الإسلامي على الفترات الطويلة من التعايش السلمي ذو الاستفادة المتبادلة على مدى القرون التي شهدت طرد المسيحية اللاتينية للأقليات اليهودية والإسلامية ثم الحرب بين الكاثوليك والبروتستانت.
وفي الوقت نفسه، عمل الإسلام على إقناع أتباعه بجدال معتنقي الديانات التوحيدية، ولكن بالتي هي أحسن، حتى يتخلوا عن طرق أسلافهم وينضموا إلى جماعة المسلمين. في حين كان منهج المسيحيين في أوروبا في محو عقائد الشرك إشهار أسلحة عدم التسامح الديني، والتي جاءت في شكل فرض المحظورات والطرد ومحاكم التفتيش والحكم بالحرمان الكنسي وتوجيه الاتهامات بالهرطقة، بما يعكس تفاوتا جذريا في فهم التسامح يبرز فيه النموذج الإسلامي.
وفضلا عن تشابه الدور الذي لعبه العلماء ورجال الدين في الحضارتين، تشبه الجامعات المسيحية التي ظهرت بعد ذلك بوقت قصير في المدن الأوروبية الرئيسية، المدارس العلمية الإسلامية بشدة سواء في تنظيمها وفي مقتربها الأكاديمي، حتى أن بعض الباحثين يذهبون إلى القول بحتمية وجود تأثير مباشر من هذه المؤسسات.
من فهم الماضي ..إلى استشراف المستقبل
نزع المسيحيون اللاتينيون إلى الانغلاق على أنفسهم خلال القرون المبكرة، فكانت معرفتهم عن الإسلام بسيطة جدا. كان المسيحيون الأرثوذكس، في المقابل، على دراية واسعة بالإسلام وشهدوا بتوجس ضياع الإقليم البيزنطي والانكماش المطرد في أعداد الجماعة المسيحية مع تسارع وتيرة التحول للإسلام. وقد وصف بعضهم المواجهة بين المسيحية والإسلام بأنها مواجهة بين الأخلاق والتقوى الحقة ضد فتنة الثروة والقوة واللاأخلاقية الدنيوية، وهذه بالضبط نفس الرؤية التي يتبناها الأيديولوجيون المسلمون في القرن العشرين للصراع الإسلامي-المسيحي. كان أباطرة بيزنطة قد تحملوا مسئولية الحفاظ على قوة المسيحية في الأراضي المجاورة لدولة الخلافة، وكانت أرائهم نادرا ما تلتقي مع أراء باباوات وملوك المسيحية اللاتينية، إلا أنهم تجاوزوا مسألة عدم الاتفاق فيما بينهم من أجل القيام بعمل مسلح مشترك ضد الحكم الإسلامي في الأراضي المقدسة. فأطلقوا صيحات التحذير التي لم تساعد فقط في تحفيز الحركة الصليبية، التي أسفرت عن أول اتصال مباشر بين الإسلام والمسيحية اللاتينية، بل وفي تعميق العداء فيما بينهما.
ففي الفترة بين 1095 و1250، شن الصليبيون اللاتينيون،بمساعدة البيزنطيين في أحيان متفرقة، سلسلة من الهجمات على الحكام المسلمين بالأراضي المقدسة، وأقاموا بصفة مبدئية أربع إمارات على الطرف الشرقي للبحر المتوسط، والتي كانوا يطلقون عليها "أعالي البحار". وعادة ما يعتبر التأريخ السياسي للحملات الصليبية رغبة القواد وحماسهم الديني بمثابة دوافع مسيحية رئيسية في استعادة الأرض، في حين تمت ترقية هؤلاء القواد إلى طبقة النبلاء على خلفية استعادة الأرض. كما جنت المدن التجارية الإيطالية، مثل بيزا وجنوة والبندقية، فوائد جمة على المستوى الاقتصادي، تركزت في الرسوم المفروضة على مرور الحملات الصليبية وفي التجارة المتنامية وقتئذٍ مع الأراضي الإسلامية. وفيما طغت سيرة المعارك والتحالفات في المرويات التاريخية، وفي المحكيات الأقل رسمية التي أنشأها المقاتلون الصليبيون، فقد شكلت المعاملات التي جرت في وقت السلم معظم فعاليات الاتصال الثقافي الذي حدثت في تلك الفترة.
ففي إسبانيا، التي شنت حملات مسيحية ضد الإمارات الإسلامية بالتوازي مع الحملات الصليبية، انتهز الدارسون المسيحيون لحظات السلم وقاموا بترجمة الكتب العربية إلى اللاتينية، ثم نقلوا هذه الترجمات إلى فرنسا وإيطاليا. كما توفرت ترجمة المخطوطات العربية واليونانية في صقلية، تلك المدينة الإسلامية التي ضمها غزاة من شمال فرنسا في العقود السابقة على الحملات الصليبية. أما في البلاد الصليبية نفسها وفي البلاد الإسلامية التي تم ضمها، فقد تعرف التجار الإيطاليون والنبلاء الأوروبيون، الذين أصبحوا من سكان هذه البلاد، على تفاصيل الحياة اليومية للمجتمع الإسلامي ونقلوا العادات والأفكار المحلية إلى مجتمعاتهم الأصلية عند عودتهم.
ونتيجة لوفرة المؤثرات القادمة من الأراضي الإسلامية خلال هذه الفترة، حدث تحول في العديد من مظاهر الحياة الأوروبية. وضمت المؤثرات الإسلامية العديد من المجالات، منها الفلسفة (شروح أرسطو)، اللاهوت (أعمال ابن رشد)، الرياضيات (الترقيم العربي)، الكيمياء (البارود)، الطب (تقنيات الجراحة)، الموسيقى (العزف على العود، وأغاني التروبادور في جنوب فرنسا وشمال إيطاليا)، الأدب (القصص التي تضمنتها الأعمال الأدبية الإيطالية)، التصنيع (الزجاج، والورق، والطباعة الخشبية)، الطهي (المكرونة، والسكر)، بالإضافة إلى وسائل الترف والتسلية في الحياة اليومية. وبالرغم من أن مناطق جنوب أوروبا كانت الأكثر تأثرا بالرؤى الفلسفية الإسلامية، إلا أن هذه الرؤى تغلغلت كذلك داخل الجامعات بشمال أوروبا،وإسبانيا وصقلية اللتين كانتا مركزا لنشاط المؤثرات الإسلامية. ويرى بوليت أننا إذا ما قمنا بإجراء مقارنة بين الافتقار إلى مناقشة المؤثرات الثقافية الإسلامية من جهة والوعي الغربي المفرط بالحملات الصليبية من جهة أخرى، يتضح لنا بالبرهان أن قراءة العلاقات المسيحية-الإسلامية باعتبارها قائمة على العداء بدلا من الإثمار هي قراءة مغرضة ومتحيزة.
وتتشابه أخلاقيات الأخوة الصوفية بصورة مدهشة مع أخلاقيات الحركات المتتابعة داخل المسيحية اللاتينية.ومن أهم صور التشابه بين الاثنين التفاني العام والزهد كتعبير عن الانصراف عن الشئون الدنيوية ، والتصوف، واستخدام اللغات العامية، والتنظيمات المدينية المتغلغلة في صميم الريف، واتخاذ الشخصيات الورعة المتاح الاتصال بها على المستوى المحلي كنماذج أخلاقية بدلا من طائفة العلماء ورجال الأكليروس المفرطين في الاهتمام بالنواحي التشريعية. وفيما أثبتت تلك الاستجابات للمطالب الدينية الشعبية نجاحها في ذلك العصر، فإنها لا تزال محكمة حتى يومنا الحالي. وفيما طابقت أعداد هائلة من التنظيمات الشعبية الإسلامية (وغالبا من ذوي التوجه السياسي الدوجماطيقي) بوعي أو بدون وعي نموذج الإخوانية الصوفية، فإن ما يوازيه في المسيحية هو الانتشار المعاصر للطوائف الجديدة، خاصة داخل البروتستانتية الإنجيلية.
لقد ظل المسلمون والمسيحيون أسرى لعداوة متبادلة منذ بداية القرن السادس عشر، لكن أحداث التاريخ حملت صراعهما إلى ميادين أخرى. ففيما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر، قام المغول والتتار بسلسلة من الاعتداءات التي عرضت مسلمي الشرق الأوسط إلى مؤثرات جديدة من وسط آسيا والصين، بينما في الفترة بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر تفتحت عيون الأوروبيين على سلسلة من الاكتشافات البحرية لعوالم مثيرة وجديدة في كل من أفريقيا وآسيا والنصف الغربي من الكرة الأرضية. هذه الخبرات شكلت المستقبل الاقتصادي والسياسي لكل من المسيحية الغربية والإسلام. فقد كافح الأمراء المسلمون اللاحقون على مدى قرون لاستعادة الأراضي الشاسعة والغنية من جانكيز خان، بينما أصبح الأوروبيون - فيما عدا روسيا التي خضعت هي الأخرى لخبرة الحكم المغولي- إمبراطورية ذات قوة بحرية.
إذا ما نظرنا إلى الإسلام والمسيحية معا، فسنجد أثر عقيدة التوحيد الكتابية في التقاليد السامية (نسبة لأبناء سام) واضحا. لكن إذا نظرنا بشيء من التوسع على الفترة الممتدة بين 1500 و1900، فسنجد اختلافات حديثة العهد فيما بين العالمين المسيحي الغربي والإسلامي. ومن المعتاد في الفكر التاريخي الأوروأمريكي الحديث اعتبار أن أوروبا انطلقت للأمام خلال تلك الفترة، بينما تركت العالم الإسلامي في ذل وهوان. وعادة ما يوصف مسار الإسلام في هذه القرون بأوصاف من على شاكلة "انحدار"، و"جمود"، و"رجعية"، وهو أمر موجع خاصة في ظل المجد الذي بلغه الإسلام في القرون السابقة، كما يتم التسليم بأن التباين في الثروة والقوة المادية الذي كان في صالح المسلمين قبل القرن السادس عشر قد تحول بشكل واضح لصالح المسيحيين الغربيين.
لكن ربما يمكننا النظر إلى هذه الأمور بطريقة أخرى. فبدلا من الاستعلام عن الغنى الإمبريالي، كان للفرد أن يسأل عن نسبة المسلمين المنحدرين عن أناس تحولوا إلى الإسلام في الفترة بين 1500 و1900 من إجمالي عدد المسلمين في العالم اليوم. هذه النسبة ستتجاوز بالتأكيد الـ 50% وتضم: الغالبية العظمى من بنجلادش وماليزيا وإندونيسيا؛ جماعات عديدة في أفريقيا جنوب الصحراء؛ معظم مسلمي باكستان والهند والصين؛ جزء كبير من المسلمين في أوروبا ووسط آسيا. على النقيض من ذلك، إذا ما تساءل الفرد عن النسبة التي يشكلها الرومان الكاثوليك والبروتستانت المنحدرين عن أناس تحولوا إلى المسيحية في الفترة بين 1500 و1900 من إجمالي عدد المسيحيين في العالم اليوم، فإن الإجابة ستكون بالتأكيد أقل من 20%، وستنخفض تلك النسبة كثيرا إذا ما استبعدنا المسيحيين في الأمريكتين وأستراليا وجزر المحيط الهادي، والثلث الجنوبي من أفريقيا ، حيث لم يواجه الأوروبيين في تلك الأراضي دينا يمكن اعتباره منافسا. لقد تنافس الإسلام والمسيحية رأسا لرأس على وجدان السكان الأصليين في الكتلة العمرانية الأفرو-أورو-أسيوية الشاسعة وفي منطقة جنوب شرق آسيا المجاورة، وقد حسم الإسلام الأمر لصالحه بلا جدال.
وعلى ذلك، إذا ما كان لنا اليوم أن نقيم نجاح نظامي الاجتماع- الديني المتنافسين على المدى الطويل، فسنكون بالتالي، وتبعا لإنجازيهما على مدار القرون الأخيرة، مجبرين على استنتاج أن الإسلام قد انطلق بحسم للأمام بين 1500 و1900، بينما "انحدرت" و"تجمدت" و"تراجعت" المسيحية الأوروبية في النهاية، بعد بداية نشطة.
فالفوز بقلوب البشر، كمؤشر على النجاح، كان له الأسبقية على الثروة والقوة منذ فجر المسيحية وحتى القرن التاسع عشر،وما زال الوضع كذلك إلى اليوم في دوائر المسيحية الإنجيلية. وبالطبع لم يحدث التحول في مجال مؤشرات التقييم نتيجة للتقدم الذي أحرزه الإسلام على المسيحية في مجال نشر الدين. فلا يجب أن ننسى أن المسيحيين نزعوا إلى اعتبار الإسلام شكلا من أشكال البربرية، وادعوا أن نجاحه مستمد من سطحيته العقيدية ومن تسهيله للشرك. لكن فعالية الدعوة الإسلامية خلال الفترة المسماة بالانحدار، في مقابل ركود الدعوة المسيحية، ليس بالأمر المشكوك فيه. كما لا يمكن إنكار أن النجاح الهائل لكل من الإسلام والمسيحية في أن يصبحا الدينين المهيمنين عالميا خلال القرون الخمسة المنقضية يمثل ظاهرة تاريخية فريدة.
الفارق بين أطروحة "صراع الحضارات" و"أطروحة الحضارة الإسلامية-المسيحية" أنه وفقا لأطروحة "صدام الحضارات"، فإن الغرب (اليهودي-المسيحي) كان وسيظل دائما في تضاد مع الإسلام. ووفقا لنموذج "الحضارة الإسلامية-المسيحية"، فإن الإسلام والغرب هما توأم تاريخي لا يمنع افتراقهما في المسار من الوعي بالمشتركات بينهما. وأفضل طريقة لإثبات ذلك هو التساؤل حول ما إذا كان ثمة اختلاف حقيقي اليوم بين المجتمعات الإسلامية والغربية على تنوعها.
إن ثمة تطابقا في نظرة كلا المجتمعين إلى بعضهما البعض. فالمتخصصون الأمريكيون في الإسلام يصورون الإسلام الثوري على أنه الصوت المهيمن في العالم الإسلامي، ونادرا ما يعترفوا بوجود أصوات ليبرالية. في الوقت نفسه، يرون أن "اليمين الديني" الأمريكي شيء مختلف تماما: فهو قوة أخلاقية من أجل الخير إذا كانوا هم أنفسهم ينتمون إلى ذات المعسكر، أو هو ظاهرة ضالة ومعادية للديمقراطية لا يمكن تفسيرها. على الجانب الآخر، نجد أن المحللين المسلمين، سواء إسلاميين أو علمانيين، يرون أمريكا أرضا علمانية للخطيئة وللاتجار بالقيم وللسطحية، ويبدون كمن لا يدرك بالكلية الطيبات محل الإعجاب التي يمارسها الأمريكيون في حياتهم اليومية. ولا يجد العلمانيون والإسلاميون أي فائدة تذكر من "اليمين الديني" الأمريكي خاصة في ظل الود الذي يجمعه بالصهيونية. وفيما يخص مجتمعاتهم، نجد المسلمين الليبراليين يتأسون لوجود الإسلام المسلح ويتمنون رحيله، بينما يرى الإسلام الثوري الليبراليين المحليين كعملاء للنفوذ الأمريكي أو محرضين على الدكتاتورية. والسائد أن كلا الشقيقين لا يبدو قادرا على رؤية نفسه وتوأمه بطريقة شاملة ومتوازنة، لأن كلاهما غير مؤهل للتعرف على نفسه في المرآة.
وأخيراً إذا ما انتقلنا من التشابهات في التطور داخل المذاهب والمدارس للتطور التاريخي لدور الدين في المجال العام وبخاصة لجدل العلمانية الحديث والمتجدد في الغرب والقلق بشأن ارتباط الدين بالدولة في الخبرة الإسلامية، سنجد أن العلمانيون الغربيون –خاصة في مجال الدراسات الأكاديمية- يؤيدون بتعاطف شعار فصل الكنيسة عن الدولة كشرط لنهضة العالم الإٍسلامي من ناحية وإمكان التواصل والتعاون معه من ناحية أخرى.
هنا علينا أن ندرك أن هناك اختلافات في التطور التاريخي للحضارات، وأن هذا الاختلاف لا يمكن القفز فزقه وليس من المفيد السعي المحموم لإلغاءه، فلم تحدث تلك القطيعة بين الكنيسة والدولة في الإسلام. وفي حين ظل القانون الإسلامي ذي صلاحية كونية ودون تحدٍ، على المستوى النظري، تقهقر القانون الكنسي الكاثوليكي أمام الإرادة الملكية فيما بعد اتفاقية ويستفاليا التي أسست الدولة القومية في القرن الـ17، ولم يتوصل البروتستانت أبدا إلى فلسفة قانونية شاملة خاصة بهم.
وختاما يؤكد بوليت على أننا إذا ما أمعنا النظر في العالم الإسلامي-المسيحي، في إطاره الكلي ومن وجهة النظر التاريخية، نجد أن ما يربطه أكثر بكثير مما يفرقه. ولا يمكن فهم ماضي ومستقبل الغرب بصورة كلية إذا لم نقدر علاقة التوأمة التي جمعت الغرب بالإسـلام طيلة أربعة عشر قرنا، والقول نفسه يصدق بالنسبة للعالـم الإسلامـي. إن الدعوى خلف صك مفهوم الحضارة الإسلامية-المسيحية كمبدأ تنظيمي للفكر المعاصر تضرب بجذورها في الحقيقة التاريخية التي تفيض بها تلك القرون. ويأمل بوليت في أن يدرك مؤرخو الحضارة الغربية والإسلام القيمة المضافة من إعادة ضبط وجهات نظرهم بحيث تأخذ بعين الاعتبار هذه الحقيقة ودعوى الحضارة الإسلامية-المسيحية تتأسس بشكل مباشر على التنبيه لحاجة الأمريكيين كافة إلى إيجاد أساس مشترك مع مسلمي الغرب في وقت يهدد فيه الشك، والخوف، والديماجوجية العلاقة بينهم. فالحضارة الإسلامية-المسيحية هي مفهوم يقدم فرصة تاريخية لتحقيق الاندماج الديني والاجتماعي داخل الغرب، وبين الغرب وعالم الإسلام في زمن العولمة.
لمزيد من التعمق راجع كتاب ريتشارد بوليت:
Richard W. Bulliet, The Case for “Islamo-Christian Civilization”, N.Y.: Columbia University Press, 2004.
________________________________________
**باحث مستقل – ماجستير في العلوم السياسية
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)